«تتوقع مديرية الأرصاد الجوية الوطنية، بالنسبة لليوم الثلاثاء، تكون جريحة خلال الصباح والليل... وستتراوح درجات الحرارة الدنيا ما بين ناقص 5 و1 درجة بالمرتفعات والهضاب العليا، وما بين 00 و06 درجات بالمنطقة الشرقية والسايس وهضاب الفوسفاط وولماس واللوكوس والغرب والرحامنة وتادلة والحوز والجنوب الشرقي، وما بين 06 و11 درجة بالقرب من السواحل وبمنطقة سوس، وستكون في حدود 11 و15 درجة جنوب البلاد». إنه نموذج للبلاغات اليومية التي تصدرها المديرية الوطنية بشأن حالة الطقس في البلاد، والذي يخص يوم الثلاثاء المنصرم 24 نونبر 2015، إذ يؤكد مضمونه أنه، وبشكل مفاجئ ودون «مقدمات» مناخية ، انخفضت درجات الحرارة في مختلف المدن والأقاليم، وبدأ التفكير في سبل حماية ووقاية الأجساد المرتعشة من ضربات البرد القاسية، انخفاض يضاعف من معاناة أشخاص - من كافة الفئات العمرية ومن الجنسين - وجدوا أنفسهم، على حين غرة، وتحت وقع أسباب متعددة المراجع «اجتماعية، نفسية، اقتصادية..»، بين مخالب التيه والضياع على ناصية هذا الشارع أو ذاك ، تحت هذه الشجرة أو تلك، حيث الطريق «معبدة» نحو المجهول. إنهم المشردون، «التائهون»، أو «البدون»... بدون أفق، بدون سقف، بدون مأوى، بدون عنوان... تتزايد أعدادهم بشكل يسائل مدى نجاعة السياسة المنتهجة ، من قبل السلطات المختصة، مركزيا ومحليا، للحيلولة دون اتساع دائرة هذا «الجرح» العميق في «جسم» المجتمع، والتي غالبا ما لاتصل أصداؤها إلى مسامع المتتبع سوى عبر حملات موسمية ينمحي أثرها بعد الإعلان الرسمي عن انقضاء فصل الشتاء ،علما بأن برودة التشرد ترافق «المعذبين» تحت سياطها طيلة أيام السنة أو إلى آخر نفس حياة لهؤلاء إن لم يحدث ما يغير المسار ويجعله يستعيد بعض إنسانيته المفقودة. يكاد لايخلو شارع أو «فضاء عام» وسط الدارالبيضاء – على سبيل المثال فقط - من تواجدهم المؤلم، تعلق الأمر بمجرد عبور نحو وجهة أخرى أو ب «إقامة دائمة» تحمل في طياتها كل تفاصيل الانكسار والصدمة. هي امرأة في الأربعينات من العمر، تتخذ من ركن بشارع الحسن الثاني، غير بعيد عن محطة الترامواي «الأممالمتحدة « ، مستقرا لها، تفترش قطعا كارطونية وتغطي جسدها المنهك ببطانية فقدت مناعتها تجاه البرد منذ سنوات . نظراتها دائمة التيهان لاتهتم بما حولها من عابرين، ولا تكترث لضجيج أحاديثهم أو لدوي محركات السيارات القادم من بعض الأزقة القريبة من هذا المكان، من العسير أن تجعلها «تبوح «ببعض مكنون ماضيها قبل أن تعانق الشارع. بمحيط محطة اولاد زيان، وغير بعيد عن محطة القطار «كازا بور»، وعلى مقربة من السوق المركزي «مارشي سنترال»، وخلف «لا كازابلانكيز»... يصادف المرء عشرات «البدون»، خصوصا في الساعات الأولى من الصباح ، من بينهم الصبي، اليافع والراشد، أغلبهم يكونون في حالة «غير طبيعية»، بفعل تأثير السليسيون، الحشيش، أو الماحيا..، الذي لم تنقشع مخلفاته بعد. ينحدرون من مختلف جهات البلاد، خاصة من البوادي، معظمهم يتحاشون الحديث عن أسباب معانقتهم ل «الضياع الجبري»، في وقت قد يكتفي بعضهم بالإشارة إلى أنه «امتهن في البداية» تلميع الأحذية»، سيرا على منوال أبناء بلدته، الذين سبقوه للهجرة الداخيلة، كما جرب الطواف عبر الأسواق لمساعدة المتسوقين، خاصة ربات البيوت، في حمل القفة، ثم الاتجار في مستلزمات أعياد دينية كعيد الأضحى «فحم، سكاكين..»، لكنه لم يحصد سوى الخسارة... فلم يجد من «يحتضنه» سوى «ولاد البلاد « الذين كان الاحتكاك بهم بداية للإطلالة على «عوالم الشارع» ذات الظلمة اللامنتاهية! وعن سؤال: هل اللجوء إلى تخدير العقل بداية من السلسيون، يعتبر حلا؟. يرد العديد من هؤلاء : « من أجل النسيان وإكساب الجسم حرارة نتغلب بها على برودة النوم في الشارع أو الخلاء»؟ إنه بحق «جرح» كبير تزداد آلامه من سنة إلى أخرى ، والتي كثيرا ما استحالت إلى مآس كان محيط المحطات الطرقية أو بعض الدور المهجورة بالعديد من المدن، مسرحا لها ، حيث استفاق الجميع على نبأ «العثور على جثة شخص فارق الحياة من شدة البرد»! جرح لم تنفع في «علاجه» الجذري وحدات المساعدة الاجتماعية، التي لا ينكر مجهودها سوى جاحد، لكن نقص الإمكانيات يحول دون تحقيق الأفضل ، ومن ثم يبقى الأمل أن تتضافر جهود كافة السلطات المعنية ، بتعاون مع الجمعيات المدنية التي تقدم مجموعة منها ما استطاعت إليه سبيلا من مساعدة مادية ومعنوية، في أفق رسم خطط تحرك «استباقية» تمنع «ضربات البرد المأساوية» من إعادة رسم سيناريوهات الموت المحدقة بمئات «أجساد الشوارع» المفتقدة للحد الأدنى من الدفء والحرارة.