كما تسابق قادة دول العالم لدى اندلاع الثورة السورية لإعلان ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد وأن لا مكان له في أي حل سياسي، يتسابقون اليوم مجددا، بعد مضي نحو خمسة أعوام على اندلاع الثورة، للتأكيد على أن الأسد يمكن أن يكون جزءا من مرحلة انتقالية. المرونة في الموقف تجاه الأسد لم تصدر فقط عن الولاياتالمتحدة وألمانيا الدولتين اللتين تتخذان منذ البداية مواقف براغما تية تجاه القضية السورية، بل صدرت أيضا عن دول معروفة بتشددها حيال بقاء الأسد مثل فرنسا وتركيا. تأتي المواقف الجديدة بشكل متسق مع مساعي المبعوث الدولي للأزمة السورية ستيفان دي ميستورا. الرجل كان صريحا عندما أبلغ مجلس الأمن قبل أسبوع في جلسة خاصة بأنه لا يعتقد أن اتفاقا شاملا لحل الصراع في سوريا والدخول فورا في عملية انتقالية قابل للتطبيق في هذه المرحلة. ويقصد دي ميستورا هنا بأنه لا يرى اتفاقا ممكنا يتغير بموجبه النظام السوري ويتنحى بنهايته الأسد، وعليه، فقد بات يفضل اتباع مقاربة تدريجية تفتح أفقا للحل، أو تشكل محاولة فاشلة جديدة، ربما تكون فائدتها الوحيدة أن تبقيه في منصبه لفترة أطول. يقول دي ميستورا، محاولا أن يكون واقعيا، إنه بدلا من الجري وراء وهم الحل الشامل دون أن نقترب منه على مدار السنوات الماضية، دعونا نخطو خطوات بسيطة عن طريق تشكيل لجان متعددة، اقترح أن تكون أربع لجان تناقش المسائل الشائكة، وهو ما سيمهد، لاحقا، لمناقشة المرحلة الانتقالية. جوهر اقتراح دي ميستورا يشير إلى استمرار استعصاء الحل السياسي. وهو استعصاء قديم بسبب تعنت النظام السوري الذي لا يطيق أي قدر من التغيير، مهما كان هامشيا. ولما كان هدف المرحلة الانتقالية هو إطلاق عملية تغيير النظام والانتقال إلى نظام بديل، يبدو من الطبيعي أن يرفض الأسد الدخول في ذلك المسار الذي سيؤدي إلى نهايته، ويفضل إدخال الجميع في متاهة بديلة أساسها مفاوضات جزئية حول مسائل الإرهاب والمساعدات الإنسانية والخدمات العامة. المهم أن يبتعد الجميع عن جوهر المسألة: تغيير النظام السياسي والأمني المهيمن. إنها سياسة قديمة اتبعها الأسد وتقوم على التركيز على الحرب التي يبرع فيها بدلا من الدخول في شرور السياسة. ومهما يكن الموقف من مبادرة دي ميستورا، فإن الدافع وراءها هو ?الواقعية السياسية? والتي فرضتها عليه لا واقعية الأسد. الأخير يواصل إنكار الواقع بصورة غريبة، ويرى أنه يستطيع مواصلة الحرب للسيطرة على ما يمكن من سوريا. كل الأطراف باتت مقتنعة بمقاربة ?واقعية?، الدول الإقليمية، أميركا وأوروبا، وحتى المعارضة السورية المسلحة، باستثناء الأسد الذي لا يزال يحتضن الأوهام والغرور. في الأيام الأخيرة بدا واضحا انفتاح أميركا وأوروبا على عملية سياسية يكون فيها للنظام السوري دور رئيسي. وهما وإن بقيتا تصران على رحيل الأسد، لم تعودا تطرحان ذلك كشرط مسبق لبدء التفاوض، بل صارتا تريدان استبعاده بعد سير العملية الانتقالية لفترة زمنية غير محددة. حتى روسيا، باتت تدفع لحل سياسي، وإن كان الحل الذي يناسبها ولا يحقق آمال السوريين، وذلك بعد أن أدركت مخاطر انهيار قوات الأسد في مناطق عديدة من البلاد. الدول العربية، بدورها، تحاول جاهدة الدفع نحو التسوية، وليس أدل على ذلك من الحراك الذي أجرته المملكة العربية السعودية مع دول لم تتمتع بعلاقات طيبة معها في ما سبق وعلى رأسها روسيا وتركيا، فضلا عن تسريب استقبالها مدير مكتب الأمن القومي في سوريا علي مملوك بوساطة روسية. الائتلاف السوري المعارض، الذي كان يشترط تنحي الأسد قبل البدء بأي تفاوض، صمت عن هذا المطلب. ربما الأهم من كل ذلك موقف الفصائل العسكرية المسلحة في سوريا التي طغت عليها الصبغة الجهادية المتشددة، إذ أصدرت بيانا لافتاً يعلن صراحة أن الحل السياسي يجب أن ينطلق من بيان جنيف الأول. قبل أشهر فقط كانت تلك الفصائل ترفض بيان جنيف وتصف من يقبل به بالخيانة والتفريط في حقوق السوريين. هكذا، لم تعد الطروحات الواقعية مقتصرة على دي ميستورا، بل انتقلت العدوى إلى الجميع تقريبا. وإذ تدعو الواقعية السياسية إلى إشراك الأسد في المفاوضات، فسوف يترتب عليها أن تشرك فصائل سورية مقاتلة تعتبر متطرفة. هذا في سياق الرؤية العامة للواقعية السياسية، لكن واقعية الأسد وفلاديمير بوتين متطرفة بدورها. ففي الحديث عن الإرهاب، يقصد كل من دي ميستورا وأميركا وأوروبا، داعش وجبهة النصرة، أما بالنسبة إلى الأسد وبوتين فإن الإرهاب يشمل كل معارض يريد تغييرا لنظام الأسد، وهو ما يصعب من مهمة الغرب في الانسياق إلى هذا المستوى من ?الواقعية?.