حسب تقديم كتاب "وقائع"، لرولان بارت، فإن العنصر الأساسي في هذه الملاحظات هو الالتقاط المباشر والسريع لما يحدث في اللحظة الحاضرة. معنى ذلك أن بارت الذي كان عاشقا للمغرب لم يكن يبتغي وهو يكتب خواطره وملاحظاته، أن يقوم بإعداد دراسة نقدية أو فلسفية حول ظواهر اجتماعية أو ثقافية أو نفسية، وإنما كان يلبي حاجة ذاتيّة وهي أن يكتب ما كان يرى ويسمع. وهنا ترجمة للبعض من الخواطر والملاحظات: في إحدى الساحات، فتى غاضب (يعني أن قسمات وجهه توحي بالجنون). قميصه الأزرق للريح. وسحنته فوضوية. يشتم أوروبا (Go home) ثم يختفي. بعد لحظات تتعالى تراتيل معلنة عن اقتراب جنازة. ثم يبرز الموكب. بين حاملي النعش (بالتناوب) الفتى الغاضب وقد هدأ مؤقتا. *** الصبي الذي في الممرّ كان نائما وقد تغطى بالكارتون، رأسه كان يبرز وكأنه مقطوع. *** عجوز ضرير بلحية وجلابية بيضاء يستجدي. مع ذلك كان يبدو، ممتنعا عن الألم، سوفوكليا (نسبة إلى الشاعر الإغريقي سوفوكليس صاحب رائعة الملك أوديب)، ميّالا إلى المرح. في ذات الحين كان الفتى المراهق الذي يرافقه، حريصا على أن يثقل سحنته بجميع التعابير المبرهنة على مثل تلك الحالة: قسمات تعذبها وتجذبها برطمة حزينة تعلن عن الاكتئاب والبؤس والظلم وقسوة القضاء والقدر: انظروا، انظروا! كانت سحنة الصبي تقول. انظروا! لم يعد في مقدوره أن يرى ! *** رجل ملتح كان يرقص. قال لي مرافقي: إنه فيلسوف! ولكي يكون الإنسان فيلسوفا لا بدّ من توفر أربعة أشياء؛ أولا: أن يحصل الإنسان على ماجستير في الأدب. ثانيا: أن يسافر كثيرا. ثالثا: أن يكون على صلة بفلاسفة آخرين. رابعا: أن يكون بعيدا عن الحقيقة. على ضفة البحر مثلا! **** بحث غير مجد عن جلابية زرقاء "سيري" لاحظ على ذلك قائلا: ليس هناك خرفان زرقاء! على شاطئ طنجة (عائلات، خيام، فتيان)،عمّال شيوخ كمثل حشرات قديمة جدا وبطيئة جدا ينظفون الرمل. في الساعة التاسعة صباحا، شاب خشن يحمل على كتفيه خروفا، قوائمه مضمومة إلى الأمام (حركة رعوية أنجيلية). تمرّ صبيّة وهي تداعب دجاجة في حضنها. في القطار الذي نزل منه للتوّ في محطة فارغة (أصيلة)، رأيته يجري في الطريق وحيدا تحت المطر شادّا بقوة على صندوق السيجار الفارغ الذي طلبه مني لكي "يضع فيه أوراقا" حسب زعمه. *** شاب جميل وقور، أنيق، يرتدي بذلة رمادية، يضع سوارا ذهبيا، له يدان ناعمتان، نظيفتان، يدخن سجائر "الأولمبيك" الحمراء، يشرب الشاي، يتكلم بشيء من الحدة (موظف من أولئك الذين يعطلون الملفات)، يترك خيطا من البصاق يسقط على ركبته. رفيقه لاحظ له ذلك! في مطعم بالرباط، أربعة رجال من البادية بين السلاطات والبذلات الأنيقة، يشربون حليبا حلوا جدا، ويأكلون ببطء من نفس رغيف الخبز الفخم. *** كل مساء رمضان، حوالي الخامسة مساء (نحن الآن في شهر نوفمبر)، يبدو مطعم "التحرير" في المدينة العتيقة من الشارع وقد تحول إلى منزل للضيوف بطاولات طولية مصفوفة يتحلق حولها رجال يأكلون الحساء. النادل الوحيد ينشغل بتلبية الطلبات مثل أخ مساعد. *** في يوم الجمعة هذا، وبعد انتهاء الصوم، كان عليّ أن أمنع نفسي مرة أخرى من التدخين لأنني كنت مارا في شارع حيث يتوزع بعض الباعة. ثمة رجل حزين على حافة الرصيف يعرض للبيع سكينا للفرم. *** في مدينة سطاط أخذت معي في السيارة صبيّا في الثانية عشرة من عمره كان يحمل كيسا ضخما من البلاستيك مملوءا بالبرتقال والمندرين، وصرّة ملفوفة بورق رديء. كان الصبي هادئا، رصينا، متحفظا. وكان يشدّ بقوة على ما كان يحمل، والذي كان يضعه على ركبته في تجويف جلابيته. اسمه عبد اللطيف. وفي قلب الريف، من دون أن يكون هناك أثر لقرية، طلب مني أن أوقف السيارة، ثم أشار إلى السهل: هناك ينبغي أن يذهب. باس يدي، ثم مدّ لي درهمين (أكيد أن الدرهمين كانا ثمن الحافلة التي كان سيركبها عوض سيارتي). *** حين أعطيت حبّة أسبيرين إلى أحدهم، اشتكوا جميعا من الصداع. وكان عليّ أن أوزع عليهم حبات أسبيرين كما لو أنني ممرض في المستشفى. *** مسافر فقير يتنقل بين المدن بحثا عن عمل (عيناه جميلتان) روى لي ونحن نقطع غابة، حكاية كئيبة. حكاية سائق تاكسي صغير قتله ركّاب كانوا متنكرين في ثياب نساء. قلت له :"ولكن سائق التاكسي صغير لا يملك الكثير من المال . ليس هذا مهما... السارق هو السارق"، رد عليّ المسافر الفقير.