في أجواء متشحة بالحزن، مفعمة بعميق الأسى، كما ورد في كلمة الوزير، محمد بن عيسى، بادرت المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم "إيسيسكو" أخيرا، وقبل أي جهة مغربية، بإقامة تظاهرة تأبين فكرية، استحضارا لذكرى مديرها العام، المؤسس الراحل، عبد الهادي بوطالب، الذي توفي يوم السادس عشر من ديسمبر( كانون الاول) 2009، في الشهر نفسه الذي رأى فيه النور في مدينة فاس، بفارق أسبوع (يوم 23ديسمبر 1923). ودعا مدير المنظمة، عبد العزيز بن عثمان التويجري، الذي عمل إلى جانب الراحل، مديرا عاما مساعدا، بعض أصدقاء الفقيد من المغرب فقط، رغم اتساع رقعة معارفه خارج وطنه. أجمعوا كلهم، -وما كان لهم إلا أن يفعلوا ذلك-، على الطابع الاستثنائي لشخصية صاحب "وزير غرناطة" ليس بحكم المناصب الرفيعة وسامي المسؤوليات الحكومية والدبلوماسية التي تقلدها عن جدارة واستحقاق، وإنما تقديرا منهم لتواضع العلماء المتأصل فيه ولازمه طوال حياته، غير متكبر ولا مدعٍ أو مزايد في مجال العلم والمعرفة. أما السياسة، فذاك شأن آخر له منطقه وأعرافه. لم يغفل المتحدثون في جلسة التأبين التي عقدت في مقر المنظمة في الرباط، المسار الفكري لبوطالب، لأنه واضح وشفاف ولا التواء فيه. اقتربوا منه أو لامسوه، كل على قدر اهتمامه ومعرفته به، معتذرين عن عدم القدرة على الإحاطة، مجمعين مرة أخرى على غزارة العطاء وتنوعه وشموليته، فقد اغترف الراحل من زاد المعرفة الموسوعية بنهم، ونهل من منابع الفكر والإبداع، وهو الذي قال في مناسبة تكريم له إن الكتاب ظل رفيقه الدائم، في مستقره وترحاله. وأبرز المشاركون أن الراحل، اتصف بتعدد المشارب الثقافية وتنوع الاهتمامات والانشغالات الفكرية، فقد كان وزيرا وسفيرا ومستشارا وأديبا ولغويا وقانونيا ومحاضرا جامعيا في مادة القانون الدستوري، بكلية الحقوق في الرباط والدار البيضاء. وهب حياته للكتابة بشغف والقراءة الدائمة والرغبة في الإطلاع على مختلف أصناف المعرفة من آداب وعلوم وسياسة وفقه لغة، توجها بإتقان لغات أجنبية مكّنته من الإطلاع على الفكر الغربي في مظانه الأصلية. وفي هذا السياق المعرفي الأكاديمي، قارب الباحث محمد الكتاني، العضو في الديوان الملكي المغربي، جانب "رجل الدولة" في مسار الراحل الذي قال عنه إنه تحمل أعلى وأدق المسؤوليات في سياق حركة الانتقال الوطني والانشغال بالتحديث وبالاستمرارية وبالبناء في عهد كان فيه الملك الراحل الحسن الثاني، يعمل جاهدا من أجل وضع قطار الدولة المغربية على سكته وتثبيت أركانها دستوريا ومؤسساتيا ، منتقيا الرجال الأكفاء للنهوض بتلك المسؤولية الجسيمة، في طليعتهم، بوطالب، الذي يمكن القول إنه "أثث" باجتهاداته الإدارية وفتاويه القانونية ، دواليب الإدارة الحكومية في المغرب، بالعديد من النصوص والتشريعات. من جانبه شدد الدكتور عبد اللطيف بربيش، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، والطبيب الخاص للملك الحسن الثاني على سجايا الفقيد الإنسانية وعلمه الغزير ومزاياه المعرفية وحنكته السياسية ووطنيته الصادقة وعطائه الجم، دون ملل أو تبرم من المسؤوليات الجسيمة التي تقلدها، والمناصب التي تولاها في ظروف بالغة الدقة، فأداها بكل التزام وإيمان. ولعل بربيش من القلائل الذين عايشوا كثيرا من المسامرات والجلسات الفكرية للملك الراحل، كانت لبوطالب، المشاركة الوازنة فيها إن لم تكن جولات. وأعرب محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، في كلمة رقيقة طافحة بالود، تليت بالنيابة عنه، لوجوده في سفر خارج المغرب،عن يقينه "أن الراحل الذي خاض معترك السياسة بملء قوته منذ شبابه المبكر، وتقلد فيما بعد، بتلك الصفة، أسمى المناصب والمسؤوليات في الداخل والخارج لأكثر من أربعة عقود، انتصر دائما، يجزم بن عيسى، لشخصية المفكر المثقف المتنور فيه وليس إلى صفة السياسي العابرة "فالسياسة في تصور، بوطالب، تابعة للثقافة وفي خدمتها، ولذلك انتابته في لحظات نزعات التمرد والاصطفاف في المعارضة. الباحثة نجاة المريني، الأستاذة في كلية الآداب في الرباط ، وقفت عند عطاء الراحل بوطالب، فقد كان الراحل الصحافي المتألق صاحب الأسلوب البديع المتجلي في آثاره (ذكريات شهادات ووجوه /نصف قرن من السياسة/هذه قصتي) وكان العالم والمدقق اللغوي، في مؤلفات من قبيل (الحقوق اللغوية/معجم تصحيح لغة الإعلام/دور الإعلام في رفع التحديات التي تواجه العالم الإسلامي). ورغم استغراقه في الفكر والتأمل، فإن بوطالب، تميز بخلفية اجتماعية، ورثها من جذوره الأسرية من جهة ومن المبادئ التي تشبع بها في حزب "الشورى والاستقلال" أولا، ثم مروره السريع من حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" التجمع الجماهيري الكبير في مغرب الستينات. وتجلى الحس الاجتماعي لبوطالب، في كتاباته الصحافية الغزيرة التي لم يعد ينشر الكثير منها، وأيضا في مصنفاته عن (حقوق الأسرة وتحرير المرأة). ولم تنس الباحثة شخصية الأديب المبدع الذي تخفى دائما تحت جلباب بوطالب ، تاركا لنا نصوصا سردية ممتعة جمعت بين الترجمة الشخصية والرواية كما فعل في "وزير غرناطة" و"الهروب" وقصة مدينة الأحلام". ونبه وجيه قاسم حسن (أبو مروان) سفير دولة فلسطين الأسبق في المغرب، إلى أن بوطالب، كثيرا ما وجه اللوم إلى الكتاب المفكرين الفلسطينيين، لأنهم ركزوا كل جهودهم على الفترة الحديثة من صراعهم مع العدو الاسرائيلي، دون الالتفات بما يكفي لتاريخ فلسطين القديم الذي ترك نهبا للاسرائيليين والمؤرخين التوراتيين، فقاموا بتزييفه. وكشف الدبلوماسي الفلسطيني السابق، أن الراحل أولى قيمة كبيرة لكتاب "الاستشراق" لمؤلفه، إدوارد سعيد،اعتبره من أهم ما أنتج، في باب تفنيد المزاعم الإسرائيلية والغربية، كما أدرك أن الربط المباشر بين الدولة اليهودية القديمة وإسرائيل الحديثة ما هو إلا محاولة لتبرير الجريمة التاريخية باغتصاب فلسطين، وتجريد الفلسطينيين من تاريخهم بعد تجريدهم من أرضهم. وضمن "شهادات" دارت عن لحظات عاشها أصحابها مع الراحل، استعادت فاطمة الجامعي، أرملة الفيلسوف الراحل محمد عزيز الحبابي، الأواصر الفكرية التي جمعت الراحلين(زوجها وبوطالب) في فترة على مبادئ حزب الشورى، ثم ما دار بينهما من حوار فكري عميق وممتع. أحدهما يستند إلى مرجعية جامعة القرويين في فاس والثاني من نظيرتها "السوربون " في باريس. وعاد السفير عبد الواحد بن مسعود، إلى الفترة التي اقترب خلالها من الراحل بوطالب حين عمل إلى جانبه، محتفظا بأجمل الذكريات وأمتع اللحظات عنها. وفي هذا الباب أتيح للزميل الصحافي، حاتم البطيوي، معاشرة وملازمة الراحل بوطالب برهة من الزمن، أثناء إعداد جزء من مذكرات حياته نشرتها على حلقات عام 2000، جريدة "الشرق الأوسط"، ثم أعيد نشرها في كتاب في طبعتين بالعربية والفرنسية، حظيتا بإقبال القراء المغاربة، لما تضمنته المذكرات من حقائق ومعلومات استخرجها بوطالب من صميم وثنايا أرشيفه السياسي الزاخر، أفصح عنها بوطالب للصحافي الشاب الملحاح، مقدرا فيه الفضول المعرفي وجرأة الأسئلة. عثمان العمير .. علاقة المواقف والتقلبات والأحداث عثمان العمير ، ناشر "إيلاف" وصف الراحل "السي بوطالب" (هكذا كان يدعوه المغاربة) بالكاتب والمعلم، والسياسي الكبير، وقال بوفاته انتهت تماما سلسلة من أعلام تاريخ المغرب الحديث. وأضاف العمير : في العقدين الأخيرين، مضى إلى رحاب الفناء مجموعة من رجالات المغرب صناع ذلك التاريخ، أمثال عبد الرحيم بوعبيد، واحمد رضا جديرة، وعلي يعته، والمعطي بوعبيد. ثم جاءت نازلة الحسن الثاني، وتبعه احمد بن سودة، ومحمد عواد، وإدريس البصري، وعبد اللطيف الفيلالي، وآخرون فاته ذكرهم في كلمته الوجيزة المؤثرة. وبرأي العمير ، الذي استمع إلى بوطالب كثيرا وتحاور معه مرارا، فإنه كان يتلذذ بألقابه الكثيرة. "عالم لوحده في كل شيء. يستحق أن يصبح بطلا أندلسيا، يذكرنا بابن عمار، أو ابن زيدون، أو لسان الدين ابن الخطيب، ولربما جسدهم بوطالب جميعا. واستطرد العمير :كان بوطالب أديبا، وخطيبا مفوها، وكاتبا ناصع العبارة، جلي الطلعة. وكان شاطرا، سياسيا مجربا، أستاذا لامعا، مخاتلا كبيرا، منقلبا واسع التقلب، كلما أحس بتعارض مع قيمه وقناعاته. وكان بالنسبة إلى المغرب ابنا وفيا، مثلما كان صديقا رائعا لي. ومضى قائلا لا أتذكر متى تعرفت إلى السي عبد الهادي بوطالب، لكنني اذكر أنني تعاملت معه، وتعاونا كثيرا، وكان نتاج ذلك التعاون "ذاكرة ملك"، الكتاب الذي تفضل جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، بتكليفي نشره بالعربية عبر "الشرق الأوسط"، وكتابة مقدمته. ثم تفضل الملك رحمه الله بأن كلفني بطباعة كتابين تراثيين قرأهما في صغره، وكان السي بوطالب (وهو أستاذ الملك الحسن الثاني ) مكلفا هو الأخر بمتابعة ذلك العمل. واعترف العمير أن علاقته بالراحل مرت بالكثير من الأحداث، والمواقف والتقلبات. كما مرت علاقته بمليكه الحسن الثاني، بتقلبات ومواقف وأحداث أكثر وأكبر، تواصلت على امتداد ما يزيد على ستة عقود. لكنه في كل تلك الأمور وغيرها يبقى "السي بوطالب" شخصا مميزا، ومؤثرا، وفاعلا، وغنيا بالمواقف والاراء المشجعة على المتابعة، والتأمل . واعتبر العمير، غياب بوطالب عن الساحة فقدانا لشخصية فذة ووازنة شاركت في صناعة تاريخ المغرب الحديث وكتابة صفحاته وختم : لقد مر على قصور الحسن الثاني، وعلى ملاعب"الغولف" وساحات البلاط، عشرات الوجوه. لكن وجه عبد الهادي بوطالب يبقى نادر الحدوث، كما هو نادر التكوين.