لعلّ الصلة الروحية التي تربط ريجيس بلاشير بالمغرب وأهل المغرب كانت سبباً في اتجاهه إلى دراسة الإسلام والعربية، واختياره الاستعراب سبيلاً له في الحياة. فقد تأثر بلاشير ثقافياً، واجتماعياً، وحضارياً بالبيئة المغربية التي عاش فيها منذ طفولته وهو ابن الخامسة عشرة إلى أن التحق بفرنسا سنة 1935 وهو ابن الخامسة والثلاثين إلى درجة أنه أوصى قبل وفاته بأن يُكفن بجلبابه المغربي، إشارة إلى عنق الصّلة الرّوحية التي كانت تربطه بأهل المغرب وبيئته، كما جاء في رسالةٍ بعث بها تلميذه أندري ميكيل (André Miquel) إلى زميله محمود المقداد. وكان بلاشير قد هاجر مع عائلته إلى المغرب سنة 1918، فتابع دراسته بثانوية ليوطي بالدار البيضاء. ولما عُيّن أستاذاً بثانوية مولاي يوسف في الرباط اهتم بالدراسات الإسلامية بمعهد الدراسات العليا المغربية الذي أُسِّس سنة 1920، والذي أصدر مجلة هيسبيريس. بعد ذلك حاز على شهادة الإجازة في العاصمة الجزائرية في اللغة العربية وآدابها. كما حاز على التبريز في اللغة العربية. وهكذا عشق ريجيس بلاشير اللغة العربية في زمن كانت فيه موضع تهميش عند الأوروبيين. فوصفها بلُغة المجد، ووصف الشعر العربي بالجنّة الخفية. ومع أنه كان ذا إلمامٍ كبيرٍ بدراسة اللغات الأجنبية إلا أن جمالية اللغة العربية أثارت اهتمامه وشغفه الكبيرين. وقد دفعه عشقه للشعر العربي إلى دراسة، وترجمة روائع الشعر العربي القديم، مع العلم بأن تذوُّق شعر مكتوب بلغة غير لغته الأصلية يتطلب معرفة عميقة باللغة والعروض وهي معايير يراها بلاشير أساسية لولوج هذه ‘الجنة الخفية'. وقد كان بلاشير أيضاً عالماً، ومثقفاً، وسياسياً عمِل على تشجيع نشر الثقافة العربية، فكان من أولويات اهتماماته تأسيس جمعية تطوير الدراسات الإسلامية، ومركز استقبال الطلبة العرب في فرنسا. كما امتاز في حياته بدفاعه المستميت عن استقلال شعوب إفريقيا الشمالية. فناهض السياسة التي انتهجتها فرنسا في هذه البلدان. وناقش بلاشير في باريس أطروحته عن الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي، والتي كان لها تأثير على الشعر العربي بعد موته. أما أطروحته الثانوية فكانت ترجمة لكتاب «طبقات الأمم لصاعد الأندلسي». وقد حاز على كرسي الأستاذية في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس، والتي كان يُدرّس فيها (1935-1950). كما شغل عدة مناصب علمية أهمها عمله كمدير للمدرسة التطبيقية للدراسات العليا (1950- 1968) وقد كان مكلفاً في نفس الوقت بوحدة التدريس في فقه اللغة والأدب العربي خلال العصر الوسيط. كما عمل مديراً بمعهد الدراسات الإسلامية في أكاديمية باريس، ومديراً بمركز المُعْجَمية العربية. ولبلاشير مؤلفات متعددة ودراسته لشاعر العروبة أبي الطيب المتنبي، عرّفت بشعر المتنبي في الثقافة العالمية، فحظيت بمكانة كبيرة في الشعر الأوروبي والعالمي. كما ترجم بلاشير نماذج من روائع الشعر العربي القديم لفحول شعراء العربية، وألّف «تاريخ الأدب العربي» الذي ترجمه إبراهيم الكيلاني إلى العربية. وترجم القرآن الكريم والسيرة النبوية، وتعتبر هذه الترجمة من بين أفضل ترجمات المستشرقين الأوروبيين لأبناء جلدتهم. كما وضع قواعد لنشر وترجمة النصوص العربية. وبذل مجهوداً كبيراً في تعليم اللغة العربية للفرنسيين. فوضع كتاب ‘نحو اللغة العربية الفصحى بتعاون مع كودفروي دومنبينيس. ووضع كذلك معجماً عربياً فرنسياً إنكليزياً بتعاون مع مصطفى شويمي وكلود دينيزو. وترجم بلاشير قسطاً وافراً من مقامات الهمذاني، بالإضافة إلى اهتمامه بعلم الجغرافيا، والمعاجم، والموسوعات، وبأدب الأمثال، وعلم العروض وعدد كبير من المقالات العلمية في علوم مختلفة. ويذكر محمود المقداد بأن بلاشير شغل نفسه في آخر حياته بدراسة لم يتمكن من إنهائها عن بشار بن برد وكأنما أراد بذلك أن يقدم لنا شيئا من معاناته العمى بإسقاطها على حياة بشار الأعمى، أو ليجد عزاءً عن عماه بتذكر هذا الشاعر العربي الذي وُلِد على العمى وكانت له حياة حافلة مليئة بالنشاط والحيوية والشعر والنثر. وكان كما يرى هنري لاووست سيِّد زمانه، لما اتسمت به مؤلفاته من قيمة علمية كبيرة بوّأته لريادة مدرسة أدبية متميزة في تناول التراث العربي القديم ينتمي لها عدد كبير من الأدباء والعلماء الذين كثيراً ما أبدوا تأثرهم بشخصيته العلمية وثقافته الواسعة وعشقه الفريد للغة العربية وآدابها. وقد كان بلاشير الوجه المشرق لقراءة مبدعة للغتنا العربية وأدبنا العربي. ما يعني أن اللغة العربية لا تحتاج إلى من يدافع عنها بقدر ما تحتاج إلى من يُبدع بها.