بعد «هدنة قصيرة» مع الموت، يعود ليخيم من جديد على مناجم عوام، ضواحي مريرت بإقليم خنيفرة، حيث عاشت هذه المناجم، صباح الثلاثاء 15 دجنبر 2015، على فاجعة مصرع عامل شاب، في عقده الرابع، يدعى قيد حياته الداودي الشكدالي، ويعمل بإحدى مقاولات المناولة المتعاقدة مع شركة «تويسيت» المستغلة للمناجم المذكورة، وهو من أبناء حي احساين بمريرت، أجبره القدر على العمل بهذه المناجم لإطعام أسرته، لينضاف إلى قافلة «رجال في الظل» ممن عُجنت أرواحهم بمعادن أعماق الأرض. وتفيد المعطيات الأولية، أن الضحية لقي حتفه اختناقا بأعماق منجم إغرم أوسار، جراء استنشاقه لغاز قاتل من مخلفات مادة الديناميت المستعمل في شق الأنفاق، والذي استخدمه العمال الذين اشتغلوا ليلا، ونتيجة لنقص الأوكسجين بالمكان المغلق، وقع المعني بالأمر في غيبوبة تامة فارق بعدها الحياة، في حين نجا آخرون بأعجوبة، وبعد قيام الشركة بحرق ملابسه لأهداف غير مفهومة، تم نقل الضحية الداودي الشكدالي نحو المستشفى الإقليمي بخنيفرة، على متن سيارة نقل الموتى المملوكة لشركة «تويسيت»، للقيام بالإجراءات المعمول بها في مثل هذه الحوادث، قبل إعادة المعني بالأمر لمريرت حيث تم تشييع جثمانه في موكب مهيب. ومن البديهي أن المتتبعين يعلمون جيدا عدد العمال الذين تساقطوا، إما جرحى أو قتلى، بمناجم عوام التي تفتقر لشروط الصحة والسلامة والتهوية، إذ وفي فترة وجيزة عرفت هذه المناجم الكثير من المآسي، كمصرع العامل محمد توفيق، نتيجة انفجار أرضي لحظة معالجته مدخنة تحت الأرض، وعبدالله هاشمي، الذي لقي حتفه إثر إصابته بصعقة كهربائية وهو على متن ما يسمى ب «السكوب»، وسعيد الزمزمي الذي لقي حتفه اختناقا في انهيار شحنة من الأتربة والأحجار على جسده، ومصطفى فوغالي، الذي لقي مصرعه أيضا في سقوطه بنفق أرضي عمقه حوالي 60 مترا، ثم عصام الراجي الذي لقي حتفه إثر صعقة كهربائية أصابته بباطن الأرض، والسيد الحسين أوناصر والسيد حميد فتوحي اللذين لقيا مصرعهما في سقوط مصعد أرضي في عمق حوالي 150 مترا تحت الأرض. وككل مرة ،حين يسقط فيها قتلى أو جرحى بمناجم عوام، قام مسؤولون من إحدى المصالح الإقليمية المعنية بالمناجم، بزيارة مكوكية لمنجم عوام من أجل معاينة تفاصيل الحادث، يتقدمهم أحد المهندسين ممن سبق لهم الاشتغال بالشركة المسؤولة عن المناجم المذكورة، ومن المؤكد أن هذه الفاجعة ستمر في صمت كغيرها من المآسي التي شهدتها «مناجم الموت» بعوام,وليس من المستبعد أيضا ،أن يتم غض الطرف عن وجود عامل متقاعد بين «ضحايا الاختناق»، يشتغل لدى مقاولة المناولة رغم علمها بتقاعده بذات المنجم، مع الإشارة إلى أن وزارة الطاقة والمعادن سبق لها أن أوفدت عناصر لهذه المناجم من أجل التحقيق والتحري الميداني في مكامن الخلل لكن دون الوصول إلي أي نتيجة . لعنة «حوادث مناجم عوام» بإقليم خنيفرة، التي تتواصل بشكل مثير للألم والجدل، تدعو إلى تدخل الجهات المسؤولة والقضائية بشكل جاد و سريع، من أجل فتح تحقيق شامل في الأوضاع القائمة بهذه المناجم، وفي ملابسات هذه الحوادث المميتة، لتحديد المسؤوليات وإعمال مبدأ عدم الإفلات من المحاسبة والعقاب، والمطالبة بالوقوف الجدي والميداني على الظروف الاقتصادية والاجتماعية لأسر الضحايا والمصابين ودعمها، مع تحسين الوضعية المادية والمعنوية للعمال، واحترام النزاهة في الترسيم، والإنكباب الفوري على متابعة أوضاع العمال ومدى احترام الشركة المنجمية للمقتضيات المنصوص عليها في مدونة الشغل، وقانون العمل بالمناجم والاتفاقيات والمواثيق الكونية. وسبق للأوساط المتتبعة أن تناولت أكثر من مرة، موضوع الأوضاع المأساوية والحوادث المؤلمة والضغوط النفسية والمعنوية التي يشتغل فيها عمال مناجم عوام بإغرم أوسار وسيدي احمد، والذين يتجاوز عددهم ال 600 عامل يشتكون من انعدام الحقوق والشروط المعنية بالصحة والسلامة والتأمين الاجتماعي، ويعانون من استمرار تشغيلهم بالمناولة أو بأجور مخجلة لا تتناسب وظروف الاستغلال والجشع الممنهجة ضدهم بأشكال مفضوحة و سافرة.