يوم 17 أكتوبر، هو اليوم الذي خصصته إحدى المنظمات الأممية التي تعنى بالأمن الغذائي في العالم كل عام للاحتفال باليوم العالمي للقضاء على الفقر.شخصيا لا أستسيغ كلمة احتفال،لأنه لا يمكن أن نحتفل بشيء قاسي كالفقر اللعين، الذي يورث الجوع الذي يحصد أرواح أزيد من 17000 طفل في العالم كل يوم،أي طفل كل خمس ثوان، ويموت ستة ملايين جائع من مختلف الأعمار كل عام. أتدري ماهو الفقر؟ لا الفقر «المتكبر»الذي يشكو منه بعض الناس لكن مع ذلك.تراهم قانعين صابرين على تحمله. مستأنسين بواقعه المرير. إنه الفقر الحقيقي ! الفقر الذي لا يجد المبتلي به كسرة خبز حافي يوقف بها صقيع أمعائه،أو دمعة لعابه، وهو يستمني مؤكولا لا حول ولا قوة له في الحصول عليه...دمعة الفم أقسى من دمعة العين! الفقر الذي يرغم صاحبه على ارتداء (كسوة) لا يجد لها بديلا، حتى ترث على ظهره وتتمزق، ولا يملك هذا التعيس إلا مضغ ريقه... الفقر الذي يشل الحركة،ويسلب الإرادة،و يهدر الكرامة،ويجسد البؤس،ويجرد الإنسان من إنسانيته،ويهدم العاطفة،ويوقف هاتف العقل والروح والاختيار،ويستعبد المخلوق، ويفقده الشعور بالاعتزاز،فيتحول هذا الإنسان إلى مجرد رقم يشمله الإحصاء العام للسكان... حقود، حسود،قابل للانخراط في أي شيء، وفعل كل شيء خارج عن القانون،وهش للسقوط كحطب سهل في يد المتطرفين،أو الانخراط في السباحة في بحر الجريمة بكل أشكالها البسيطة والمعقدة،وطعما سهلا في أفواه تجار الانتخابات، الذين يعتمدون على تجييش ذوي الفاقة، كجنود في معاركهم الانتخابية غير النظيفة،ويمتطون على ظهورهم إلى بر الأمان داخل قبة البرلمان.فقر الجيب يورث فقر الروح والعقل.يقول مثال فارسي إيراني:»إن مصباح الفقر لا ضوء فيه،لا يضئ المصباح سوى الأعماق فقط التي ترقد فيها جنية البؤس». نعم، هو الفقر الذي يضطر فيه الطفل إلى مغادرة حجرات الدرس مرغما ليلتحق بسوق العمل مبكرا، ويتحول هذا الطفل إلى رب لأسرته ومعيل لها، و بدل أن يتفرج على مسرح العرائس، يلعب دوره على خشبة مسرح الحياة! نعم هو الفقر الذي تتحول فيه الطفلة الصغيرة من تلميذة إلى خادمة في البيوت أو الحقول، أو سلعة في سوق النخاسة، تعبث ببراءتها الأيادي الآثمة! نعم هو الفقر المدقع – القاسي الذي تطارد لعنته الطاحنة ملايين البشر فوق هذه الأرض. أطلق عليه خبراء الاقتصاد «الفقر النقدي المطلق» من فرط قسوته ،لأن الذين تحتضنهم دفتيه،لا يتجاوز استهلاكهم الفردي دولارا واحدا كبريم دولي – أي 10 دراهم في اليوم بالنسبة للمغرب. يعيش بين ظهرانينا ما لا يقل عن خمسة ملايين مغربي فقير مسحوق،مصاب بالفقر النقد المطلق القاسي،حسب ما تفيدنا به الإحصائيات. تصدمنا المعطيات التي تضمنها تقرير منظمة فاو للأغذية والزراعة الذي صدر مؤخرا تحت عنوان حالة الأغذية والزراعة لعام 2015 أن 1.8 في المائة من المغربة يعتمدون في عيشهم على عشرة دراهم في اليوم أو أقل،فيما يعيش 11 في المائة بعشرين درهم في اليوم بل وقل أقل. أما خريطة الفقر التي استقتها المندوبية السامية للتخطيط على أساس معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى الأخير، فهي تكشف عن الفوارق الصارخة والتباينات بين الجهات والجماعات والمدن في نسب الفقر، تنطبق عليها مقولة المغرب النافع والمغرب غير النافع، وتبرز هذه الخريطة أن وطأة الفقر أشد في العالم القروي مقارنة بالعالم الحضري، كما تتسع الفوارق بين الجهات.إن دخل السكان الذين يقطنون في الجهات التي تتمركز فيها الثروات أي الناتج الداخلي الإجمالي،يكون أعلى من دخل سكان الجهات الفقيرة،وبالتالي نفقات الأسر بالجهات الغنية سيكون – طبعا مرتفعا بالمقارنة مع الجهات الفقيرة،إذ أن 47.2 من نفقات الاستهلاك النهائي للأسر تتمركز في أربع جهات في ظل التقسيم الجهوي السابق الذي كان يضم 16 جهة قيل أن يتوسع النطاق الجغرافي للجهة من خلال عمليات إدماج ليصبح العدد الإجمالي للجهات في حدود 12 جهة حسب التقسيم الحالي الجديد.وهذه الجهات الأربع هي :الدارالبيضاء الكبرى،وطنجة وتطوان،وسوس ماسة درعة،والرباط سلا زمور زعير وهذه الجهات حسب المندوبية السامية للتخطيط تهيمن على أزيد من نصف الثروات المنتجة على الصعيد الوطني،أي بنسبة 51.2 في المائة من إجمالي الثروات التي تم إنتاجها خلال 2013.وإذا أضيفت إلى هذه الجهات الأربع،أربع جهات أخرى:مراكش تانسيفت الحوز،والشاوية ورديغة،ودكالة عبدة،ومكناس تافيلالت،فإن حصة هذه الجهات الثمانية من الثروات الوطنية تتجاوز 77 في المائة،أي نصف عدد جهات المملكة حسب التقسيم القديم،حيث تهيمن على أكثر من ثلاثة أرباع الثروات على الصعيد الوطني،ولم تتجاوز حصة الجهات الثماني المتبقية 22.2 في المائة من إجمالي الثروات التي تم إنتاجها خلال عام 2013. وإذا كان الفقر يعتبر ظاهرة عالمية فإن الدول التي قطعت أشواطا إيجابية في مسيراتها التنموية الشاملة وسجلت نسب نمو مهمة وسريعة هي التي جعلت من الفقر عدوا لذودا وأدمجت محاربته في برامجها التنموية،بينما الدول التي تحتل مراتب متدينة،ولم تحقق نتائج تنموية في مستوى طموحاتها هي تلك التي لم تضع في الحسبان أن هذا العدو الذي اسمه الفقر سيفتك برأسمالها البشري المعول عليه كمحور وأساس غاية توضع على ضوئها المخططات والبرامج التنموية لتحيق التوازن المجتمعي.فالتوازن المجتمعي يعني فيما يعنيه وجود تنمية شاملة تستجيب لحاجات الإنسان في كل مظاهر حياته الجسمية والنفسية والاجتماعية لتحقيق تنمية بشرية حقيقية تهدف إلى الرقي بحياة الإنسان دون تمييز في الجنس أو الفئة أو الجهة التي تعطي للتنمية في أي بلد صفة التنمية البشرية. يرى علماء الاجتماع أن ظهور الفوارق الشاسعة بين فئات المجتمع إلى درجة تصبح فيها الفئة الغالبة تعيش دون مستوى الحد الأدنى للحياة المقبولة للإنسان أمر يدفع إلى اختلال التوازن المجتمعي وظهور العديد من المظاهر السلبية التي تقف حجر عثرة لتحقيق الاستقرار المجتمعي والسياسي،وتظهر على المستوى المجتمعي ظواهر لها ارتباط بالفقر تتفاعل معه فتكون ناتجة عنه أو بسببه كما تنتشر الجريمة وأشكال العنف التي تشكل خطرا على استقرار المجتمع وأمنه.