لم تنتبني قط لحظة ملل أو نفور وأنا أشاهد الفيلم المغربي «جوق العميين» لمحمد مفتكر. طبعا، لا يمكن لمن شاهده إلا أن يخرج بانطباعات جيدة: سيناريو متماسك البناء وأداء جيد للممثلين وموسيقى تصويرية تمتع الأذن و تحرك الأحاسيس، هذا إضافة إلى مونطاج سلس و إخراج متميز أعطيا للفيلم إيقاعا خاصا. يقينا، حين تلتئم هذه العناصر كلها في فيلم ما لا يمكنها سوى أن تمنحك اللذة والممتعة وتدفعك للتفكير والتأمل. سنحاول من خلال هذا المقال التركيز على طريقة تقديم الحكي من خلال المتتالية (séquence) كوحدة سردية وعنصر أساسي في بناء الفيلم. إن المتن المحكي، أي الأحداث التي يمكن أن تكون قد وقعت في الواقع، قد تم بناؤه من خلال سيناريو محبوك دراميا. فالمخرج بدا متحكما في ميكانيزمات السرد وفي قواعد الكتابة السينمائية. فالمادة الحكائية تضمنت جزءا هاما من سيرته الذاتية وأحداثا خيالية. فالمخرج يحكي لنا هذه السيرة الذاتية التخييلية من خلال ميمو، الطفل السارد. غير أن الحكي عن الماضي يُبنى دائما على التذكر، والذاكرة الإنسانية انتقائيةٌ بامتياز؛ فحين نحكي فإننا نتذكر أشياء وننسى أو نتناسى أشياء أخرى. لذلك سنجد أن وجهة نظر المخرج تأرجحت بين أحداث عاشها وأخرى من صنع خياله، لكنه نجح في انتقاء شظايا من ماضيه وسردها بأسلوب شاعري وفي قالب درامي كوميدي، بعيدا عن الاستنساخ والمباشرة والسطحية. غير أن ما يثير الانتباه في هذا الفيلم هو هندسة بنائه. إنه يختلف عما عهدناه في الأفلام السابقة لمحمد مفتكر. فلم تعد اللقطة هي تلك القطعة التي يركب بها المخرج أجزاء الفسيفساء، بل اختار هذه المرة الاشتغال على المتتالية (séquence) كوحدة سردية أساسية. وبما أن السرد نظام ضروري لتحديد المعنى، وأن التحكم به قاعدة ضرورية ولازمة، وليس اختيار يتبع الأهواء، كما يقول أندري بازان، فإن اختيار محمد مفتكر للمتتالية أملته، ربما، رغبته في الحكي والبوح عما بداخله، عله يتخلص من ثقل ماض أرهقه كثيرا. ورغم هذه الرغبة في الحكي سنجد أن المتتاليات (sséquence) عند مفتكر لا تتوخى الشرح والتفسير والإيضاح، وإنما هي تفاعل وسؤال، وأيضا إشارة وتلميح. فهو يعرض الحدث عبر متتاليات يبث فيها مجموعة من الرموز والإشارات ويترك للمشاهد فرصة بناء فضائه الحكائي من خلال إعادة تركيبها، مفسحا له المجال أيضا للإدراك والتأمل والتأويل. وقد لعب المونطاج دوراً أساسياً في خلق هذا التفاعل بين المتتاليات. سنحاول من خلال عرض وتحليل بعض المتتاليات أن نوضح هذا التفاعل بينها: 1/ مشهد انكشاف أمر الجوق تشكل هذه المتتالية نقطة تحول أساسية في مسار الأحداث. وإنه لمن سخرية القدر أن تكون امرأة بكماء (الصمت مرة أخرى) هي من يكشف هذا العمى الزائف، بعد أن ضبطت أحد أعضاء الجوق وهو يحملق في مؤخرة إحدى النساء أثناء الحفل. وفي لحظة ستسقط النظارات الوهمية التي طالما تخفَّى وراءها أفراد هذه العائلة الموسيقية. ستزال الغشاوة لتنجلي الحقيقة وتتضح الرؤية. هذه المتتالية توقع إيذانا ببداية انهيار العلاقات، الهشة أصلا، التي كانت تجمع أفراد هذه العائلة. بعدها ستكتشف حليمة علاقة زوجها الحسين بفاطمة، وسينكشف أمر ميمو الذي كان يُزَوِّر النقط، فضلا عن انكشاف استغلال زوج زينة لشامة، وانكشاف أمر عبدالله واعتقاله، وأيضا انكشاف أمر زوجة قاسم التي كانت تدخن خفية... إلخ. فلا غرو أن نجد أن جمالية الفيلم كلها تتأسس على ثنائية العمى والتبصر، الكشف والتستر، الظاهر والباطن، المرئي واللا مرئي: إن جدلية الخفاء والتجلي أملتها طبيعة الظروف السياسية التي كان يعيشها المغرب في الستنيات والسبعينات من القرن الماضي. 2/ مشهد تعليق ميمو: رغم أهمية المشهد السابق إلا أن ما شدني أكثر في الفيلم هو ذلك المشهد الرهيب الذي جمع بين ميمو والأب، بعد أن علم الأخير بحقيقة النتائج التي حصل عليها إبنه في الامتحانات. يمكن أن نعتبر هذه المتتالية جوهر الفيلم ككل؛ كونها تعكس مدى العلاقة المعقدة بين الأب والابن. وهوإشكال طرحه محمد مفتكر في كل أفلامه. فكما هو الحال في فيلم «البراق»، نجد أن الأب يريد من ابنته أن تصير ذكرا رغم أنفها، فإن الأب في جوق العميين يريد إبنه أن يكون صورة طبق الأصل للصورة التي رسمها له في ذهنه. هذا المشهد أساسي في الفيلم، لأنه يكشف في نظري بداية انهيار حلم الأب. فالحوار وإن كان ظاهريا موجها إلى الطفل فإنه يترجم في العمق فشله وبداية خيبات أمله: خيبة أمله في أن يحقق إبنه ما لم يستطع هو أن يحققه هو وخيبة أمله في أن يصبح موسيقارا وخيبته في زوجته التي لا تقدر ولا تحس بفنه و بمعاناته، وخيبته في صديقه مصطفى الذي غير جلدته بعد أن أصبح مفتش شرطة، وخيبة أمله في عدم إنقاذ أخيه من السجن، وخيبته في عدم قدرته على الحفاظ على خليلته، وخيبته في الشيخة التي أساءت للمهنة وكذلك في الجوق الذي لم يحترم قواعد الحرفة. إن الإضاءة والتأطير في هذا المشهد يوحيان بأننا في جلسة تحقيق واستنطاق بوليسية. كما أن اللجوء إلى الحقل والحقل المضاد يترجم عمق العلاقة المعقدة بين الأب والابن. فالحقل كله وعد ووعيد والحقل المضاد كله صمت وترقب، وهي السمة التي طبعت علاقتهما في الفيلم ككل. كما لو أن مفتكر اختار هذه المرة الصمت كمحاولة أخيرة لفهم الأب وفك لغز طالما حيره. إن فهم هذه المتتالية الأخيرة يتطلب استحضار متتاليات أخرى ترتبط بها ارتباطا وثيقا: 1/ في ساحة المدرسة في ساحة المدرسة، يطلب الأب من ميمو أن يحقق ما أخفق فيه هو:» بغيتك تدير داكشي لمقدرش باك إيديرو، بغيتك تكون أنت هو الأول». طبعا سيكون جواب الطفل هو الصمت إلى أن أرغمه الأب على أن يعده بتحقيق طلبه. إذن فالمتتالية الأخيرة هي نتيجة لهذا المتوالية وكل المتتاليات التي توازيها، والتي يسعى من خلاله الأب إلى تحفيز الابن (تسليمه النقود / مصاحبته للأعراس والحانة / إهداؤه قطعة موسيقية بمناسبة عيد ميلاده...). 2/ في بيت قاسم: يحيلنا مشهد تعليق ميمو إلى مشهد تعليق قاسم لزوجته عائشة علها تعترف بالمكان الذي تخفي فيه النقود. طبعا فتعليق ميمو وعائشة، رغم أن المشهد الأول يثير الشفقة والثاني الضحك والسخرية، هما استعارة للجو العام الذي ساد فترة السبعينيات من القرن الماضي. فالتعليق كان أحد أساليب التعذيب التي كانت تمارسها السلطة لنزع الاعترافات من المعتقلين، كما تمارسها بعض الأسر في تربية الأبناء. طبعا في هذا المناخ الذي لا يؤمن بالحوار كطريقة للتفاهم، سينتج لنا شخصيات اختارت الإخفاء والتستر والصمت أسلوبا في الحياة. تنجح كاميرا محمد مفتكر عبر عين الطفل الراوي في كشف هذا المستور عبر متتاليات أخرى: العمل السري لعبد الله وإخفاؤه للمنشورات/ إخفاء عيشة للسجائر حتى لا يكتشف زوجها أمرها/ العلاقة السرية بين حسن وفاطمة/ إخفاء حسن للخمر في البراد/ الشيخة التي تسرق لحظات جنسية/ ميمو الذي يخفي الحلويات ليهديها لشامة ويخفي أيضا النتائج الحقيقية التي يحصل عليها/ مصطفى الذي يخفي عن زملائه حرفته الأولى كضابط إيقاع ... 3/-في غرفة الأب طبعا فكل الأسئلة التي طرحها الحسين بيدرا على ميمو في المشهدين السابقين، سنجد لهما بعض الإجابات في هذا المشهد. يدخل ميمو إلى الغرفة حيث الأب ممدد على السرير وهو يحتضر، يتقدم إليه ويسلمه النتائج. يفتح الأب الدفتر ليكتشف الرتبة التي حصل عليها ميمو. رتبة أرضت الأب كثيرا. وهنا سيدور حوار هام بين الأب والابن. مرة أخرى سيطلب منه الأب أن يهتم بدراسته ويبتعد عن السياسة حتى لا يلقى مصير عمه عبدالله. هنا سيلقن ميمو درسا لأبيه. وكأني بالطفل يقول لأبيه: تبحث عن النقطة، ها قد حصلت عليها، ولكن أفكاري وسلوكي هى صدى لفكر وسلوك عمي. مرة أخرى يجيب عن الأسئلة ببعض الكلمات وبالميم كتعبير صامت عن أخرى. كانت هذه الإشارات كافية ليدرك معها الأب أن العم كان له تأثير أقوى على شخصية الطفل. هذه المتوالية تكشف لنا أيضا بداية تشكل الوعي السياسي لدى ميمو وترمز لاستمرارية نضال عبدالله. مجرد سؤال: ربما يكون هذا الفيلم قد فك لغز العلاقة المعقدة بين الأب والإبن، لغز طالما حير محمد مفتكر. فيلم تصالح فيه مفتكر مع الذات ومع الأب ومع الماضي. فهل يمكن القول إن موت الأب في «جوق العميين» هو الحلقة الأخيرة من تيمة اشتغل عليها مفتكر في جل أفلامه؟ أم إنه جسر ونقطة انطلاق نحو مشروع جديد يكون فيه غياب الأب السمة الأساسية؟ وحدها أفلامه القادمة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال. باحث في مجال الصورة