إن جمالية الذهاب بسلطة الشعري إلى مداها الأبعد من سلطة العقلي، هي تلك النزهة الممتعة والفرحة التي لا يمل الكائن من اختبار فعالياتها. إنها أيضا النزهة السرية التي يلتقي فيها الكائن بجذوره، بأضوائه الخافتة، وبظلال أسئلته الحتمية التي أوشكت أن تجهز عليها شمس الادعاء المعرفي مهما تسامقت درجات ومستويات المعرفة الدقيقة التي تحققها التقنيات الحديثة في سلم التطور والتقدم المعرفي والعلمي ومهما أقنعنا الكائن بكفاءاته العالية في إسقاط المزيد من الحجب المسدلة بينه وبين حقائق الكون وأسراره، فإنه سيظل أبدا، أمينا ومخلصا لتلك الأصوات العتيقة، والبدائية، وإن شئت، الماقبل تاريخية، المتأصلة في جينات ذاكرته، والتي يدرك بحدسه اليقظ ثراء رمزيتها إلى جانب ملحاحية حضورها في مقارباته اليومية لاهتماماته الصغيرة والكبيرة باعتبارها مناجم غنية وسخية بمعطاءات هباتها الخامة، خاصة بالنسبة للكتابة الإبداعية والفكرية التي تجد ضالتها الأثيرة في التردد على عوالم هذه الأصوات الغامضة والمترعة بوهج دهشتها وغوايتها ،بالنظر إلى كونها مراجع أساسية يعتمدها الكائن في منهجة آلية فهمه وتفسيره و تأويله لما استعصى عليه من إشكاليات، حيث يبادر بالميل إلى تلك الجهة المعتمة فيه، كي تسعفه بما يبدو بعيدا عن متناول العقل وعن بداهات المنطق. ومن المفارقات الغريبة في هذا السياق أن الكائن ذاته يرى في غير قليل من الكشوفات العلمية المتطورة، ما يزكي رؤيته الشعرية-ولا أقول الخرافية-والأسطورية للذات والعالم. ذلك أن «ما لا تتم الإحاطة به» و»ما تعذر فهمه»، يظل محتفظا بحضوره الغائم، المتجدد والكبير بيننا، وهو ما يعني استمرار الكتابة في ممارسة ازدواجية طرائق تفسيرها، وتأويلها لحقائق الوجود على أرضية كلٍّ من الرؤية الشعرية والتجريبية على حد سواء، حيث يعني استحضار الكتابة لهما معا، وفي سياق تناولها واختبارها ل «ما لم تتم بعد الإحاطة به‘‘ ،عدمَ مفاضلتها بين الرؤيتين، كما يعني، إمكانية تكاملهما وتواصلهما العميق والجدلي، بفعل اندماجهما وتفاعلهما التلقائي، في رحابات فضائها، حيث يتم ردم تلك الهوة النظرية الفاصلة عادة بين خصوصية كل منهما، بما يسمح ببلورة خيمياء مشتركة لا يشوبها أي أثر لجفاء أو قطيعة. ذلك أن كلا منهما يكون مهيأ هناك لأن يفضي للآخر بحميمية كشوفاته وأسرارها وبخصوصيات عناصره ومكوناته بما هي خصوصيات أسئلة وخصوصية اجتراحات. إنهما معا يتصالحان ويتنازلان عن تحفظاتهما التقليدية تجاه بعضهما كما أنهما يتواطآن على التأقلم مع عقلانية الشعر كما مع شعرية العقل بغاية استحداث مسالك جديدة قادرة على استشراف آفاق ما لم يكن متوقعا من قبل، وما كان في حكم الاستحالة التي تتعطل معها آلية كل فهم أو تأويل. إن جمالية الذهاب بسلطة الشعري إلى مداها الأبعد من سلطة العقلي، هي تلك النزهة الممتعة والفرحة التي لا يمل الكائن من اختبار فعالياتها. إنها أيضا النزهة السرية التي يلتقي فيها الكائن بجذوره، بأضوائه الخافتة، وبظلال أسئلته الحتمية التي أوشكت أن تجهز عليها شمس الادعاء المعرفي. النزهة التي يستعيد فيها الكائن حريته، بعيدا عن فضول عين الرقيب، حيث يستطاب النزول إلى الطبقات السفلية من لا وعيه الجماعي، من أجل تفقد كائناته الحجرية، وهي تنتشي باستعادة إيقاع يقظاتها والتحاقها بالحي، وبالمتحرك. إن»ما يتعذر فهمه» يتميز بتتالي انتقالاته، وارتقاءاته المتتالية من الأكثر بساطة إلى الأكثر تركيبا، والأكثر تعقيدا وهكذا دواليك وهو ما يعني وجوب تجدد إواليات الفهم والإدراك كما يعني أيضا التدرج بالسؤال وبهواجس البحث وإشكالاته الأكثر تعقيدا بين المراتب والمقامات. وكلما تضاعفت هذه الإشكاليات كلما ازداد الإقرار بأهمية النزهة باعتبارها شكلا من أشكال الاستئناس بظلال ما يعاش، واغتسالا حتميا في مياه المكاشفات العميقة. وبموازاة تقدم السؤال باتجاه مجهوله ،تضاعف الكتابة من تغيير استراتيجياتها وانتظاراتها، ومن توسيع مساحات أراضيها، بتسليطها المزيد من الضوء على الأكثر بعدا والأكثر كثافة، أي على ما لم تتم بعد الإحاطة به. لكن ومع ذلك، ينبغي التذكير بإمكانية استبعاد الحديث عن أية استحالة في أرض الكتابة إلى جانب استبعاد قناعة التقيد بسلطة الجاهز والمعطى ذلك أن حركيتها تتحدد أساسا في اختراقها المنهجي لكل تلك الخطوط الحمراء التي يحدث أن يضعها العرف أمامك أو أمامها. كما أن حضورها الفعلي لا يتحقق إلا من خلال تجاوزاتها الدائمة للخطوط ذاتها باتجاه تلك التخوم التي تتعدد فيها أشكال القيامات والانقلابات والانهيارات إلى جانب تلك المواسم المعلقة بين الأرض وبين السماء. خارج هذه الخطوط أيضا يقع ما يحتمل حدوثه دائما، أي ما تحلم اللغة الأخرى بوقوعه أو بأمل إبعاده نفيا لاستبدادية سلطة أو تسلط قدَرِ. وعلى النقيض من الذوات التي تعاني من ارتعابها الدائم لقسوة وصرامة هذه الخطوط فإن الكتابة تتقدم باتجاهها كي تمحوها بالكامل ممارسة بذلك فتنة ورعونة الخلط،،بمعنى التنشيط الشرس لآلية مزج الداخل بالخارج المحتمل باستحالاته، و المتوقع بما لم يفكر بعد بفكرة الحلول فيك أو خارجك. هكذا إذن ،يجوز القول بانعدام أية قطيعة بين راهن ما يدرك، وبين محتمله، لأنهما معا يتجاوران ويتماسان فيكون كل منهما مرآة للآخر في حالة ارتعاب وتوجس منه، أو استئناس به، غير أن الكتابة لا تكتفي بتحقيق هذا التجاور وهذا التحاور، بل تقوم بصهرهما معا في بوتقة واحدة، حيث يتحرر الجوار من برودته، ومن نسبية حياديته، كي تتحرر الأمواج من قيود تلك الثنائية المجسدة في تقابل الضفتين المتنكرتين لبعضهما ،و كي يتحقق ذلك المزج الخلاق بين إيقاعات أكثر من صوت، وبين ظلال أكثر من صورة. طبعا ليس للخيوط الناظمة للأضداد، أن تكون مكشوفة للرؤية المجردة، واضحة، وبادية للعيان لأن أهميتها لا تكمن فقط في سريتها وفي حتمية اختفائها المتوقع، ولكن- وهذا هو المهم-في طيها المحكم لما لا ينتهي من مسافات القول والتحبير، وأيضا في ربطها الممنهج والمُعَلَّل بين نقط الدلالات الأكثر تباعدا وتنافرا في مساراتها. والنقط هنا قد تكون علامات دالة على رحابات فكرية وفلسفية، كما قد تكون علامات دالة على رحابات فنية و إبداعية. وبقدر ما يشتغل هذا الربط و هذا الوصل على مستوى مسافات القول ومساراته، بقدر ما يشتغل أيضا على مستوى تفكيك الدلالة وإعادة تركيبها أو محوها بالكامل من أجل إعادة إنتاجها وقد أمست متوجة بتواطؤ اختلافها. فالوحدة الدلالية التي تبدو في الظاهر متبرئة من غيرها قد تكون مقترنة وملتحمة بها من جهة الظاهر كما هي من جهة الباطن،وبأكثر من سبب. هذا الترابط العلني والسري الذي تنتظم فيه بالقوة والفعل أكثر العناصر تناقضا وتباينا، هو الخيط المفضي لشعرية «ما لم تتم الإحاطة به» باعتبارها المجال الأثير الذي يروق للكتابة أن تقيم فيه، وأن تعتمده كنقط ارتكاز تسمح لها بممارسة نشوة الاقتراب من تلك المساحات الغامضة التي تندرج فيها مكونات الوجود وعناصره، ضمن ما تتميز به من علاقات، وتواشجات فيزيائية و كيميائية، هي ومن حيث الجوهر على درجة عالية من التفاعل والتركيب. حضور هذه الخيوط السرية لقادرة على تحقيق ذلك التواصل المستحيل بين العناصر الموغلة في تنافرها و تضاداتها، يدعونا إلى مقابلتها بذلك الاندماج المعترف به عادة بين ما درج العرف على اعتباره مؤتلفا ومتناغما. وهي مقابلة مدعمة بأسئلتها الهادفة ضمنيا إلى التأكد الفعلي من حقيقة هذا التناغم الذي لا يكون في حقيقة الأمر، سوى الامتداد الطبيعي لهندسة قابلة في أية لحظة، لأن تجاهر باختلال بنيانها، وبحضور تصدعات كفيلة بهدمها.علما بأن حضور الكون، لا يتحقق إلا عبر تلك التواصلات العميقة والعضوية القائمة بين أسمائه وبين صفاته، وعبر تبادل النداءات وتبادل الإضاءات. تبادل الرغبة في المحو وتبادل الرغبة في التثبيت. إنها التواصلات الأساسية القائمة في صلب الاختلافات الكبرى وفي قلب تلك المحيطات الهادرة التي ترتطم فيها قبائل الأضداد والتناقضات ببعضها حيث تفسح الكتابة مجالها الاستثنائي للتواجدات والإطلالات اللامتوقعة، الصادرة عن الأجرام المحتجبة في قلب عتماتها، والتي ليست شيئا آخر، عدا ذلك ‘‘الْماتَعذَّرَ فهمه‘‘ وقد أوشك أن يجاهر بظهوره وتجليه، فور استئناسه بحضور وهج الرؤية، وفور تأكُّدِه من ملحاحية ذلك العناد المعرفي، الشغوف بالسير على حافات السؤال. لذلك فإن كل ما تحرص الكتابة على الإشارة إليه، سيكون بمثابة علامة موحية بحضور علامات لا منتظرة، ولا متوقعة في مسارات الوجود وفي منعطفات الكينونة .علامات قد تكونُ أنت أعرضْتَ عن رؤيتها، أو التفكير في دلالتها من قبل حيث أنت-ربما- محاصر بسلطة تلك الجدران الحتمية الفاصلة عادة بين المرئي و اللامرئي، بين ما تمت الإحاطة به، وبين ما تعذر فهمه.. بين ما انتهى وجوده هنا، كي يعلن عن بدء تجليه وتمظهره هناك.