ماذا لو تصالحنا مع الأب ومع الطفل الذي كناه في نفس الوقت؟ ماذا لو استرجعنا تلك الأخطاء التي ارتكبناها ونحن أطفالا ووضعناها في علب صغيرة وتصالحنا معها؟ تلك الأخطاء التي صورها لنا الأب (أو الأم) لم تكن في الحقيقة إلا تجاربنا في طريق التعلم، بعيدا عن الرتبة الأولى في الصف، بعيدا عن الطرق الجاهزة. أعتقد أن هذه هي الرسالة التي يخلص إليها الفيلم الأخير للمخرج المغربي محمد مفتكر، الذي عنونه ب «جوق العميين». العمى البارز في العنوان، هو عمى مخادع وهو في نفس الوقت عمى البصيرة. الأول هو فلتة الفيلم الطريفة «جوق العميين»: فرقة العازفين فاقدي البصر التي تعزف في حفلات النساء المصونات اللواتي يرقصن بغنج إذ تغيب أعين الرجال. والعمى الثاني هو الجهل باللحظة السياسية، انخراط في الملذات الصغيرة، تجاهل للفساد (أم أنه تواطؤ معه؟) وهو خاصة: الصمت. المهم هو أن ينفذ الشخص بخبز يومه. السياسة هي موضوع الخلفية في فيلم محمد مفتكر، وهي ركيزة الفيلم في الآن نفسه. منذ اللقطة الأولى حيث تبدو صورة الملك بارزة، وحتى المشهد الأخير وذاك الحوار الخلاق والبهي بكل تفاصيله، بين الأب والإبن حول السياسة. وحيث يفاجئنا الطفل برفض الإنصياع لطلب الأب. لقد كبر وجرب الكذب ولم ينجح. لا يطأطئ «ميمو» الرأس بل يرفعه ليلقن والده الدرس الأخير. ثم في مشهد خلاق آخر، يتماهى مع ذكرى العم ويتقمص دوره في تقليد الكوميدي الأشهر شارلي شابلن. ذاك العم الثوري الذي اختفى. كما كان يختفي الناس في السبعينيات. والفيلم غير معني بأن يعطينا تفسيرا لذاك الاختفاء، وغير معني بأن يقترح لنا مآله. نحن نعرف أن هذا الاختفاء يحيلنا على ملفات لم يحسم فيها إلى الآن. سننتظر فيلما آخر –ربما- لنسر بعودة المختفي، أو نحظى بقبر نضع فوقه قفصة ريحان. العم المختفي هو المعلم والأب الثاني لمحمد الطفل. أنا لم أكن يوما الأول في صفي، يقول متواطئا مع ميمو ضد الأب والأستاذ والمدرسة. ربما لذلك أصبح الطفل هو البطل الحقيقي في فيلم «جوق العميين « بعينيه المبهرتين ووجهه البارع في محاكاة الدور: يحزن بخفة، يبتسم بإشراقة، ويعشق بألق لا متناهي. بطل بكل التطلعات الممكنة. بطل يصدق المستحيل؛ يريد فرصة للحياة وللتعلم وللحب، فينجح في خلق فرجة فاتنة لأجل المشاهد. فيلم جوق العميين ليس فقط حكاية تعلم ميمو، بل هو حكاية مرحلة من تاريخ المغرب. الطفل لم يكن محايدا. لم يكن صغيرا ولا يفهم. كان يرى ويتعلم من الحياة نفسها، من أسرته ومحيطه ومن تأثير الفترة التاريخية، أي بداية سبعينيات القرن الماضي. لذا نجد ميمو/ محمد يروي لنا قصة والده الذي ظل منبهرا بالفرنسيين الذين نشأ بينهم. وهو انبهار غير بريء. أن تنبهر بالمستعمر يعني أنك خاضع لفكرة الغريب القوي، خاصة عندما نلاحظ أن ما تعلمه الأب من الفرنسيين لا يعدو أن يكون «مظاهر» للتحضر؛ الأكل بالشوكة والسكين وباليد اليسرى طبعا. الأب الأمي لا يستطيع سوى أن يعيد إنتاج الظاهر، وهو يغفل عن العمق: عن الحرية والديمقراطية حتى وإن تعلق بالتعلم كفرصة يقدمها لطفله وهو لا يقبل منه إلا الرتبة الأولى. أنت أكثر حظا مني يقول الأب. أنا أدين لك بكل شيء، أنت تدين لي بشيء واحد: أن تتعلم. ولكن الطفل يخطئ لأنه طفل، لأن الرتبة الأولى التي يريدها والده لا تثير خياله وجوانحه أكثر مما تفعل ذلك شامة حبيبته، ولا أكثر من دهشته أمام عالمه الصغير، حيث الموسيقى والحب والخيانة والسياسة. إنه عالم صغير مركب، إنه مدرسة كاملة. عينا الفتى تتابعان الأحداث. هناك أشخاص كثر حوله. أبطال بسطاء يتشاركون كل الفرح والقلق والحزن. وحده العم يبدو واعيا بإرهاصات المرحلة التاريخية ومنخرطا في أحداثها. في غرفته صورة ماركس التي تمسح عنها حبيبته الغبار في مشهد بليغ. ولأن العم منبهر بالأمل، بفرصة التغيير، بالحرية والديمقراطية، فإنه يصادق الفتى ويمثل بالتالي له مثلا أعلى، سيقلده ميمو وهو يحب شامة. لكن هذا التقليد يتوقف عندما يقرر أن يعارض أباه، لقد استوعب تماما الدرس. إنه ينتقل من مرحلة التقليد إذا إلى مرحلة التعلم. فيلم «جوق العميين» عبارة عن توالي عدد من المشاهد البليغة. تتوزع بين كل شخصياته، وتنجح في توريط المشاهد ليدرك أبعاد الأحداث التي يقدمها المخرج محمد مفتكر ببراعة. إذ يقدم تمازجا بين الصورة الشاعرية أحيانا والشعرية أحيانا أخرى، ومع الموسيقى، التي تذكرنا بالاختيارات الموسيقية للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار، لتجعل المشاهد متوغلا في عوالم الفيلم. في الجهة المقابلة، ربما فشل مفتكر في اختياره لبعض التفاصيل: الملابس التي لم يبد أنها تناسب مرحلة السبعينيات التي يمثلها، وكذا الأوراق النقدية التي صورت والتي توافق فترة زمنية لاحقة لتلك التي يقدمها لنا «جوق العميين». كما أن مشهد غسل الجدة كان باهتا إذ لا يعقل أن تغسل وهي بكامل ثيابها. ويبدو عموما أن محمد مفتكر يميل أكثر إلى الإيحاء عندما يتعلق الأمر بمشاهد يفترض فيها بعض الحميمية أو الجرأة. وإن كان قد نجح في بعضها، فإنه لم يبد مقنعا في مشهد غسل الجدة الذي نشاهده مع ميمو من فتحة الباب. نجح محمد مفتكر من جهة أخرى في اختيار طاقم الممثلين. إذ أدى الممثل الراحل محمد بسطاوي دورا في منتهى الإتقان، ولعل ما يشفع لنا في رحيل هذا الممثل الكبير هو هذا الدور الذي اختتم به مشواره الفني. كما أن كل من يونس ميكري (في دور الأب) وفهد بنشمسي (في دور العم) ومحمد الشوبي ومحمد اللوز برزوا كممثلين متميزين وقادرين تماما على موازنة ثقل حكاية الفيلم بما يكفي من المتعة والتراجيديا، وقد نجحوا بذلك في خلق فرجة حقيقية للمشاهد، ساهم في تقديمها الطفل إلياس الجهاني بأدائه الاحترافي.في المقابل قُدّم الحضور النسائي في» جوق العميين»، وإن لم يكن بشكل رئيسي، من خلال شخصيات متميزة وفارقة: الأم، الشيخة ومرافقاتها، وشامة طبعا. برز المخرج محمد مفتكر في الساحة السينمائية منذ أفلامه القصيرة» ظل الموت»،» رقصة الجنين»، «آخر الشهر» و»نشيد الجنازة»، كما أن فيلمه الطويل الأول «البراق» استقبل بحفاوة، إذ فاز بست جوائز في الدورة الحادية عشر للمهرجان الوطني للفيلم. وهو النجاح الذي يبدو أن مفتكر عازم على السير في منهاجه، حيث فاز فيلم «جوق العميين» على الجائزة الكبرى في الدورة الثامنة عشر لمهرجان السينما الإفريقية الذي يقام بمدينة خريبكة المغربية، كما توج بجائزة مهرجان وهران الجزائري، وهو مرشح لمزيد من الجوائز إذ إنه مقبل على المشاركة في مجموعة من المهرجانات العربية والدولية.