«كم يلذ لي أن ألم بالكلمات، أن أقضي وقتا طويلا في تزييت الدواليب المسننة لكل فقرة، أن أجعل القصيدة دراجة نارية تؤوب بي إلى آفاق لم تعهد من قبل». الجنابي. ارتبط اسم عبد القادر الجنابي في الحركة الشعرية، منذ البدء، بالتمرد. بينما نذر في جيله من ركب مثله مهاول المغامرة ومخاطر الجسارة. ذلك أنه استهل حياته الرافضة بالطعن في المواضعات المجتمعية، ثم مارس، عمليا، عصيانا ثقافيا لا هوادة فيه. وخاض، عبر جبهات متباينة، معاركه في الفضح والاحتجاج، نمط حياة، كتابة وإصدارات. وليست السريالية لديه، في عمق الأمر، انخراطا آليا في تيار؛ بل هي موقف من العالم والأشياء. لذلك فالتجريب والمغامرة، بالمعنى العام، هما بابان يفتحهما على الدوام، كي يدخل أريج جديد إلى تخاريم الرؤوس التي بلا رأس! وليس نشره اليوم لأعماله الشعرية مجرد جمع آلي لنصوص قديمة واخراجها في كتاب جديد، وإنما هو نوع من إعادة كتابتها، سواء بالنظر إلى عدد التعديلات الطارئة عليها، أو من جهة، ترتيب ورودها في الكتاب. فكم من قصيدة كتبت في السنوات الأخيرة تجاور تماما نصا كان الشاعر قد كتبه قبل أربعين عاما. كما أنه قد حان الآوان، بحق، لتوفير هذا الملمح الهام من تجربة الجنابي الشعرية في كتاب، بعدما نأى العهد بكثير من المجموعات والكراريس التي سبق أن أصدرها في السابق. فلماذا، يا تُرى، سماها الشاعر "ما بعد الياء"؟ هل هو مجرد تمرين سريالي، يبرز فيه إفراطا في الصياغة ومبالغة في المعنى؟ أم هو تلاعب بالعبارة القديمة "من الألف إلى الياء"؟ أم هو كناية عن ما بعد المنتهي، أي، بصيغة أخرى، اللامتناهي؟ أم هذا كله، داخل أسوار اللغة العالية، وعميقا في مجاريها الجوفية: ثمة حيث الهلامي والسديم وضباب الأشياء. ثم ها هي لوحة الغلاف بدورها تؤكد أيضا الحالة التي يريد الجنابي أن يموقع فيها نصوصه: حالة انتقالية، مثالية، وقائمة على نوع من العبثية والفوضى، يعسر فيها الوقوف على المبتدأ وعلى المنتهى، بل تنعدم فيها جدوى ضبطهما: قيامة الفنان الهولندي جيروم بوش! والجنابي في ذلك يتعهد خاصية من إحدى خصوصياته، ألا وهي إحداث البلبلة في الذهن المتلقي، وزرع كدمات في الأعصاب. إرادته تنضيد أديم الوعي بقوى التمرد. تلك هي وسيلته المثلى في النقد والدحض والتفنيد. فنقرأ له قصائد ذات أبعاد سياسية وإيروسية، ونصوص عن المدن والليل وعتمات العزلة، يأتي فيها ذكر أصدقاء قلائل لم يسلكوا معابر الغدر والخيانة. وما اختياره لسلاح الإيروسية إلا لفطنته بأنه الأجدر لتحرير العقل والجسد من كهنة المنع ودجاليه. وغايته تخليص الجَمَال من أيدي الجهلة الغلاظ. كما ارتبطت الإيروسية لدى جهابذتها بنزع المقدس عن الجسد، ووقف تجريم ما توفره الحواس من مُتع. والجنابي لم يكتب فقط قصائد في هذا المنحى، بل ترجم نصوصا إيروسية كثيرة واعتنى بالكثير منها في مجلاته العديدة. ويبدو أن قصائد الجنابي في عمقها تعقبٌ للقصيدة، ومطاردة للشعر والشعراء وترصد مستمر لمفردات المعنى الدفين: " لكي يدخل أرض القصيدة؛/ القصيدة التي كان قد وعدنا بها". والقصيدة بهذا المعنى شبيهة بنجمة نائية يُشار إليها من بعيد، وقد نراها أو لا نراها. كما أنه كثيرا ما يمزج آراءه النظرية بدعابات شتى، لا يكاد يستنبطها، أحيانا، إلا عارف. رغم ذلك، لا يني يمجد أصدقاء الشعر الحقيقيين، الذين هم من أوحوا له بدخول "معمعان الأدب"، بغضّ النظر عن ملاحقته للبنت الجميلة التي دخلت إلى مكتبة بغدادية، وقادته، في العهود الأولى، بلا إرادة، إلى تصفح الكتب والتعرف عليها. مع أن المجد الشعري في عرفه مجرد وهم. ألم يكتب في الإشارة إلى كورسو، الذي ظل يتباهى بكونه أبولو الشعر، بأن هذا الأخير "أصلا مباهاة". وإن تتكاثر في ثنايا قصائده إشارات كثيرة إلى آباء روحيين كثر،_ وفي انتقاد أحيانا_، كبار الغربيين، وأعلام التراثيين، ابن جني في اللغة والجرجاني في البلاغة مثلا؛ فستظل سنوات الشارع والمقهى هي من أجمل اللحظات الحاسمة لديه في الركض في سكة المعنى. "ما علاقتي بالأدب/ من أدخلني في هذا المعمعان/ من علمني التمرد على الكبار/ لا أدري." فبقدر ما ينزع الجنابي إلى إبداء نوع من اللاأدرية الواعية أحيانا، فإنه لا يكاد يحيد عن لهجة أمثال خاصة به، وعن تَوهجٍ تَطْلَعُ منه حكم بليغة، أو رذاذ تعقل بليغ، مبطن بنقد فلسفي وسياسي، لاتبين علاماته، كي تظهر، للوهلة الأولى رأي العين. على أي فالعالم في عرفه "سيأتي إلى العالم/ القصيدة ستتوقف/ والقول سيزدحم في أقفاص الشعراء". وكأنه يريد بهذا أن يؤسس لغياب القصيدة، وللعشوائية المؤدية إلى أجملها. ألم يكتب في قصيدة الشعراء: "أيها الكلم، احملنا معك إلى الباب الذي لم نفتحه قط". فكارثة الشعر هي البحث الكارثي عن الشعر ، الشعر المستحيل. كتب الجنابي: "إنا نكتب/ إنا نكتب لكي نموت، فيما بعد، مرات عديدة". لذلك توجه الجنابي إلى قارئ شعره بهذا الوداع الجميل: "وداعا قارئ هذه ا لكلمات ، إني ماض إلى أراضٍ شاسعة حيث الشعر فوضى على النظام". لعل هذا يختصر نوعا رؤية الجنابي للشعر، وكيف يكون فوضى خاصة، حاملا لبذور مخالفة، ومبتدعا أشكالا وأدوات جديدة. مبطنا حيث لا يدري كثيرون، بأفكار وفلسفات شتى. فالجنابي، المسكون بهاجس الفكرة، والمتمرد على المعاني "المطروحة في الطريق"، لا يكتب القصيدة الغنائية، وإنما يعاكس اللغة كي يثبت النَّبل في قرارة الأفكار. يسعى إلى القول في ساح الرأي ما بين قصيدة الأشطر وقصيدة النثر وما سماه، في ريادة، بالشقائق. وتصعد منها جميعها لمن يحسن سبر أفكار فلسفية نائمة في قطن لغة جزلة. فمهما أُريد له أن يكون بلا ذاكرة فإن الحنين الخفي يقلقه ويلاحقه باستمرار، مثلما كتب: "الحنين العراقي يلاحقك،/ من باب مفتوحة أو مسدودة/ يدخل طائرا إليك." بل إن هذا الحنينن الذي ليس شعورا عابرا، يزور الشاعر مثل الطيف، وهو عميق حد أن يصير مثل: "شبح/ ينزع كل ما فيك..." مخاطبا ذاته. وهذا كله هو ما قاد الشاعر لأن يتأسف، محقا، في هذه الكناية الجميلة: "آه، كم شاخت الطفولة"! إذ كما كتب أيضا، "فكل مصابيح العالم/ لا يمكنها/ تنوير مكان/ تسكنه العزلة". تدور نصوص الجنابي ما بين الغربة ولعنة الشعر، والمرأة والوحشة التي يخلفها في القلب ثقل الصقيع. هو الذي نظَّر كثيرا لقصيدة النثر، بل صار "محاربا" من أجلها حسب تعبير عباس بيضون، مثلما ظل محاربا على جبهات فكرية وثقافية مختلفة. هكذا يبدو إذن وجه الجنابي الصادم والمتمرد أكثر إشعاعا، لا يفتأ يستنير بغاراته الكثيرة الراغبون في التغيير والتمرد. فيشع من قصائده "سأم المدينة" وحنين بلا ضفاف إلى أقاصي المدى. ألم يكن هو الذي كتب: "فإني سأبقى/ لعوبا/ إلى أن/ تفنى الرمال". قبل أن يأخذ على عاتقه، مأخذ الجد، قسم أن يكتب القصيدة اللعينة: "سأكتب هذي القصيدة اللعينة التي ستمثلني يوم الحشر أمام الله وأنا أشاعر جارية لعوب".