لا يتعلق الأمر بمعرفتي بالعديد ممن يكتبون في الظلام (هم فقط من يضطلع على ما يدوّنون). إنما أجزم رغم أن كل تعميم خطير بما فيه هذا التعميم (الذي يتعلق بالمقولة) لألكسندر دوما أن كل الناس يكتبون، ومن كل الأعمار، بدءًا من الصغير الذي لا يجيد الكلام، فما إن يرى أحدهم يكتب حتى يطالب بورقة وقلم وينطلق في زركشة الورقة بالخطوط، مرورا بدفاتر المذكرات عند المراهقين، لغاية الخواطر التي تقع بالذهن فتدفع الواحد للكتابة، أحيانا للتجربة أو عيش دور الكاتب، أو حتى للإحساس بأنه يجب تدوين أمر ما ولو أن القارئ الوحيد هنا هو الكاتب نفسه. غالبا أصطدم بأناس، يخبرونني بأنهم كذلك يكتبون طبعا عندما يتعلق الأمر بمعرفتهم بعلاقتك بالكتابة وعند سؤالي (أو بالأحرى استغرابي) لما يخفون ما يكتبون؟ لا تجد تبريرا واضحا ! غير أنه بالإمكان استبطان أن السبب، يعود للخجل، الظهور بمظهر المغفل الذي يتطاول على مجال مقدس، خوف من السخرية أو انكشاف سطحية النص وصاحبه.. وإذا بذلوا مجهودا فإن أصدقاءهم تتاح لهم فرصة الاضطلاع على ذلك الإنتاج. يجد الناس ارتياحا عند لقائهم لكاتب، بذلك يقومون بتعرية هذا الجانب فيهم رغم أن كل شخص يعرف القراءة والكتابة، هو مشروع كاتب، أو كاتب خام وذلك لأن اضطلاع كاتب أو ممارس ضمن المجال يمكن أن يلغي شكوكهم حول تلك الإنتاجات: فتعليق الكاتب يمكن أن يغيّر علاقة الشخص بالكتابة، فإعجابه بالنص يدفع المتسائل للاندفاع بحرية في المجال وممارسة الكتابة حتى لو لم يكن ينتظر من ذلك شهرة، وتقييما دوليا، فقط تعريفا بإبداعه داخل مجتمع صغير (قد لا يتجاوز الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء). وإلغاء الكاتب من جهة أخرى لموهبة السائل، يمكن أن يكون نهاية تلك العلاقة (بين الشخص والكتابة: والأمر هنا بالغ الخطورة، فيمكنه تأخير مفكر له قدرة الانعطاف بالتاريخ، وأشدد على «تأخير» لأنه حينما يود إنسان أن يقوم بشيء بشدة، ويشعر بأنه سيبدع في ذلك المجال، فعلاقته بما يحب لن تتوقف مهما تعرض للنقد حول إنتاجه، فقط بعض التأخير كانتكاسات نفسية، فإجراءات الحقيقة تتحدى الواقع كالعواصف التي لا توقفها أغصان الأشجار). لذلك، فإذا كنت تعتقد بأن الكتابة مجال خاص بأصحابه، فأنت مغفل ! ولا معرفة لك بماهية الكتابة؛ فهي ليست مطعم يدخله زبائن خاصون، إنها التاريخ، الإنسان، الحياة، السياسة، الحب، الغضب، الأزمات، الاندفاع، الاشتياق.. الكتابة هي العيش، هي المشاعر، هي نحن، هي الأرض، ما يجمعنا، هي ما نكره، هي أحلامنا. وخاصية أخرى، إن الكاتب لا وجود له من دون كتابات فهي ما يعتمد عليه، كي يصبح ما هو عليه، حتى يدهشك، حتى يغويك، حتى يستدرجك لتكتب، لتحكي عن نفسك، للتعبير عما حولك، عن رؤيتك (التي قد تختلف عنا جميعا! )، لتنطلق صارخا بما يجول بداخلك، أو حتى لتفرّغ عن كبتك ليتسنى له أن يستمر هو أيضا بالكتابة، اعتمادا على ما كتبت ! فإذا كنت تكتب لتخفي نصوصك تحت وسادتك، فبما تختلف عن مغناجة بنهدين غضيّن، لا هي ترضع طفلا، ولا تروي حبيباً (ستجدها على الأقل تُمتع الناظرين !)، يسقط معناهما فيها مختزلين لدون معنى (لا أحد يستحق أنوثتها سواها وما الأنوثة إن لم يوقظها رفيق؟ ). أما الكتابة فهي استدعاء، وبالاستدعاء هناك من يصغي، من يأتي. انشر كتاباتك، وادهش العالم، قد تجد صديقا، حبيبا، متابعا، معاديا، ستجد الآخرين، وستجد نفسك بعدما ساحت وجالت لتواجه الآخرين. وإن خفت السخرية، فجميعنا مدعاة للسخرية ! هوّن عليك، واكتب، واجعلني «صديق». لا أنكر أن بعض ممارسي الكتابة الجمركيين يشتكون ويخنقون ويلقون باللوم على تهافت الغوغاء في المجال (الذين يدفعهم خوفهم من تفوق الغوغاء عليهم، وما لا يعرفه المتأزمون بهذا الشكل أن شهرة كاتب تجرّ من حوله، طالما أن النقد والتقييم والتعليق سيطارده) لكن متى أتيتم لهذا العالم حتى تحكمون؟ الكتابة أقدم من كل كائن متحرك على كوكب الأرض ! قد نسبّ ككتّاب كتّابا آخرين، نتطاول عليهم، نسخر منهم، ننتقدهم؛ لكن تبّت أيدينا إن كان ذلك إشارة لتوقفهم عن الكتابة ! «فبعيدا عن أنفك، يحق للإنسان فعل ما يريد» ! إن الأفضل في كل مجال، هو أول من يرحب بك ! إن العالم عالم نتشاركه، ليس ملكا لأحد ! كيف يصبح الكاتب كاتباً ؟ يقول نيتشه : «نقل حالة ما أو توتر داخلي تحدثه الانفعالات النفسية بواسطة علامات (حروف)، وكذلك وتيرة توارد هذه العلامات؛ ذلك هو الكنه الحقيقي لكل أسلوب.. جيّد هو كل أسلوب يستطيع أن ينقل حالة نفسية كما ينبغي، ولا يخطئ تحديد وتيرة العلامات والحركات». كما أسلفت، كثير هم الأشخاص الذين يرغبون في التعبير عن أفكارهم أو شعورهم، لكنهم قد يتغاضون عن الفكرة أو يكتفون بعرض ما يكتبونه على معارفهم المقربين، رغم أنهم يودون لو تصل كتاباتهم للجميع، بل قد يدوّنون دون أن يتشاركوا ما كتبوه مع الآخرين. قد يتحجّج البعض هنا بأنها أمور خاصة تتعلق بهم ولا يرغبون أن يضطلع عليها غيرهم، كأشياء لا تعدو أكثر من تفريغ انفعال في لحظات معينة، أو ملأ فراغ ! لكن لنتوقف قليلا عند هذه النقطة، فنحن نعلم أن الكتابة كتعبير، مُشابهة لباقي الفنون التعبيرية كالرسم أو الرقص أو الغناء. فمن يكتب لنفسه فقط مثله مثل من يرسم لوحات ويتفرج عليها لوحده، أو كمن يغني ولا يسمعه أحد. فإن لم يكن الأمر يتعلق بخجل أو إحساس بأن «المستوى» لا يسمح للشخص بكشف نفسه، فالتعبير هنا لا معنى له، فالفن تشارك أي عرض أمر على الآخرين للاستفادة منه، سواء كان تجربة أو عن موضوع معين. وبالانتقال لما يهمنا هنا وهم من يودون نشر كتاباتهم وإيصالها لعدد كبير من القراء، لكنهم يعجزون عن ذلك بسبب ظنهم أنهم لا يمتلكون أسلوبا كتابيا بمستوى يمكّنهم من توصيل أفكارهم بطريقة تعجب القراء وتثير اهتمامهم. نُوضّح بأن الكتابة ليس لها أسلوب محدد كطريقة معينة أو محددة، إنما مثلها مثل الكلام والتحدث، وأن تكتب هو أن تدوّن ما تريد أن تقوله. فعندما تناقش شخصا ما بالبيت أو بأي مكان عام، فإنك تحاول إيصال أفكارك بطريقة يفهمها، وهي بأن توضحها بزيادة وتُجيب كذلك على أغلب تساؤلاته. والأمر لا يختلف عن الكتابة، فهذه الأخيرة كذلك حوار مع شخص لكنك لا تراه. لذا فحينما تكتب، فأنت تناقش، وكما تفعل في حوارك المباشر مع المستمع، يجب أن تفعله كذلك مع القارئ. بهذا ما إن تبدأ بكتابة ماكنت لتقوله لو كان القارئ معك أو يجلس بجانبك ينتظر منك أن تخبره بما تريد مشاركته، حتى تجد نفسك وأنت تكتب بكل سهولة وثقة، بل وتزيد من إيضاح أفكارك باعتبار أنك تضع في مخيلتك أن القارئ كان ليسألك حول إحدى النقاط أو يطلب زيادة من الشرح لو أن تواجده كان واقعيا. هذا بالنسبة للكتابة الموضوعية، أما عن الشعر فالأمر تعبير انفعالي لا يحتاج للشرح بل للإلقاء والقدرة على وصف مشاعرك بدقة مستعملا المجاز. بالنسبة للإلمام باللغة التي تكتب بها، فمن المعروف أن من يودون أن يكتبوا غالبا يقرؤون، لذا فإنهم يمتلكون مبادئ وقواعد الكتابة، وما كان ينقصهم سوى الجرأة. هذا ما نراه في كتابات بعض الأطفال، والتي يندهش المرء عندما يصادف ويقرأها، ويعلم أن كاتبها لا يتجاوز الثمانية أو العشرة أعوام ! فإن كنت تنتظر أن تمتلك أسلوبا كتابيا حتى تبدأ بالكتابة والنشر، فأنتَ كمن ينتظر إلى أن يصبح لاعب كرة قدم جيد حتى يشارك الآخرين في اللعب ! أو أنتِ كمن لا تُريد أن تغني أمام جمهور حتى يطابق أداؤها وصوتها صوت وأداء أم كلثوم !! أو لاتريد لأحد أن يسمع صوتها حتى تدرس الموسيقى (وكأن المُغنّيين يدرسونها !) .. فالمهارة تحتاج للممارسة، والممارسة هي التي تطور الأسلوب. والكتابة ليست إلا حُلما مُوّجها، كما بتعبير الكاتب الأرجنتيني بورخيس. ودون كلمات أو كتابة أو كتب لم يكن ليوجد شيء اسمه تاريخ، ولم يكن ليوجد مبدأ الإنسانية، بِرأي هرمان هسه. بهذا، فإذا فكرت أن تصبح كاتبا ولم تعرفك كيف ؟ فإن تشارلز بوكوفسكي كتب لكَِ قصيدة يقول فيها : «إذا لم تخرج منفجرةً منك، برغم كل شيء فلا تفعلها. إذا لم تخرج منك دون سؤال، من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك فلا تفعلها. إذا كان عليك أن تجلس لساعات محدقاً في شاشة الكمبيوتر أو منحنياً فوق الآلة الكاتبة باحثاً عن الكلمات، فلا تفعلها. إذا كنت تفعلها للمال أو الشهرة، فلا تفعلها. إذا كنت تفعلها لأنك تريد نساءً فلا.. تفعلها. إذا كان عليك الجلوس هناك وإعادة كتابتها مرة بعد أخرى، فلا تفعلها. إذا كان ثقيلاً عليك مجرد التفكير في فعلها، فلا تفعلها. إذا كنت تحاول الكتابة مثل شخص آخر، فانسَ الأمر. إذا كان عليك انتظارها لتخرج مدويّةً منك، فانتظرها.. بصبر. إذا لم تخرج منك أبداً، فافعل شيئاً آخر. إذا كان عليك أن تقرأها أولاً لزوجتك أو صديقتك، أو صديقك أو والديك أو لأي أحد على الإطلاق فأنت لست جاهزاً. لا تكن مثل كثير من الكتّاب، لا تكن مثل آلاف من البشر الذين سمّوا أنفسهم كتّاباً، لا تكن بليداً ومملاً ومتبجّحاً، لا تدع حب ذاتك يدمّرك. مكتبات العالم قد تثاءبت حتى النوم بسبب أمثالك. لا تضِف إلى ذلك. لا.. تفعلها. إلا إن كانت تخرج من روحك كالصاروخ، إلا إن كان سكونك سيقودك للجنون أو للانتحار أو القتل، لا تفعلها. إلا إذا كانت الشمس داخلك تحرق أحشاءك، لا تفعلها. عندما يكون الوقت مناسباً، إذا كنت مختاراً ستحدث الكتابة من تلقاء نفسها وستستمر بالحدوث مرة بعد أخرى حتى تموت أو تموت هي داخلك. لا توجد طريقة أخرى. ولم توجد قط.»(1) 1 : تشارلز بوكوفسكي - قصيدة تريد أن تصبح كاتباً؟، ترجمة : محمد الضبع موقع المسيرة الإلكتروني.