الضوء الآسر الذي يأتي من الخلف. الولع القديم بالقاعة المظلمة. غواية السينما التي جعلتنا شديدي الارتباط بالصور، وجعلتنا نحلم ونهزم الأشرار، كما ساعدتنا على مقاومة الضجر. في ذاكرة كل واحد منا فيلم شاهده وتأثر به، بل أصبح جزءاً رئيساً من كيانه الروحي والعاطفي. فيلم يقع خارج التقييم الفني، ولا يخضع إعجابنا به لأي منطق، لأن العلاقة معه مبنية على العاطفة أساسا.. في هذه السلسلة التي نبدأ بنشرها اليوم، حكاية كاتب أو مثقف أو فنان مع الفيلم الذي كان له وقع عليه.. ربّما يتذكر البعض، من جيلي على الأقلّ، برنامج «سينما منتصف الليل» ، الذي كان يقدّمه وينشّطه على القناة الأولى الأستاذ نور الدين الصّايل. عبر هذا البرنامج الفني المأسوف عليه اليوم، قدّم نور الدين الصايل أفلاما مغربية وعربية وعالمية في منتهى الروعة، كما أجرى حوارات هامة مع كتاب من طينة عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وغيرهما. ولا زلت أحتفظ للأستاذ نور الدين الصايل بتلك الصورة الأستاذية التي تتميز بالقدرة على تلخيص مضامين الأفلام، دون اختزالها في هذا العنصر أو ذاك، كما تتميز بمنهجيته البيداغوجية وقدرته على تحليل وتأويل اللغة الفيلمية شكلا ومضمونا، بحث كنتَ «تخرج» من الشاشة الصغيرة في البيت وأنتَ فاهم الفيلم الذي قدّمه. ذات ليلة، سيقترح علينا نور الدين الصايل فيلما يابانيا للمخرج السينمائي شوهي إيمامورا الذي يحمل عنوان «رحلة ناراياما»، والذي تمّ إنتاجه سنة 1983، وفي السنة نفسها سيحصل على السُّعفة الذّهبية لمهرجان كانْ. لستُ أدري لحدّ الساعة ما إذا كان هذا الفيلم قد أثّر فيّ وحملته ذاكرتي وحبّب إليّ الأفلام التي ينتجها الكبار لروعته الإبداعية أمْ من خلال نور الدين الصايل أمْ هما معا. مهما يكن من أمر، فقد وقف كثيرا عند دلالة كلمة «Ballade» في عنوان الفيلم، التي تنطوي، معجميا على الأقلّ، على معاني الرحلة والملحمة والإيقاع. وهي كلها دلالات حاضرة في هذا الفيلم الرائع. إنها رحلة امرأة في شكل ملحمة على إيقاع الموسيقى والطبيعة اليابانية. يحكي الفيلم قصة امرأة يابانية مسنة يفترض أن تكون قد ماتت لكنها في صحة جيدة. غير أن التقاليد القديمة في مطلع القرن التاسع عشر في اليابان كانت تقضي بأن ترحل العجوز، كما كل عجائز بلدتها في اتجاه»الجبل المقدس»حيث تنتظر موتها، لتريح عائلتها وتترك الفرصة للشباب والصغار، فرصة الغذاء في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة. فتقرر أن ترحل وتأمر ابنها الذي تربطها به علاقة روحية قوية بأن ينقلها الى هناك، فيحملها على كتفيه ويمضي بها نحو المجهول. في هذا الفيلم إذن، يذهب شوهي إيمامورا إلى الجبال اليابانية القصية ليرسم من هناك شكل الحياة في قرية نائية ومنسية، تعيش على هامش الزمان، بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية، ويحيا أفرادها بتقشف شديد وببدائية متوحشة وسط ظروف حياتية قاسية وسيطرة تامة للجهل والخرافة والأسطورة. الأحداث تنطلق من منزل العجوز أورن ذات التسعة وستين عاماً التي لا تبغي من هذه الدنيا سوى أن تحج إلى جبل ناراياما لتموت هناك بسلام في عيد الموتى بحسب العقيدة البوذية. لكن أورن قلقة على ابنها الكبير تاتسوهي وعلى حياته بعد أن تموت، فهو رجل بلا زوجة، لذلك تشغل نفسها في البحث عن واحدة له، وهي تمني نفسها بتحقيق ذلك قبل أن يحين موعد حجها إلى ناراياما. الفيلم لا يمتلك حدثاً تقليدياً ذي بداية وذروة ونهاية، إنما هو مجرد تأملات ونظرات في الحياة البدائية التي تعيشها عائلة العجوز أورن ومن معها في هذه القرية المنسية. لذلك فهناك العديد من الخيوط الدرامية الفرعية التي تقتحم الخط الرئيسي، وهو الحج الأخير إلى ناراياما، لتؤكد القسوة المؤلمة التي تغلف حياة هؤلاء الفلاحين. هنا سنرى هذا المجتمع المنغلق وهو يتعايش مع بيئته ويتكيف مع شرطها القاسي، محدداً قيمه وقوانينه الخاصة. ففي الزواج مثلاً يكفي أن تجلس المرأة إلى مائدة الأكل لتصبح زوجة صاحب هذه المائدة، وهكذا، بمثل هذه البساطة المتوحشة، تكون الحياة في الجبل.. الفيلم رحلة سينمائية فائقة الجمال والشاعرية، تأخذنا إلى عالم بدائي، وإلى عمق الفكرة البوذية، وعقيدة الكارمن، لترسم أخلاق ذلك المجتمع المعزول.. هذه الأخلاق التي برغم شذوذها وفظاظتها تملك سحرها وجاذبيتها العسيرة على الوصف!. وقد استلّ شوهي إيمامورا ملامح عالمه المتوحش بشكل مباشر وحرفي من رواية كتبها الروائي الياباني شيتشيرو فوكازاوا عام 1956 بعنوان (دراسة في أغاني ناراياما)، والفيلم لم يغير في الرواية أي شيء، سوى إضافته لبعض الشخصيات كشخصية الأخ القذر. والنجاح الأكبر لإيمامورا في تحفته السينمائية هذه ليست في محافظته على مجرى الأحداث وعلى الشخصيات فحسب، بل أيضاً في قدرته على التعبير عن صميم روح الحكاية، وتصويره الدقيق للبيئة القاسية والحيوانية التي تعيشها القرية التي بلا اسم، وذلك عبر تفجير طاقات الصورة، وإدراج لقطات للحيوانات والطيور والنبات، لزرع الإحساس بالطبيعة المتوحشة في نفس المتفرج، وتأكيد التصاق سكان القرية بهذه الطبيعة ورضوخهم الشديد لشروطها القاسية.