يتوصل الواحد منا أحيانا برسائل إلكترونية تستحق القراءة والتأمل والتعميم. مع مطلع 2010، بعث لي أحد الأصدقاء بواحدة من هذا الصنف، يبدو أن ناشرها على شبكة الإنترنيت كاتب وباحث فرنسي يحمل اسم أوليفيي كليرك، وهي تشتمل على حكاية انتقى لها صاحبها عنوان: «الضفدع الذي يجهل أنه يتعرض للطهي!». تقول الحكاية بلغة فرنسية بسيطة لا تتضمن أي تنميق: «تصوروا قدرا مليئا بالماء البارد، قدر يسبح فيه ضفدع بطمأنينة. يوقد أحدهم النار تحت القدر، لتشرع درجة حرارة الماء في الارتفاع ببطء. «بعد وقت وجيز، صار السائل داخل القدر دافئا فاستحبه الضفدع ليواصل السباحة بذات طمأنينة البداية. «استمرت درجة حرارة الماء في الارتفاع مما جعل الضفدع يشعر ببعض الريبة، لكن ذلك لم يقلقه أكثر من اللازم. «درجة حرارة السائل لا تطاق الآن. هيمن على الضفدع إحساس بالانزعاج، شعر بقواه تخور، لكنه تقبل الوضع الجديد دون القيام بأدنى رد فعل للمقاومة. «لحظة بعدها، كانت عملية طهي الضفدع قد انتهت ببساطة، والحيوان قد غادر الحياة الدنيا. «تصوروا لو أن نفس الضفدع وضع مباشرة في قدر تصل حرارة مائه إلى خمسين درجة! لو حصل ذلك، لقام برد فعل سريع ونط بمهارة خارج الإناء لينقذ نفسه من موت محقق!» في تعليقه على حكاية الضفدع، يكتب أوليفيي كليرك: «تبرهن هذه التجربة على أن التحولات والتغييرات تنسحب خارج الإدراك حين تحدث بشكل بطيء، ولا تولد أي رد فعل أو مقاومة أو معارضة. وهذا بالضبط ما يحصل في مجتمعاتنا منذ سنوات عديدة، حيث نتعود على التحولات البطيئة الإيقاع ونذعن لها. ثمة ظواهر كانت ستصيبنا بالهلع لو وقعت فجأة قبل سنوات، لكنها انسلت اليوم رويدا رويدا إلى واقعنا فصرنا نتعايش معها، ولا تخلق لدينا سوى انزعاج سطحي حين لا نواجهها بلا مبالاة قاتلة». أجل، ببطء شديد، استحال خرق الحقوق، إهانة الكرامة، الاعتداء على البيئة، تدنيس الجمال وتبخيس الحياة أمورا عادية، بل صرنا شركاء لمن يرتكبونها، تحولنا إلى ضحايا مباركين وعاجزين. أجل، أليس من المفروض أن نتساءل مع الكاتب أوليفيي كليرك: «ألا نتعرض نحن كذلك لما تعرض له ضفدع الحكاية، ألم تصل عملية طهينا إلى نصفها ونحن غير منتبهين لها ولا واعين بها؟» فلنتأمل أيضا الحكاية التالية التي وصلتني هي الأخرى عبر الإنترنيت، والتي تجري في بلاد الحيوانات وليس في بلادنا السعيدة، أجمل بلاد في الكون رغم مفارقاتها: «مع شروق شمس كل يوم، تذهب النملة إلى عملها مبكرا وتشرع في أداء شغلها بحماس لا ينضب، مما جعل إنتاجيتها مرتفعة وحبها لوظيفتها لا يضاهى. «فوجئ الرئيس، وهو أسد، بكون النملة تشتغل بدون تأطير، فتساءل: إذا كان حجم إنتاجها مرتفعا إلى هذا الحد في غياب مؤطر، فوجود من يؤطرها سيولد ارتفاعا إضافيا لأدائها! «هكذا قام الأسد بتوظيف صرصار راكم تجربة طويلة في مجال التأطير من جهة، ويتمتع بخبرة هائلة في صياغة التقارير من جهة ثانية. «أول قرار اتخذه الصرصار تمثل في فرض نظام لمراقبة وضبط أوقات دخول النملة إلى العمل ومغادرتها له. وبسبب إعمال هذا القرار، أصبح الصرصار-المؤطر في حاجة ماسة إلى كاتب يساعده على كتابة التقارير حول الموضوع، فوظف عنكبوتا للاضطلاع بالمهمة، لينشئ هذا الأخير أرشيفا ويطبق آلية لمراقبة الاتصالات الهاتفية داخل المؤسسة. «أسعدت تقارير الصرصار الأسدَ-الرئيس، فطلب منه إنجاز رسوم بيانية أيضا، رسوم بيانية تبرز أوضاع الإنتاجية واتجاهاتها ستتم دراستها خلال اجتماعات مخصصة لذلك. «وجد الصرصار-المؤطر نفسه مضطرا، عندما بلغت الأمور هذا الحد، إلى اقتناء حاسوب وطابعة، وإلى توظيف ذبابة مهمتها تسيير مصلحة الإعلاميات بالمؤسسة. «أما صديقتنا النملة، المتفانية في عملها والسعيدة به سابقا، فقد انتابها اليأس جراء محيط شغلها الجديد الذي صارت تهيمن عليه الأوراق والتقارير، وبسبب كثرة الاجتماعات التي أصبحت تلتهم مجمل وقتها. ورافق الحالة النفسية هذه للنملة، قرار الأسد-الرئيس بإحداث منصب مسؤول عن قطاع عملها، وهو المنصب الذي حصل عليه زيز أقدم، بمجرد تعيينه، على اقتناء بساط لمكتبه وكرسي صحي موافق لبنيته الجسدية. «وجد المسؤول الجديد نفسه في حاجة ماسة إلى حاسوب هو الآخر، وكذلك إلى مساعدة جلبها من إدارته السابقة قصد الانكباب إلى جانبه على إعداد برنامج استراتيجي يروم رفع إنتاج قطاع عمل النملة ومراقبة ميزانيته. «تبددت حينها سعادة وحيوية النملة، وتحول نشاطها إلى غضب يتراكم ويزداد يوما إثر يوم. «وفي تلك الحقبة أيضا، أقنع الزيز رئيسه الأسد بحاجة المؤسسة المستعجلة إلى إنجاز دراسة حول مناخ ومحيط العمل بالمؤسسة، وهو ما تم بالفعل لتكشف الدراسة للمسؤول الأول تراجع إنتاجية النملة! «عقبها، لجأ الأسد إلى خدمات بومة متخصصة وخبيرة في مجال الافتحاص واقتراح الحلول الناجعة لتجاوز اختلالات الإنتاج. وبعد التجول طوال ثلاثة شهور بين المكاتب، أعدت تقريرا ضخما يحتوي على عدة مجلدات، تقرير ورد في خلاصاته بأن المؤسسة تشغل عددا من العاملين يتجاوز حاجياتها من الموارد البشرية، وأوصى بضرورة تقليص هذا العدد.» خمنوا من سيستغني الأسد - الرئيس على خدماته تنفيذا لتوصيات تقرير الافتحاص! أجل... إنها النملة التي عاب عليها التقرير «غياب الحوافز لديها على العمل وموقفها الصدامي»! خريف 2010