ظل يجوب الطرقات وحيدا لسنوات بعد أن ابتعد نهائيا عن العصبة التي ألف التجوال والعيش معها. منذ اختياره العيش أعزل، ظل (ك) مقتنعا بأن النهاية ستكون الآخر، المضاعف الأخير الذي سيصادفه لبرهة موجزة قبل أن ينقذف في أتون العدم. لكنه لم يفكر أبدا في النهاية، ولا في أي من النهايات الممكنة التي قد تداهم أرواح الأحياء، وتملأ عليهم لياليهم بالمعاناة والأرق. كما (ك) متيقنا من أن النهاية لن تكون غير لعبة خط من الألعاب العديدة التي يدمنها الأحياء حد الإفلاس، والبقاء طويلا قيد الحياة كجثة لا أحد يجرؤ على دفنها. كثيرا ما كان (ك) يتأمل الفكرة التي قرأها عند سبينوزا والتي تقول بأن بعض الأجساد تصير جثثا وهي على قيد الحياة حتى قبل أن يداهمها الموت. لم يكن يفكر في الموت لكن عدوى التفكير فيها أصابته منذ بدأ يلتصق بعالم الكائنات المسماة إنسانية. أذهله الرعب التي تستشعره إزاء نهايتها المحتملة. كان أحيانا يفكر وهو في زاويته المعتادة فوق الرصيف: (لماذا تصاب الكائنات المسماة إنسانية بالرعب من مجرد التفكير في نهايتها مع أنها تولد معها منذ البداية وتنضج داخلها مع تتالي السنين؟). (ك) لا يدري أين يستقر.. يمر أحيانا بجوار صناديق القمامة يحشر رأسه فيها بحثا عن شيء ما قابل للأكل، دوما يرى في الصناديق الأمكنة العارية المعبرة عن الأحياء الذين يجاورهم يوميا، يمر بجوارهم كطيف لا يرونه، أو يقذفونه أحيانا بحجر فيفر هاربا من عدوانيتهم المجانية. (ك) لا يدري لماذا تفجر هذه الكائنات المسماة إنسانية عنفها لأتفه الأسباب، ولماذا تبحث دائما عن كلب لتجعل منه كلبا بالضرورة، علما بأنه مجرد كلب وكفى كما تدل على ذلك حيوانيته، وجسمه البارز الأعضاء وسيره على أربع، لكنه يتذكر بأنه قرأ يوما ما قولا لفيلسوف إنجليزي، اسمه هوبز يقول بأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان...لكنه لم يقل كلب. (ك) يفسر ذلك بالحكرة التي تطال أبناء فصيلته الذين يستعملون في أغلب الأحيان للحراسة وحين لا يصبح مرغوبا فيهم يرمون للمجهول أو يقتلون عنوة. لماذا؟. (ك) لا يدري يقول لنفسه أحيانا : «لو أن الكلبية كانت فضيلة أو ميزة لما كان وضعه هو وشعبه على هذه الحال»، مجرد شتم الكائن المسمى إنساني لآخر شبيه له بلفظ «كلب» يعني أن الكلاب في الدرك الأسفل من التصنيف. كلبيته لا تهبه غير الإمكانية الوحيدة : التيه. يتذكر (ك) بأنه قرأ في زمن ما عن فيلسوف يوناني اسمه ديوجين لايرس سمى نفسه : «الكلبي» لأنه اختار نمط عيش الكلاب أو هكذا خيل إليه في ساحات أثينا وأزقتها وكان بسلوكاته الكلبية يستفز الآخرين ويكشف لهم النقيض من سلوكاتهم المدينية المتحضرة حين يستمني، يتبول أو يتغوط أمام الملأ، أو يتجول لابسا أسمالا بالية وبالرغم من ذلك فقد ترك واحدا من أهم الكتب التي نتحدث فيها على الفلاسفة الذين عاصروه. «الموت...الموت...الموت...، يقول (ك) لنفسه، من حسن الصدف أن اللغة أنصفتنا عن الحيوانات وخلصتنا من بعدها الميتافيزيقي، وحولتها إلى مجرد حدث عادي وتافه جدا. إذ نقول في العربية مات الحيوان بل نقف مثله مثل أي شيء أصيب بعطب مفاجئ قاده إلى التلاشي السريع. لذا ترى جثتنا مرمية على قارعة الطريق دون أدنى انتباه بلا قبور.» بالرغم من أن كلبيته لم تكن مجرد موقف فلسفي فقد استشعر (ك) دوما بأن هويته ككلب تأتيه أساسا وتتأكد لديه من طرف نظرة الآخر وسلوكاته ومواقفه تجاهه، إذ لم يشعر يوما وسط العصبة التي كان مندغما فيها بأنه كلب، تماما كما لم ينتبه الإحساس في أي لحظة من اللحظات وهو يمر بجوار جثة نافقة لأحد أبناء جلدته بأنه أمام موت محتملة لكائن ما، لذا لا يفهم لماذا تلح الكائنات المسماة إنسانية على إطلاق وصف «كلب» على اللحظات المأساوية أو الكارثية من وجودها مثل الحديث عن الحياة على أنها شبيهة بحياة الكلاب، أو نعت الخطابات العدوانية القاتلة بأنها نباح كلاب...إلخ علما بأن الكلب لا يولد كلبا بل يصير كذلك وأنه كحيوان لا يملك ميزة اللغة والكلام والقدرة على التسمية لا يعي أي شيء من اسم كلب الذي يطلق عليه. يتذكر (ك) قبل هروبه الأخير من المزرعة التي كان يعيش فيه ككلب حراسة صحبة كلاب أخرى كيف أن صاحبها ارتكب مجزرة حين عثر على إحدى نعاجه وقد افترس حيوان ما نصفها. رمى بقطع لحم مسموم فالتهمتها الكلاب بشراهة لتتهاوى الواحد تلو الآخر. رأى (ك) المشهد من بعيد ففر بجلده بعيدا وهو يردد لنفسه : «مازال في الحياة بقية»، بالرغم أنه لا يعرف معنى الحياة تماما كمعنى الموت. يعرف (ك) بأن الكلاب كلها منذورة للتيه بدءا من سر بروس حارس بوابة الجحيم وحتى كلاب شعراء الجاهلية الذين كان الأضياف يستنبحونها بحثا عن ملاذ يقيهم برودة الليالي في الصحراء وحتى كلاب كوانتن تارانتينو... وأنه لن يجد شاعرا مثل الألماني موريتز ليتعاطف معه ويشعر بالمسؤولية اتجاهه، وأنه قد يموت (نستعمل هذه اللفظة مؤقتا) وسط العدم الداهم والغامض لأشياء وكائنات عديمة الوجوه والأسماء مرتبكة الوجود، يموت كشيء عابر لكنه إلى أن يحين وقته يظل تائها في الغفلة الكبرى يحلم بصيرورات كثيرة وهائلة لا مدركة، مثل صيرورته إنسانا على الأقل وسط هذه الكائنات الماكرة التي تتربص به الدوائر يوميا.