اشتهر فريد النعيمي عند المثقفين الفرنسيين بأنه في مداخلته يؤلف محاضرة ثانية على هامش المحاضرة الأولى، يبتدئ دائما تدخله بحيلة حجاجية وبلاغية، يفتتحها بقوله (لم أكن أنوي أن أتدخل بعد هذا العرض القيم الذي قدمه ..فلان(، وأحيانا يستعمل مدخلا آخر، يستهله، )سوف أكون موجزا في تدخلي (لكي يستدرج المتلقين ويشد بعرضه أنظار الجمهور الذي ينسجم مع مرافعته كل من عبر دار المغرب بباريس منذ بداية عقد الستينات من القرن الماضي لابد أن يلتقي بفريد النعيمي، لقد عاش طالبا من المهد إلى اللحد، توثقت علاقتي به عندما اكترى لنا ونحن طلبة منزلا في نهاية سنوات السبعينات، على شكل شقة صغيرة يسميها الفرنسيون بالأستوديو STUDIO في الطابق الثاني الذي يقابل العمارة الصغرى التي كان يسكن فيها وكانت في ملكية زوجته البشوشة أنيك. توطدت الصلة بيننا وصرنا نلتقي يوميا، كان المرحوم فريد النعيمي رجل التواصل بامتياز، لا يتوقف عن الحوار والمجادلة لمدة أربعة وعشرين ساعة كاملة أو هكذا يخيل لي، في الشوارع والجامعات والأحياء الجامعية والمكتبات والمقاهي، يزورنا كل مساء عند عودته إلى منزله، يحاول أن يوهمنا بأنه أتى فقط لتحيتنا ثم ينخرط في النقاش الثقافي الجاد الذي ينسيه وجهة منزله، كما أنني كنت ألتقي به يوميا في مكتبة معهد الدراسات للغات الشرقية، التي لم يكن يبرحها إلا عندما تعلن إدارة هذه المؤسسة عن إقفال أبوابها. حكى لي المرحوم محمد بن يحيى نقلا عن رواية الأكاديمي محمد معتصم أحد الخبراء المغاربة المختصين في ميدان التعليم والعاملين بمنظمة اليونسكو، الذي تعرف على النعيمي في السنوات الأولى عند قدومه إلى فرنسا، أن فريد النعيمي كان في البدء لا يجيد الحديث باللغة الفرنسية، ولهذا السبب اتصل بمجموعة من الطلبة المغاربة راجيا منهم أن يساعدوه على أسهل الطرق لتعلم اللغة الفرنسية، وأن احد الأشقياء أراد أن يراوغه فاقترح عليه أن يتعلم اللغة الفرنسية من خلال قراءة كتب سلسلة ماذا أعرف؟ que sais-je ? ومنذ تلك اللحظة تبخر وجود فريد النعيمي وغاب عن الأنظار لسنوات قليلة حتى وجدوه في أحداث ثورة ربيع باريس سنة 1968 وهو ينازع الفيلسوف جان بول سارتر في تجمع خطابي على أخذ ألكلمة ضد مواقف سارتر المساندة للصهيونية، بلغة فرنسية أنيقة تذكرنا بالخطباء المفوهين الذين قادوا الثورة الفرنسية. عندما كانت التيارات اليسراوية المغربية في أوجها، تصارع الأحزاب التقدمية حول شرعية القضية الوطنية ومغربية الصحراء ، كان النعيمي منحازا بالمطلق للخط الوطني التقدمي، مواجها عنيدا للخصوم بحكم ثقافته التاريخية والأنتربولوجية والسوسيو-ثقافية، بالحقائق الموضوعية التي تؤكد زيف الأطروحة الانفصالية. ومن الطرائف التي مازالت راسخة في ذهني وكنت شاهدا عليها أنه في أحد الاجتماعات (الأوطمية) الصاخبة، التي كان محورها عن القضية الترابية حيث كانت تجري وقائعها في صومعة دار المغرب العالية ، كان يحضرها آنذاك كبار زعماء التيارات الطلابية وتستمر حتى مطلع الفجر، كان اليسراويون المغاربة يزايدون على مناضلي الأحزاب الوطنية وأنصار مغربية الصحراء بأنهم يلتقون مع موقف النظام المغربي، وأنهم مجرد الصوت الحاكي للنظام الملكي، ومازلت أذكر أن فريد النعيمي تصدى لهؤلاء بالحجة المنطقية لدحض زيف وتهافت ادعاءاتهم . بدأ تدخله بمساءلة رئيس الجلسة الذي كان ينتمي إلى تيار )إلى الأمام ( اليسراوي ، كم هي الساعة الآن؟ فأجابه رئيس الجلسة معتقدا أن سؤال النعيمي يتعلق بنقطة تنظيمية ترتبط بأشغال تسيير الجلسة، أن الساعة الآن هي الثانية والربع صباحا ، لكن النعيمي استمر قائلا بجدية واثقة. تصوروا يا رئيس الجلسة، أيها الحضور الكريم، أن الملك الحسن الثاني حضر إلى هذه القاعة وسألناه كم هي الساعة الآن؟ وكان جوابه مثل جواب رئيس الجلسة، إنها الساعة الثانية والربع صباحا، آنذاك علينا أن نرفض جوابه وأن نقول له إن الساعة ليست كذلك و أنها ليست ساعة حقيقية، لأنها توقيت صادر عن ملك البلاد، ثم انتقل إلى فند ودحض ما تبقى من أراء الخصوم معتمدا على المعطيات التاريخية والأنتربولوجية الدقيقة، التي تعبر عن واقع الإنسان المغربي وخصوصية الأعراف والتقاليد في المناطق الصحراوية الجنوبية. كان فريد النعيمي يمثل نجم المشهد الثقافي الفرنسي بامتياز، تجده في الأنشطة الثقافية والفكرية العمومية التي تجري في مدينة باريس الأنوار. اشتهر فريد النعيمي عند المثقفين الفرنسيين بأنه في مداخلته يؤلف محاضرة ثانية على هامش المحاضرة الأولى، يبتدئ دائما تدخله بحيلة حجاجية وبلاغية، يفتتحها بقوله (لم أكن أنوي أن أتدخل بعد هذا العرض القيم الذي قدمه ..فلان(، وأحيانا يستعمل مدخلا آخر، يستهله، )سوف أكون موجزا في تدخلي( لكي يستدرج المتلقين ويشد بعرضه أنظار الجمهور الذي ينسجم مع مرافعته، وقد يطول تدخله إلى نصف زمن مداخلة المحاضر أو أكثر، بل إن المثقفين الفرنسيين الذين تعودوا حضور النعيمي في محاضرتهم صاروا يعتبرونه طرفا مشاركا في كل أنشطتهم وعنصرا متعاقدا معهم لا تكتمل محاضرتهم إلا بتدخلاته التي تمنحها نكهة خاصة وصدقية علمية مضافة. ذات يوم خريفي، حضرنا معا، محاضرة للعالم اللغوي فنسان مونطوي Vincent Monteuil أحد الأجلاء الذي اشتهر بكتابه الكبير عن ) اللغة العربية الحديثة( بعد أن شارك في المقاومة الفرنسية ضد النازية وتعرض سنة 1945 لجروح خطيرة، انتقل إلى الإسلام وعرف ببفنسان منصور مونتاي ، في تلك المحاضرة تطرق فنسان مونتاي إلى الحديث عن المهدي بنبركة (ربما كانت المناسبة ذكرى اختطافه) كان المحاضر فنسان منصور مونتاي عارفا بتاريخ المغرب الحديث في عهد الحماية وكذلك في فترة بعد الاستقلال. جاء فنسان منصور مونتاي إلى هذه المحاضرة ، يحمل تحت معطفه مسدسا حقيقيا أخرجه في لحظة شطح عاطفي عند القائه للمحاضرة ووضعه على الطاولة أمام الجمهور الذي فوجئ بسلوكه، مؤكدا أن خطأ المهدي بنبركة القاتل، أنه كان يثق في الدولة الفرنسية وفي خصومه، لأنه لم يأخذ الحيطة والحذر اللازمين كما أفعل أنا، منذ فترة المقاومة ضد النازية، ومن تم يكاد هذا المسدس لا يفارقني أبدا. وعندما أنهى محاضرته، كان يجلس بجانبي في الصفوف الأمامية الفقيد فريد النعيمي وقبل أن يفتح المحاضر لائحة المتدخلين، بادر بتوجيه الكلمة لفريد النعيمي دون أن يطلبها، الذي قام بتصحيح المعلومات المغلوطة التي وردت في المحاضرة بأناقة علمية يشهد له بها في المحافل الثقافية، كان المرحوم فريد النعيمي بدويا بالمعنى الحضاري للكلمة،زاهدا في الحياة، يشبه في مظهره وخشونة لباسه رجال التصوف، كاظما للغيظ بالرغم من انفعاله البادي على وجهه، رقيقا في سلوكه، يستعمل في خطاباته كل آيات التبجيل والوقار التي تليق بالمخاطب بلغة موليير المعتقة، التي تذكرنا بخطب النبلاء الموسوعيين. يجيد الحديث بأكثر من سبع لهجات أمازيغية متوسطية، يستعمل في حديثه اليومي لهجة مغربية مكسرة موسومة بغنة فرنسية.ولهذا يمثل حالة فريدة من نوعها في تاريخ تشكل النخب في العالم الثالث، لقد أدرك الروائي المغربي الطاهر بنجلون بحدسه الابداعي أننا أمام شخصية النعيمي نلتقي بظاهرة استثنائية لا تتكرر،كيف يمكن لعامل ينتمي إلى البروليتاريا التي كانت في ستينات القرن الماضي معظمها من حشود الأميين، أن ينتقل من وضعه الطبقي القديم إلى مصاف النخب العالمة ،بينما كانت التقليعة المتمركسة السائدة آنذاك عند بعض الطلبة اليسراويين، تروج لأطروحة الانتحار الطبقي والالتحاق بصفوف البروليتاريا والتخلي عن المعرفة لأنها مجرد نزوة برجوازية عابرة ،وما زلت أذكر لحد الآن حجم الخسارات التي ذهب ضحيتها أنجب الطلبة المغاربة الذين لم يتابعوا دراستهم العليا ورفضوا انجاز شواهدهم العلمية وانتهوا إلى مسارات تراجيدية حزينة عندما تنكروا للمعرفة وتحولوا إلى عمال بدون وعي طبقي يجترون اليوم خيبتاهم . ذات يوم خريفي زارني كعادته بمنزلنا وتجاذبنا كما جرت العادة أحاديث الوطن الذي يحضر في العينين وبدون تمهيد أو مقدمات وبعد لحظة صمت ثقيل جرى بيننا، كان النعيمي ينظر إلى مطر النافذة وكنت أجلس خلفه على كرسي فرنسي قديم. بدأ النعيمي ينشد أبياتا للشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي بعربية سليمة : ليس التعلل بالآمال من أربي ولا القناعة بالإقلال من شيمي ولا أظن بنات الدهر تتركني حتى تسد عليها طرقها هممي. وقبل أن يسترسل النعيمي في قراءته للأبيات الموالية، قاطعته من فرط الذهول . من أين لك يا فريد بكل هذا الفيض الشعري الفصيح؟ وطلبت منه أن يحكي لي قصة هذه الأبيات الشعرية الباذخة، وألححت عليه في السؤال، خاصة أني كنت أعتبره بعيدا عن سليقة لغة العرب ، لكنه حاول في البداية مداورتي حتى لا يستعيد جراح الماضي البعيد الذي يريد أن ينساه، و بعد إلحاح صادق أخبرني أن معلمه الذي لقنه هذه الأبيات الشعرية قد تعرف عليه في فترة ما بعد الاستقلال، عندما كان منتميا إلى إحدى فصائل المقاومة المغربية التي أظنها منظمة (اليد السوداء) في مدينة الدارالبيضاء، وأنه بسبب الخلافات التي كانت انذاك بين المجموعات الفدائية تعرض للاختطاف فنقلوه إلى مدينة تطوان حيث كانت توجد قيادة المقاومة وألقوا به في غيابة الجب بدار بريشة السيئة الذكر، وشاءت الصدف أن يقتسم الزنزانة معه الأستاذ عبد السلام الطود أحد مؤسسي )حزب المغرب الحر( الذي كان من أوائل المجازين المغاربة قبل مجيء الاستقلال من جامعة الأزهر بمصر، حيث كان ينشد شعر المتنبي لتجزية الوقت والترويح عن النفس، وأن النعيمي بقي معه إلى أن نقلوه أمامه في حالة مزرية إلى وجهة مجهولة. أما النعيمي فقد كان حظه سعيدا، فقد شاءت الأقدار أن يزور معتقل دار بريشة أحد المسؤولين في المقاومة من قيادة الدارالبيضاء، الذي وجد النعيمي معتقلا فيها ، فأمر بإطلاق سراحه فورا نتيجة لدين سابق عليه وفضل جميل، كان قد قدمه النعيمي لهذا المسؤول القيادي في اطار الخصومات التي كانت جارية بين الفصائل المتناحرة، عندما كان النعيمي ينشط بين دروب المقاومة بالدارالبيضاء، ولقد أخبرت في حينه، الصديق الروائي بهاء الدين الطود بهذه الواقعة، وقدمته إلى النعيمي لأن عائلة الطود المختطف كانت في تلك الفترة تتطلع بشوق إلى معرفة أخبار تتعلق بغياب أحد أبرز أعمدتها ، وكل تلك المعلومات التي أفصح لي بها الفقيد النعيمي هي ما توصلت إليه هيئة )الإنصاف والمصالحة(.بحضور زوجته المحترمة كان المرحوم فريد النعيمي قارئا جاحظيا لتاريخ المغرب والمغارب، حتى صار يمثل أيقونة المشهد الثقافي الفرنسي،يسبق الطلبة والمثقفين إلى حضور الأنشطة الثقافية، يمتلك خزانة نادرة من الكتب التاريخية والأرشيف الاستعماري عن المغرب منذ القرن التاسع عشر إلى ما قبل نهاية القرن العشرين ذات يوم كنت متجها إلى محطة مترو لاموط بيكي La Motte-- Picquet،القريبة من منزلنا ،و كان النعيمي قادما منها وعندما رآني ،لوح مناديا و كأن الأمر يتعلق بخطب جلل، وعندما اقتربت منه سألني الفقيد النعيمي، إن كنت أملك خمسة وعشرين الف درهم بما يعادلها بالفرنك الفرنسي كي أسلفه إياها ليشتري بعض وثائق وزارة الخارجية الفرنسية المعروضة للبيع و المتعلقة بتاريخ المغرب بثمن خمسين ألف درهم ، وكان هذا المقترح العلمي يتجاوز سقف ميزانيتي الطلابية المتواضعة و حتى اهتماماتي العلمية، فأعرضت عنه وعندما التقيته في اليوم الموالي كان باشا فرحا ،وأخبرني بأنه قد غنم الصفقة ،ومن نافذة المترو كنت أنظر باستغراب إلى هذا الفتى التفراوتي القادم من أقاصي جنوب المغرب، كيف استطاع أن ينجز النبوغ المغربي في بلاد الشمال، كنت أتسلى بمداعبته عندما أخاطبه بعربية فصيحة لحد الاستفزاز،أعرف أن معرفته بالعربية الفصحى )بالأحرف الكبيرة( جد متواضعة وكان يدرك مقصدي من هذه اللعبة الشيطانية فيكتفي إما بالرد بالفرنسية أو يعيد على مسامعي أبيات من قول المتنبي التي علمه إياها مثقف من مدينتي القصر الكبير، شاءت الظروف الصعبة أن تجمعهما معا وتجمعني معه، لكي أحكي عنه شهادة عابرة حدثت بدار بريشة بعد مرور سنوات عديدة ،وبعد مجئ ما يسمى بالانتقال الديمقراطي أو ما أسميه بالربيع الاتحادي وعودة المهاجرين المغتربين إلى الوطن ،كنت أتجول وحدي في منطقة أكدال التي كان يلتقي فيها الاتحاديون القدماء ، وقريبا من المركب الرياضي رأيت شبح فريد النعيمي العليل، لم أكن متأكدا من شخصه إلا بعد أن تعانقنا ،لكنه لم يكن يشبه فريد النعيمي الذي عرفته في دار المغرب وفي Rue Du Commerce، ما دام هذه المرة بدون محفظة الكتب التي كانت هناك لا تفارقه أبدا،