تتحدث الأخت نجاة بوزيد، زوجة الفقيد عبد الرحيم في هذا الحوار الذي أجرته معها جريدة »النشرة« بتاريخ 3 9 يناير 1994، العدد 9 عن علاقتها العميقة بفقيدنا الكبير، ظروف اللقاء الأول والاتفاق على الزواج، ومن ثمة تربية الأبناء، كما تطلعنا نجاة عن الطقوس اليومية لعبد الرحيم، طقوس الأكل والقراءة والكتابة، متوقفة عند بعض المحطات النضالية والمحن التي عاشها عبد الرحيم، وكانت فيها خير سند للفقيد كربة بيت ورفيقة كفاح وحياة. نريد الاخت نجاة، اذا سمحت ان نتعرف على من هي زوجة المجاهد الراحل عبد الرحيم بوعبيد ورفيق عمره، فهل لك ن تد لي لنا ببعض المعلومات عنك؟ ازددت سنة 1940 بالفقيه بن صالح، ودرست بمراكش، ثم بالرباط بثانوية للاعائشة، ترعرعت بمنطقة تملالت، قرب سيدي رحال، وانتقلت مع العائلة الى الرباط نظرا لانتقال والدي للعمل بالعاصمة، وكنت داخلية , سواء عندما درست بثانوية للا عائشة بالرباط او عندما درست بمراكش, أبي موظف بوزارة الصحة، وانحدر من عائلة كثيرة الافراد فقد كنا عشرة اخوة، وبالتالي فقد واجه أبي صعوبات جمة ليمكن كل هذا العدد من الاولاد من الظروف الملائمة للدراسة والحياة، كان عدد البنات ستة وعدد الذكور أربعة لم أشتغل الا بعد زواجي، إذ أقمت روضا للأطفال، وقد كان في حقيقة الامر أشبه بدار للإحسان, اذ ان نصف الاطفال المسجلين به لم أكن أتلقى من أوليائكم أجورا، الشيء الذي جعلني أعاني من عجز مالي، ولم يكن عبد الرحيم بقادر على أن يؤمن كل احتياجات العائلة, بالإضافة إلى التحملات المترتبة عن وضعية الروض, وقد تمكنت من الصمود لمدة 8 سنوات ثم اضطررت بعد ذلك لإغلاق الروض الذي كان بحي أكدال، والذي كان مفتوحا من سنة 1970 الى 1978. لقد كان الامر صعبا بالنسبة إلي لأنني كنت أحب الاطفال وأحب العمل معهم. ومنذ ذلك الحين لم اشتغل قط، لكنني كنت مطوقة بالكثير من المهام العائلية, اذ كان علي ان أتتبع الاولاد واهتم بهم، طبعا عبد الرحيم كان يحاول ان يخصص لهم الوقت اللازم، ولكنني لم أكن أطلب منه ان يعمل أكثر مما في طاقته بحكم انشغالاته ونشاطه المكثف. كيف تم اللقاء مع عبد الرحيم بوعبيد , وما هي ظروف ارتباطكما؟ تعرفت على عبد الرحيم في شهر ماي 1958 في بيت السي عبد الرحمان بن عبد النبي , الذي كان صديقا له وهو زوج أختي. وكان عبد الرحمن وعبد الرحيم قد اتفقا على أن يلتقيا بعد مدة طويلة لم يتلقيا فيها، وعندما عين السيد عبد الرحمان سفيرا للمغرب بلبنان .عين أبي سكرتيرا بالسفارة، فاضطررنا الى الانتقال الى لبنان، وقد نظمنا حفل خطوبتنا قبل ان نسافر الى لبنان. ومباشرة بعد خروج عبد الرحيم من الحكومة، التحق بي بلبنان، وهناك عقدنا زواجنا بحضور افراد من عائلتينا، واذكر من الشخصيات اللبنانية التي حضرت المناسبة السيد عبد السلام الجزائري. أمضيت مع عبد الرحيم عشرة أيام ببيروت، ثم سافرنا لقضاء شهر العسل، ببحيرة كون بإيطاليا, وهناك التقينا الاستاذ المهدي المنجرة الذي كان يمضي شهر العسل بنفس المكان، وقد قضينا بضعة أيام معا، قبل ان يأخذ كل منا وجهته. أين كانت إقامتكم الأولى؟ خلال سفرنا أخبرني عبد الرحيم ان أباه قد بنى بيتا ببطانة بسلا وانه لم يسبق له ان زار هذا البيت ولكنه يقترح ان نقيم به، وهو بالمناسبة منزل كلفت عملية بنائه عدة سنوات، ولم يكن هناك مهندس يشرف على البناء، ولهذا فقد تعثر العمل وكان يعرف تعديلات متكررة. لم يهتم عبد الرحيم بتفاصيل عملية بناء هذا البيت، بل كان يزود والده بما يحتاجه خلال مراحل البناء, اذ اسلتم قرضا من مصرف المغرب لهذه الغاية. وعندما التحقنا بهذا البيت، لم نكن وحدنا, بل كان يسكن معنا ايضا والدعبد الرحيم ووالدته، وشقيق عبد الرحيم الاكبر وزوجته وشقيق اصغر لعبد الرحيم، وشقيق آخر كان يتولى مهام [قايد] بالرماني وكان يقيم معنا في بعض المراحل. وقد تصورت في البداية انه سيكون صعبا على ان اندمج في هذه الحياة الجماعية، ولكنني بالنظر الى الاستقلالية التي كنت أتمتع بها في الطابق الذي خصص لنا في الدار، فقد انسجمت بدون مشاكل. وفي نفس هذه الدار رزقت بأمين عام 1963 في ظروف ما يعرف بمؤامرة يوليوز 1963 ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث اتسعت حملة الاعتقالات وكان عبد الرحيم يمضي اليوم بأكمله في الدارالبيضاء. وأصيب »أمين« بمرض خطير، وعندما كان عبد الرحيم يدخل الى الدار وسحنته تدل على حجم القلق الذي يشعر به بسبب الاحداث، كان يسأل عن صحة أمين، فكنت اقول له أنه بخير، حتى لا أضيف الى نفسه متاعب أخرى، بالرغم من ان الاطباء كانوا قد فقدوا الامل تقريبا في شفائه. أما ابني علي فقد ازداد عام 1965، وبعد شهر من ذلك اختطف المهدي بنبركة، وفي 1966 ازداد المهدي، الذي اخترنا له هذا الاسم تخليدا لذكرى الشهيد العزيز. وبالمناسبة، هل كان المهدي بنبركة يتردد على بيتكم بسلا، وكيف كانت علاقته بكم، وكيف كنت تنظرين الى علاقته بعبد الرحيم؟ كان المهدي رحمه الله كثير التردد على بيتنا بسلا، وكانت له مع عبد الرحيم مناقشات عاصفة، ولم أكن أعرف ما كان يدور بينهما، كانت صداقتهما عميقة وقوية إلا أنهما كانا يمثلان شخصيتين مختلفتين في الطباع، واعتقد ان عبد الرحيم ربما كان يسعى الى «»تأطير»« حماس المهدي وميله الى اتخاذ مبادرات كان يعتبرها عبد الرحيم سابقة لأوانها. بلاشك، فإنك تذكرين أسماء شخصيات أخرى، كانت تأتي الى بيتكما ببطانة بسلا. أذكر من هذه الشخصيات المعطي بوعبيد ومامون الطاهري ومحمد الطاهري وعبد الله ابراهيم والمحجوب بن الصديق والهاشمي بناني كيف انتقلتم للإقامة بالرباط؟ انتقلنا للإقامة بالرباط بحي أكدال عام 1976، وأشير إلى أن عبد الرحيم كان شديد الارتباط بالمكان، فعندما يألف المكان لا يفكر في مغادرته إلا بصعوبة. كان أولادي يدرسون بالرباط وعلي أن أنقلهم ثم أعود إلى البيت، وأعود لانتظار خروجهم، وأصغر أولادي هو ابراهيم الذي ازداد عام 1972، وكان يتعين علي أن أعتني به بحكم صغر سنه, كما كنت في تلك الفترة أدير روض الأطفال، وهذا كان شاقا ولذلك لم يكن هناك مناص من الانتقال إلى الرباط. ألم يكن بإمكانكم آنذاك استئجار سائق أو مساعد أو مساعدين للتخفيف من عبء هذه المهام التي كانت تثقل كاهلك؟ كنا نعيش عيشة الكفاف، وكانت لنا اقتراضات نردها على أقساط، وأنا أنحدر من عائلة متواضعة، لهذا فلم تكن لدينا وسائل للعيش أحسن. نعرف أن عبد الرحيم لم يكن له مكتب خاص به بالمقر المركزي للحزب، لهذا فإن بيته مثل امتدادا لفضاء المقر الحزبي، ففي بيته كان يجتمع مع عدد من المناضلين والمسؤولين، ويستقبل وفودا حزبية ونقابية ولم يكن ذلك خاضعا لمواعيد مضبوطة للزيارة، كيف كنت تتعاملين مع هذه الوضعية؟ * منذ البداية تعودت على ذلك، وكنت على علم تام بما سأواجهه من أوضاع، وقبلت ذلك عن طواعية، وكان الناس يزوروننا في جميع الأوقات وبدون سابق إشعار، وكان يطلب مني أن أحضر الطعام لزوار مفاجئين، وعندما أقول له بأنني كان يجب أن آخذ و قتي لتحضير طعام يليق بالضيوف، كان يرد» أعدي لنا بسرعة أي شيء نأكله»، وهكذا تعودت على تحضير مثل هذه الوجبات السريعة. كنت في بعض الأحيان أحضر بعض الأطباق بعناية خاصة وأنتظر عودته، لكنه كان يتأخر، وكان هذا مصدر إزعاج لي في البداية, لأنني كنت »أتمرن« على تحضير الأكل, إذ لم أكن أفعل ذلك في بيتنا، وبالتالي كنت أرغب في أن يطلعني عبد الرحيم عن رأيه فيما حضرت من طعام. عموما، كيف كان يتعامل عبد الرحيم مع الأطفال وطقوس الأكل؟ قضية الأكل بالنسبة لعبد الرحيم مسألة ثانوية، كان يقول إننا لا نعيش لنأكل، فمهمة التغذية هي أن تضمن الاستمرار فقط. لقد كنت أرسل إليه الأولاد لإقناعه بالجلوس على المائدة، وإذا أتى فلكي يأخذ لقمتين وينسحب، وأحيانا كان يجلس معنا على المائدة، نحن نأكل وهو فقط جالس معنا. تعرفت على عبد الرحيم وهو »رجل دولة,« أي عندما كان وزيرا ففي تلك الفترة، تمت الخطبة بينكما، ثم تزوجتما بعد خروجه من الحكومة، حيث أصبح رجل المعارضة«، هل لمست فارقا في سلوك وتفكير عبد الرحيم بين هذين المرحلتين؟ عندما كان وزيرا كان يقطن بزنقة مكناس، في مسكن للدولة، كان مشغولا باستمرار، وله زوار كثيرون، كان مثلا لا يكاد يفترق مع السي محمد الحبابي. عندما قرر عبد الرحيم أن يطلب يدي، اتصل بأبي هاتفيا وأخبره بأنه يريد مقابلته للتحدث إليه في الأمر، واقترح على والدي أن يتناولا معا طعام العشاء بمنزله بزنقة مكناس، وفعلا وصل والدي في الميعاد المحدد وكان مرفوقا بعبد الرحمن بن عبد النبي وليلى أختي زوجة السي عبد الرحمن. استمرت المذاكرة مدة طويلة، وتناولت قضايا متعددة، ولم يظهر أي أثر للعشاء، هنا بدأ يظهر للضيوف بأن عبد الرحيم نسي تماما أن الدعوة فيها عشاء، وفجأة انتبه عبد الرحيم للأمر، فدخل المطبخ وسأل أحد العاملين عنده في البيت, هل هناك ما يمكن أن نأكله، فأجابه: ليس هناك سوى »قرع مقلي فقط, رجع عبد الرحيم إلى ضيوفه، وأبدى أسفه لكونه نسي تحضير العشاء واقترح عليهم جميعا أكل »القرع المقلي«. كان هذا هو عشاء الوزير وبعد ذلك اكتشفت فعلا بأن عبد الرحيم لايولي لقضية الأكل أية أهمية، فكان مثلا يستدعي بعض الناس لتناول غذاء أو عشاء معنا ولا يخبرني مسبقا. وسواء في مرحلة تقلده لمهام حكومية أو عمله في المعارضة بقي عبد الرحيم الإنسان هو هو، ممهورا بطابع البساطة والحيوية من هم رفاق عبد الرحيم في النضال الذين تحولوا إلى أصدقاء للعائلة؟ كان المهدي بنبركة يزورنا, ولكن لم يسبق لي أن زرت بيته، ولم أتعرف على زوجته إلا فيما بعد، أما الفقيه البصري فعندما كان معتقلا، كان أبناؤه وزوجته يقيمون معنا، وكنا كعائلة واحدة. وبحكم الاتصال المستمر بين عبد الرحيم ومحمد الحبابي، فقد تعرفت على زوجته، وأصبحت بيننا ألفة ومودة، وفي مرحلة أخرى، تعرفت على أسرة السي محمد اليازغي ونشأت بيننا روابط متينة. وماذا عن علاقته الخاصة بمحمد الخامس طيب الله ثراه؟ كان عبد الرحيم يحمل تقديراً كبيراً لشخص محمد الخامس رحمه الله، وقبل أن يغادر عبد الرحيم العمل الحكومي، التقى بالملك في مونترو بسويسرا وأخبره بأنه يعتزم عقد قرانه، فأهداه محمد الخامس خاتما وقال له « هذا الخاتم هو لزوجتك» وكان عبد الرحيم يقدر في محمد الخامس تواضعه واهتمامه بالإنصات إلى الأخرين، وكان محمد الخامس يستشير عبد الرحيم في أمور متعددة. كيف كان البرنامج اليومي لعبد الرحيم عندما يبقى في البيت، وهل كان يمارس القراءة والكتابة منعزلا، أم يشتغل وسط أفراد العائلة. بعد تناول وجبة الفطور مباشرة، كان عبد الرحيم يأخذ معه الجرائد وينسل الى فضائه الخاص وهو مكتبه، وهناك يستقبل زواره ويتناقش معهم وأحياناً يمتد النقاش الى ساعات متأخرة، وفي أحيان كثيرة انتظرنا طويلا نزوله لتناول الغذاء أو العشاء معنا. نعلم أن آخر بيت عاش فيه عبد الرحيم هو المنزل الحالي الموجود بزنقة زرهون، كيف تم الانتقال الى هذا المنزل، وكيف وفرتم لعبد الرحيم داخله فضاء خاصاً منعزلا كما كان عليه الأمر سابقاً؟ أريد أن أعود بكم أولا الى ظروف الانتقال الى منزل أكدال, فقد كان قريبا من مكان عملي، فلاحظت أنه يبدو خاليا من السكان، فاستفسرت الحارس فأخبرني أنه مطروح للبيع فاستأذنته في دخوله، فإذا بي أجد عبد الرحيم يزور البيت بمعية سمسار, وكانت صدفة غريبة إذ أننا لم نقرر عمليا الشروع في البحث عن شراء منزل وليس لدينا وسائل ذلك. في المساء، عندما التقينا بالبيت، قال لي عبد الرحيم بأن السيد العوفير هو الذي اتصل به هاتفيا واقترح عليه زيارة هذه الفيلا التي يملكها السيد الأبيض ويريد بيعها. ومرة أخرى، فإن مجموعة من الأصدقاء هم الذين بادروا بالاتصال بمالك الدار، ومارسوا ضغطاً على عبد الرحيم لإنقاعه بشرائها وقدموا التسبيق لمالكها واصطحبوا عبد الرحيم لإنجاز ملف القرض. فعبد الرحيم عندما كان وزيراً طلب منه أصدقاؤه شراء أرض بالسويسي وكان ثمن الأرض ستة دراهم للمتر المربع، ولكنه كان يرفض، ولهذا فقد وجد الأصدقاء صعوبة كبيرة في إقناعه مرة أخرى بشراء فيلا حي أكدال ومنهم الحاكمي والشامي وآخرون. بعد شراء الدار، طرح مشكل الرحيل، فكان عبد الرحيم يقول» المهم أننا اشترينا الدار»، ولا يهم متى سننتقل إليها، فانتظرت حتى سافر لباريس وأتيت بشاحنة ونقلت الأثاث ورتبت جميع الأشياء في البيت الجديد, لكنني تركت له مكتبه ليشرف بنفسه على نقل محتوياته الى البيت الجديد, عندما انتظرته بالمطار، لاحظ بأنني لا أتجه بالسيارة الى سلا فاستفسرني إلى أين أنت ذاهبة فقلت له إلى بيتنا الجديد, وهنا أحسست كما لو أنه أصيب بصعق كهربائي، وأمضى وقتا طويلا يذرع المكان الجديد جيئة وذهاباً بحثاً عن الزاوية التي ستمثل فضاءه الخاص، وفي النهاية، بنينا له غرفة المكتب، إلا أن المشكل أن أحد الشباب كان يعمل عندنا وكان طيباً جداً وأراد في تقديره أن يهيىء لنا مفاجأة سعيدة، قام بجمع كتب عبد الرحيم ومحتويات مكتبه في بيت سلا وأتى بها في علب كبيرة، وكانت مصيبة حقاً، إذ رغم انتقالنا الى المنزل الثالث، ظل عبد الرحيم لمدى 15 سنة يردد» إن نجاة قد خلقت فوضى عارمة في ترتيب كتبي وأشيائي الخاصة» كان عبد الرحيم يسافر كثيراً خارج الوطن، لكنه لا يمكث هناك طويلا، وجل الأحداث الهامة التي عرفها المغرب وجدته داخل الوطن باستثناء أحداث يونيو 1981، وقد التحق بالمغرب في وقت كان بعض المراقبين يتصورون أنه سيمدد إقامته بالخارج بسبب الأحداث؟ كيف عشت مع عبد الرحيم بعض هذه الأحداث؟ عندما كانت البلاد تمر بظروف صعبة، كان عبد الرحيم يتأثر كثيراً، ويظهر ذلك جلياً في حركاته وسكناته، وكان يرغب في العزلة في هذه اللحظات الحرجة، ويذهب الى بيتنا بابن سليمان أو يركن إلى مكتبه وقتاً طويلا ويضرب عن الطعام، فتصبح عملية إقناعه بتناول قليل من الحليب أو الجبن عملية صعبة. أثناء حدوث محاولة الانقلاب الأولى [حوادث الصخيرات] كان عبد الرحيم ينسق الدفاع عن المعتقلين في محاكمة مراكش فيمضي هناك الأسبوع كله ويعود في آخر الأسبوع لزيارتنا، وفي اليوم الذي ستقع فيه الأحداث كنا بابن سليمان، وانتبه عبد الرحيم إلى الموسيقى العسكرية الآتية من مذياع صغير لبنت كانت تشتغل عندنا تحب تتبع الأخبار الرياضية، لم يكن لدينا مذياع كبير فأدخلنا السيارة وفتحنا مذياعها، وبعد أن تأكد عبد الرحيم من وقوع الأحداث، أمرنا بالرجوع فوراً إلى الرباط. على ذكر محاكمة مراكش، كان عبد الرحيم قد أبرز مواهبه فيها كمحام كبير، لكن كيف كان عبد الرحيم يمارس المهنة؟ هل كانت بالنسبة إليه مجرد واجهة نضالية أو أداة حقيقية لكسب القوت وربما تنمية مداخيله؟ لم يكن عبد الرحيم مشغولا بتنمية مداخيله كثيراً، كان فقط يريد أن يضمن عيشه. وقد فتح مكتبه عام 1964 فيما اعتقد بالرباط، وظل في نفس المكان، وقد كان حائراً، ويقول لي. هل أفتح المكتب بالرباط أو بالقنيطرة أو بالدارالبيضاء. لماذا القنيطرة؟ لا أدري, المهم في النهاية فتح المكتب بالرباط، وكان ذلك يرضيني، لأن عائلتي موجودة بالرباط. كيف عشت مع عبد الرحيم ظروف اعتقاله في 1981؟ ما ألمني ليس هو الاعتقال في حد ذاته, ولكن الطريقة التي تم بها, وأذكر أن عبد الرحيم بعد أن حرر نص البيان الذي كان سببا في الاعتقال قال لي» لا أدري ماذا ستكون نتائج هذا البيان» وفي الغد ذهبنا إلى الشاطئ ثم عدنا في المساء وكان يحمل لباسا خفيفا كعادته كنا جميعا نشاهد التلفزة ونتهيأ للعشاء, لكنه أبدى عدم رغبته في الأكل ولم يتناول بيضة مسلوقة إلا بمشقة، رن جرس البيت في التاسعة ليلا وجاءت البنت التي تشتغل عندنا لتقول له» »اعزيزي هناك رجل يطلبك»« خرج عبد الرحيم حافي القدمين، فقلت للأولاد «»اتبعوا آباكم»إذ كنت أحس أن شيئا ما سيقع, بمجرد ظهور عبد الرحيم بالباب انقض عليه رجل بلباس مدني وأمسك به بقوة وحاول شخصان كانا مختبئين خلف شجرة سوقه إلى سيارة عادية, وهنا تدخل أبنائي وأفراد العائلة الموجودين معنا ومنعوهم من التحرك، وطالبناهم بتقديم أمر حجة تثبت أن الأمر يتعلق برجال الشرطة وقال لهم عبد الرحيم» مستعد أن اصطحبكم لكن في سيارة رسمية للشرطة» دخل الرجلان إلى بيت موجود بجوارنا كنا دائما نشتبه في أمره، بينما ظل الرجل الثالث ممسكا بعبد الرحيم بوحشية وهو يصرخ» لدي أمر أن أظل ممسكا به ولا أخلي سبيله تحت أي اعتبار من الاعتبارات» اتصلت بأفراد العائلة هاتفيا وبعدد من مسؤولي الحزب، فجاء رشيد بلا فريج وفتح الله ولعلو ومحمد الفاروقي والرجال الذين جاؤوا لاعتقال عبد الرحيم عندما سمعوا اسم الفاروقي ,رحمه الله, حسبوه الفرقاني فاعتقلوه هو الآخر. وبالرغم من توافد جمع من الناس ظل الرجل ممسكا بعبد الرحيم في مشهد يحز في النفس، وبقي الأمر كذلك حتى الساعة الحادية عشرة ليلا حيث جاءت سيارات رسمية للشرطة ونقل عبد الرحيم، على متن إحداها فتبعناهم حتى دخلوا لمبنى الكوميسارية المركزية بالرباط. بعد المحاكمة، كيف كانت تتم الزيارة بسجن لعلو ثم بميسور؟ كنا نجد صعوبة كبيرة في الحصول على الإذن بالزيارة، وكان وقت الزيارة محدودا، وفي ظروف سيئة للغاية, وعندما نقل إلى ميسور مع رفاقه، لم نكن نعرف مكانهم لمدة 15 يوما، وكنا نأخذ السيارات ونبحث عنهم وفي إحدى المرات وصلنا إلى ميسور ولم نكن نعرف مكان تواجدهم فاتجهنا إلى جهة أخرى لمواصلة البحث, إلى أن أخطرنا رسميا بمكان اعتقالهم وسمح لنا بزيارتهم وكانت الزيارة مضنية, إذ كنا ننطلق على الساعة الرابعة صباحا وكنا نزورهم مرة في الأسبوع. كان عبد الرحيم خلال فترة الاعتقال يكتب، ويعمل على تطوير معرفته باللغة الاسبانية. بالمناسبة ماذا كانت علاقة عبد الرحيم بالكتابة؟ بالنسبة إلى خطبه، كان في الأغلب يضع على ورقة مجموعة النقط التي سيتطرق إليها بدون أن يحرر نص الكلمة أو الخطاب وأحيانا كان يكتب أشياء ولا ينشرها. نريد أن نعرف الاخت نجاة كيف عشت اللحظات الاخيرة مع عبد الرحيم, وبالمناسبة زرناه كمكتب وطني أياما قليلة قبل وفاته لنبلغه بنتائج المؤتمر الوطني للشبيبة الاتحادية وجدنا عبد الرحيم هو عبد الرحيم، نفس التفاؤل والنظر للمستقبل والمتابعة الدقيقة لتطور الحياة السياسية والانشراح والتعبير باليدين والنظرة المتقدة. عبد الرحيم توفي في السادسة صباحا وفي التاسعة ليلا لليوم السابق جاءه بعض الاصدقاء من بينهم السيد احمد الشرقاوي فباغثهم بالسؤال عن أشياء تهم الوضع بالبلاد, وهكذا بقي منشغلا بمصير البلاد إلى آخر حياته، وظل محتفظا بانتباهه ومستوى حصافته وعمق تحليله, كان يعرف بأن أجله أزف ولكنه كان يتمنى ألا يعذب معه أحدا وألا يكون عبئا على أي كان. الاخت نجاة, إن الحشد الهائل من المغاربة الذين شيعوا عبد الرحيم إلى مثواه الاخير، جاؤوا ليؤكدوا أن هذا الرجل كان يحب وطنه وأن دقة الأوضاع التي تعيشها البلاد تتطلب رجالا من هذه الطينة، ماذا كان شعروك وأنت تلمسين هذا الاعتراف بعد كل المحن والجهد والنضال الطويل لعبد الرحيم والذي تحملت أيضا جزءا من تبعاته. إن حجم الجنازة يملأ النفس بالارتياح، ففي النهاية وقع تكريم عبد الرحيم بما يليق بعظمة اخلاصه وعمله لصالح وطنه وهو الرجل الذي لم يتمتع بالحياة والذي مات مرتاح الضمير بعد أن أدى واجبه كاملا ووفى بالتزاماته إزاء الآخرين، في الأوقات التي تكون هناك مصاعب أو مشاكل في الحزب أو في البلاد كان يقول لنا «إني أؤدي واجبي ولا يهم أن يعترف لي الآخرون بذلك، إنني لست نادما واعتبر دائما أنني خلقت للمتاعب »أنا مديور لتمارة«« كان عبد الرحيم رجل الاخلاق والتسامح ولكنه كان أيضا «جماعا للشمل» يبحث دائما عن امكانيات التوفيق والتقريب بين وجهات النظر وبين الاشخاص حتى داخل العائلة, إذا كان هناك مشكل بين الأفراد كان يتدخل لتهدئة النفوس وربط خيوط الصلة بين المتنازعين وإعادة المياه إلى مجاريها.