عندما نقرأ ما يكتب عن الأحداث التي تعيشها مجموعة من الدول العربية، يسترعي اهتمامنا تنوع في التعاطي مع ما يجري في تونس أولا، ثم مصر حاليا. قد نتفهم منطلقات بعض التحاليل الغربية التي أربكتها الأزمة المالية المفاجئة وانعكاساتها على الاستقرار الاجتماعي بداخل دول كانت إلى أمد قريب تعتبر نموذجا للرخاء الاقتصادي المحقق في ظرف وجيز. وكمثال على ذلك وضعية اليونان وإسبانيا والبرتغال، واللائحة قد تطول، هذه الدول وغيرها أصبحت تشكل قلقا يوميا لصناع القرارات المالية في مؤسسات وازنة تخاف على اقتصاديات هذه الدول من الانهيار. ما يهمنا من هذه التوطئة، هو أن الإعلام الغربي ومعه بعض المؤسسات المختصة بالدراسات الإستراتيجية، أصبحت تفاجأ يوميا بهشاشة الوضعية الكونية لدرجة أنها لم تكن تتوقع انفجار بلد كتونس، اعتبره الغرب مثالا لتجربة استطاعت، حسب هؤلاء، القضاء على المد الإسلامي بأجوبة اقتصادية محضة. وما قراءة وزيرة الخارجية الفرنسية للأحداث في هذا البلد، لا سيما في بداياتها، حيث أكدت أن النظام التونسي قوي، وأنه في حاجة فقط إلى تقنيات أمنية عصرية قادرة بمهنية واحتراف قمع المتظاهرين دون المساس بأرواحهم. نفس الارتباك الإعلامي سقطت فيه بعض المنابر الفرنسية، التي عادة ما تستعمل نفس الخطاطة وكأنها صالحة لكل زمان ومكان. ربما أهدافها وخلفياتها لا نستطيع نحن معرفتها، لكن المؤكد هو أن هدفها المباشر هو التأثير على النخب الاقتصادية لاسيما المستثمرين وأصحاب المصالح الذين غامروا بأموالهم خارج بلدانهم رغم اختلاف العوامل الجغرافية والثقافية بحثا عن فرص وأسواق جديدة. من بين هذه المنابر ما صدر في مجلة «نوفل أوبسرفاتور» الذي يستحق منا قراءة متأنية وعميقة لفهم دلالات الإشارات غير المكتوبة، والموجهة أساسا إلى الأوساط المؤثرة والمهتمة بالمنطقة المغاربية. عاديا أن يقوم مجموعة من الصحافيين والمفكرين بتقديم قراءتهم لما جرى ويجري، لكن الالتجاء في هذه الفترة بالضبط إلى البحث عن تصريح/قراءة لشخصية لها وضعها من حجم الأمير مولاي هشام، يقتضي منا الجرأة وتحمل المسؤولية لتوضيح مجموعة من الخلفيات قد يؤدي السكوت عنها إلى اللبس والغموض في ذهن بعض العقليات، التي تراقب وتنتظر الفرصة لترجمة رؤيتها على أرض الواقع. تابع ص 1 المقارنة بين تونس والمغرب تختلف من حقل لآخر، هناك تشابه في المجال الاقتصادي، في حين أن الحقل السياسي في كلا البلدين يعرف اختلافا جذريا، فباعتراف كل الملاحظين حتى التونسيين أنفسهم، السيطرة البوليسية في أسوأ مظاهرها كانت هي السمة الغالبة طيلة العشرين سنة الماضية، فباستثناء هامش نقابي محدود، كل التحركات مرفوضة، لدرجة يحس المرء وكأنه في بلد خاضع لمراقبة لصيقة تحصي أنفاس المواطنين طيلة اليوم وبدون انقطاع. الوضعية في الجزائر تختلف عن تونس والمغرب، في الجزائر هناك نظام عسكري ، فالمدنيون يحكمون بشكل صوري، كل القرارات السياسية والاقتصادية تصنع في دهاليز المؤسسة العسكرية، من يخالفها يتعرض للتهميش، استراتيجية حكامها هو خلق توترات إما داخلية (الصراع مع الإسلاميين) أو خارجية (قضية الصحراء المغربية)، كل ذلك لتبرير تواجدها مادام أنها لا تملك المشروعية القادرة على إعطائها مبررا للوجود. فلا هي حاملة لمشروع مجتمعي يرتكز على التنمية لخدمة المواطن، و لا هي قادرة على فتح مجال حقيقي للديمقراطية والتعددية بعيدا عن ترهيب وتخويف المواطنين بعدو مفترض داخلي (الإسلاميين) وخارجي (المغرب). التعامل مع السياق المغربي بانتقائية وإسقاط هو بمثابة قفز على مراحل، منذ بداية الاستقلال لم يستطع المغرب إيجاد صيغ وآليات متوافق عليها لبناء دولة المؤسسات، وقعت خلافات جوهرية بين المؤسسة الملكية وجزء من الحركة الوطنية. بالرغم من كل التناقضات واللحظات الصعبة، لم تكن شرعية الملكية محط نقاش، بل طريقة تدبير مشروع بناء الدولة هو الإشكال الذي كان مطروحا، مر المغرب بمراحل صعبة، كادت أن تعصف باستقراره، لولا حكمة وتبصر نخبه السياسية بكافة اتجاهاتها التي كانت رغم قساوة التعامل معها تفضل في كل منعرج صعب النضال وتأدية الثمن من أجل قناعاتها، على أن يبقى الوطن مستقرا بعيدا عن الفتن. قطعنا أشواطا عديدة نتحمل مسؤوليتها جميعا كل من موقعه، اخترنا كمغاربة الاعتدال والواقعية في التعاطي مع كل التحديات، اتفقنا على ثوابت جعلناها محط إجماع واعٍ ، نعتبرها مرتكزا نستمد منه قوتنا، أولى هذه الثوابت، ملكية مرتبطة بالشعب لها شرعية الدفاع عن وحدة الأمة وسيادتها، هذه الأخيرة حريصة على ارتباط المغاربة بقيم الإسلام الوسطي المعتدل، الذي شكل عبر التاريخ مدرسة للاجتهاد و مسايرة كل التحولات بدون قطيعة أو تطرف، ثم تعددية سياسية بالرغم من نواقصها، كانت سدا منيعا ضد ثقافة الحزب الوحيد، بل فرضت هامشا، رغم أنه كان ضيقا، ساهم في خلق مكتسبات، استطعنا بفضل وعينا الجماعي تطويرها إلى مشروع لازال في حاجة إلى الإغناء. من هذا المنطلق، الإسقاطات في التعامل مع الأزمات السياسية في بعض الدول العربية الشقيقة مثل تونس ومصر، هي مقاربة تبسيطية خطورتها تكمن في قدرتها على القفز على الإشكالات الحقيقية لتقديم أجوبة في شكل حلول هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. نعم المغرب في حاجة ماسة إلى جيل جديد من الإصلاحات السياسية، يكون من مهامها إفراز مؤسسات قوية كفيلة بضمان تمثيلية حقيقية، مادام المواطن يعتبرها ترجمة لاختياراته و قناعاته، إصلاح حقيقي للقضاء كركن من أركان تحصين و تجذير الديمقراطية، تقوية دور الإعلام بعيدا عن كل التأثيرات والمصالح الضيقة، إذ لا ديمقراطية بدون إعلام قوي له القدرة على تأطير المواطنين، الاستمرار في التعبئة من أجل محاربة الهشاشة الاجتماعية إحدى النقط السوداء الموروثة عن مراحل التوزيع السيئ للثروات. هذا جزء من رهانات المستقبل، المغرب يتسع لكل أبنائه، لا أحد يملك الحقيقة المطلقة كيفما كان موقعه، قوتنا تكمن، عبر التاريخ، في قدرتنا على إبداع حلول ممكنة في اللحظات الصعبة.