الدكتور نجيب بوليف يصدر كتابه الجديد: "الانتقال الطاقي بالمغرب… اختيار أم ضرورة؟"    جبهة الإنقاذ الوطني في سوريا تلقن النظام الجزائري دروسا في السياسة وتحذره من وهم التنافس مع المغرب    اندلاع حريق في سيارة نفعية بمدينة الحسيمة    اعتقال متورطين في مقتل شاب مغربي بإسطنبول بعد رميه من نافذة شقة    المغرب يلتقي بمصنعِين في الصين    "الكتاب" ينبه إلى حاجيات رمضان    حماس مستعدة لإطلاق كل الرهائن    شمس الدين الطالبي: الموهبة المغربية الصاعدة في سماء كرة القدم الأوروبية    وديتان للمنتخب المغربي في يونيو    إيقاف بيلينغهام وريال مدريد يستأنف    "التطواني" ينفصل وديا عن بنشريفة    مبيعات الإسمنت ترتفع في المغرب    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء إيجابي    المغرب يوجه ضربة جديدة للتنظيمات الإرهابية بإحباط مخطط "داعش"    الأرصاد الجوية تترقب يومين من التساقطات الإضافية في شمال المغرب    احتقان بالمستشفى الجامعي لوجدة    أزمة المستحقات بين الشوبي ومالزي    "بويذونان".. دراما مشوقة على قناة "تمازيغت" تفضح خبايا الفساد ومافيا العقار بالريف    أطلنطاسند للتأمين تفوز بجائزة الابتكار في تأمين السيارات المستعملة ضمن جوائز التأمين بالمغرب وافريقيا 2025    مكافحة الإرهاب.. المغرب ينتهج استراتيجية فعالة قائمة على نهج استباقي    شراكة استراتيجية في مجالي الدفاع والأمن بين الجيش المغربي ولوكهيد مارتن الأمريكية    تحت شعار «الثقافة دعامة أساسية للارتقاء بالمشروع التنموي الديمقراطي» الملتقى الوطني الاتحادي للمثقفات والمثقفين    مجلس النواب ينظم المنتدى الثاني لرؤساء لجان الشؤون الخارجية بالبرلمانات الإفريقية    عامل الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبًا عامًا جديدًا للعمالة    بعد الكركرات.. طريق استراتيجي يربط المغرب بالحدود الموريتانية: نحو تعزيز التنمية والتكامل الإقليمي    وزيرة الثقافة الفرنسية: المغرب يمثل مرجعية ثقافية عالمية    إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    مسؤول إسباني: المغرب مصدر إلهام للبلدان الإفريقية في جودة البنيات التحتية الطرقية    مركز النقديات يطلق خدمة دفع متعددة العملات على مواقع التجارة الإلكترونية المغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    مندوبية السجون تعلن عن إحداث دبلوم جامعي في الطب السجني    مديرة المستشفى الجهوي ببني ملال تواجه احتجاجات بسبب الطرد التعسفي لحراس الأمن    الاستعدادات لمونديال 2030 محور لقاء لقجع ورئيس الاتحاد الإسباني    وفاة المطربة آسيا مدني مرسال الفلكلور السوداني    عمر هلال ل"برلمان.كوم": المغرب لديه الريادة في سياسة السلامة الطرقية    أبطال أوروبا .. البايرن وبنفيكا وفينورد وكلوب بروج إلى ثمن النهائي والإيطاليون يتعثرون    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    ناشر مؤلفات بوعلام صنصال: "أخباره ليست ممتازة" بعد ثلاثة أشهر على سجنه    جهة الشرق.. التساقطات المطرية الأخيرة تعزز الموارد المائية وتنعش النشاط الفلاحي    اصطدام كويكب بالأرض يصل إلى أعلى مستوى للخطورة    رشيدة داتي: زيارتي للأقاليم الجنوبية تندرج في إطار الكتاب الجديد للعلاقات بين فرنسا والمغرب    رامز جلال يكشف اسم برنامجه الجديد خلال شهر رمضان    احتجاجات في الرباط تندد بزيارة وزيرة إسرائيلية للمغرب    النفط يصعد وسط مخاوف تعطل الإمدادات الأمريكية والروسية    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    دوري أبطال أوروبا.. بنفيكا يعبر إلى ثمن النهائي على حساب موناكو    بحضور وزير الثقافة.. توقيع شراكة استراتيجية بين سلمى بناني وسفير فرنسا لتطوير البريكين    منتدى يستنكر تطرف حزب "فوكس"    إغماء مفاجئ يُنقل بوطازوت من موقع التصوير إلى المستشفى    بعد تأجيلها.. تحديد موعد جديد للقمة العربية الطارئة    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    السعرات الحرارية الصباحية تكافح اكتئاب مرضى القلب    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملاك ريلكة

الملاك هو دون شك إحدى الصور حضورا في شعر ريلكة وأقواها وخصوصا في ( مراثي دونيو)، تلك القصائد العميقة والحاسمة التي انتظرها ريلكة على مسار سنوات عديدة (1912-1922) ، حيث يتم استدعاء الملاك ومجاورته في المابين الباذخ، المابين عالمين، وجودين، رؤيتين، تجربتين، باعتبار الملاك، الحميمي والمقلق الغرابة في آن، الجميل والمرعب، حيز الاستحالة وافق الامكان. انه التوجه الأساس نحو المفتوح حيث ينبجس الوجود، يندلق ويتجسدن في حركيته المرئية واللامرئية ، المفتوح الذي يجعل الاندلاق ممكنا بين مملكة الفانين ومملكة الأزليين، بين الحياة والموت، الاندلاق في دهشة الموتى. عمل ريلكة مؤطر إذن بانبجاسين هائلين وما فوق إنسانين: الله والملاك. يعتبرها يذغر بان توظيف هذه الصور القوية جدا مثل ملاك ريلكة، العامل عند ارنست يونغر، زرادشت نيتشه ضرورة تاريخية أصيلة، تدفع الميتافيزيقا التي هي قيد الاكتمال منذ هيجل، إلى التمثل عبر الصور وأيضا إلى تمثل التعالي كشكل، كصورة وكبصمة وكنمط انطلاقا من التحديد الذاتي للوجود. ملاك ريلكة صورة من ضمن الصور التي تسكن عالمه الشعري وتنهض عليها أسطورته الشخصية: العشيقات، الابطال، البهلوان، الموت، الحيوان، الموتى الشباب...الخ. بعد الصعوبة الكبرى التي جابهها ريلكة حين إنهاء ( دفاتر مالط لوريدس بريج) سنة 1910، الكتاب الذي اشتغل عليه سنوات عديدة، ذلك العمل الأدبي الغريب الذي سيصير في وقت وجيز باذخا والذي يشبه ملحمة شعرية أكثر مما يشبه رواية، العمل الذي احتفل فيه ريلكة بالموت والأطياف والأحلام والجنون والقوة والرعب والطفولة والحب، حين احتفل في الصفحات الأخيرة من دفاتره بالعاشقات الباذخات المجهولات كصافو، لويز لابيه والقديسة البرتغالية. الانتهاء من كتابة الدفاتر فتح حياة ريلكة على أزمة عميقة وعلى مرحلة جفاف وترحيلات لم تنته إلا مع كتابة المرثيات الأولى في قصر دوينو على البحر الادرياتيكي(1912) . في رسالة إلى الين ديلب Ellen Delp كتب ريلكة( هذا العالم الذي لا يرى أبدا في الإنسان بل في الملاك هو ربما مهمتي الحقيقية)، كما كتب في نهاية رسالة إلى لواندريا- سالومي بتاريخ 28 دسمبر1911 من قصر دوينو: ( لقد توهمت وضع راسمالي كله في قضية خاسرة، لكن من جهة أخرى لم يكن بامكان هذه القيم ان تصير مرئية الا في هذا الخسران ولذا، كما اتذكر ذلك، فان المرحلة الطويلة جدا لدفاتر مالط لوريدس، ظهرت لي لا كغرق بل بالأحرى كصعود معتم الغرابة نحو منطقة بعيدة مقفرة من السماء). يبدو كما لو ان هذه المنطقة البالغة النأي و القطبية هي نفسها منطقة ( مراثي دونيو) التخومية التي كان حدسها وفيضها في آن، جهدا وخطرا اضطلعت بهما الذات الشاعرة حد الخروج من هذه المهمة منهكة القوى وحيث القصائد أناشيد منبجسة من الاعماق الشعرية / الوجودية اللجية.. أناشيد باذخة لا مجرد وثائق حول هذه الاعماق . انها المنطقة أيضا حيث سيصرخ ريلكة بملئ صوته المندهش المرعب في المرثية الاولى: ( كل ملاك مرعب/...)، بعد قوله في بدايتها ( من ، من الملائكة في مراتبها، سيسمعني لو صرخت ؟/ وحتى لو ضمني أحدهم الى قلبه / أفلن أهلك من فرط وجوده الاقوى؟/ ذلك أن الجمال ليس درجة الرعب الاولى نستطيع فقط تحمله / وإذا كنا معجبين له فانه يأبى تحطيمنا./ ، وهي الفرحة ذاتها التي سيستهل بها المرثية الثانية التي تتنفس الهواء نفسه بحكم كتابتها مباشرة بعد الاولى والتي تستعيد التيمة نفسها : انسكان الملاك برعبه لأن الملاك الذي يتصوره الشاعر وترسم روحه معالمه وتبدعه، قد لا يكون بالنسبة له كمبدع منخرط في طقس مسارة ملغز سوى الطائر الحامل للموت. الملائكة التي نفحت في الكثير من قصائد ريلكة السابقة على كتابة المراثي سكينتها ونشرت مع خفقان أجنحتها الثقة والامان، تبدو الآن وقد تجاهلت الانسان وكل جمال، وكل ما يبلغ الوجود المطلق والخالص يسحق الانسان المستعد دوما لقول قلقه وكبت دموعه والانكفاء على عزلته التي صارت أليمة. من يستطيع منح الانسان البرهان الدال على وجوده، من يستطيع أن يحول الوجود، الى فضاء اليقين؟ صحيح ان الانسان استطاع تأويل العالم وتفسيره لكنه اخفق في تفسير الانسان نفسه، تحديد مآليته، تأويل طبيعة وجوده هنا - الآن، وضبط عناصر لشرطيته الانسانية، ومنح وجوده فوق الارض معنى، لكن الحيوانات نفسها التي تعرف بالغريزة مكانها داخل العالم تحس بقلقنا بحيث لا تبقى هناك سوى الاشياء التي نستطيع المناداة عليها: شجرة، طريق او عادة. ( ترى من يمكن ان تنادي؟ / لا الملائكة ولا البشر،/ والحيوانات نفسها تدرك بالغريزة/ اننا لسنا كائنات موثوق منها، تحس بأنها في مكانها/ داخل العالم المفسر. تبقى لنا ربما / شجرة عند منحدر، نراها كل يوم،/ تبقى لنا طريق الامس / ووفاء عادة...). نفهم إذن أن اضطلاع ريلكة بالحوار مع الملائكة، عملية حاسمة وجذرية، نوع من المجابهة الرؤوم التي قادته الى أقاصي عتمته حيث تورق عزلة مسكونة بالغوايات، بالوحوش والرعب والقداسة في آن. في خضم تلك التجربة- الحد حيث الوجود يعثر على قوته في صفة الاساس التي تسم العمل الشعري، ليس غريبا ان يشعر ريلكة بضرورة وضع عزلته تحت وصاية/ حراسة كائن ما ينمنح له ، تماما كما المراثي الثلاثة" الاولى، كهبة لا تقدر. مع تجربة الاضطلاع بالحوار مع الملائكة، سيعبر ريلكة نحو عالم الحركة الخالصة (: الحركة التي لا موضوع لها) عالم التبادل السعيد بين السماء والارض، الجمال والرعب، الداخل والخارج، الخالدين والفانين، المغلق والمفتوح. انها اللحظة الملغزة التي يولد فيها ما يسميه ريلكة Weltinnenraum ( الفضاء الداخلي للعالم) الذي هو في آن عالم جواني وانا برانية، الفضاء الذي فيه بالذات تنمحي الحدود المتعارف عليها بين الداخل والخارج. في لوحات Greco غريكو مثلا، سيرى ريلكة هذه الكائنات الملتبسة الرحالة دوما بين عالمين : الملاك عنده ( : أي غريكو) لم يعد ابدا كينونة ذات ماهية سائلة، انه دفق يمر بين المملكتين : الاحياء والاموات. تجتاح الملائكة (المراثي) إذن لا كاليغورات بل وفق ما هي عليه تحديدا: ضوء مبهر متعذر على الانسان الاضطلاع به، ضوء البداية الذي يحضر مخفورا بأبهته متجاهلا الانسان الضال اسفل قدميه. احدى السمات التي تحدد الملائكة الريلكية هي انها لا تميز شأن الانسان بين المملكتين. ( انه لمتعب ان نموت/ ومليئ بما يجب العثور عليه حتى نحس شيئا فشيئا / بقليل من الابدية. ولكن الاحياء يخطؤون / اذ يغالون في التمييز / الملائكة قد لا يعرفون في الغالب إن كانوا سائرين / بين الأحياءء أو بين الموتى). ليست وحدها الملائكة هي التي تسكن منطقة الالتباس والمابين هذه في " المرثية الاولى" بل وأيضا القديسين و العشيقات الابديات والموتى الشباب، أولئك الذين غادروا مبكرا وما عادوا بحاجة إلينا، بالرغم من اننا نحن المحتاجون الى أسرار جد كبيرة والذين نجد في الحداد غالبا انطلاقة وثبة سعيدة، لا نقدر على الاستغناء عنهم. عبر استدعاء الملائكة يضطلع الشاعر بمحك الشدة والعسر la détresse وليس غريبا إذن أن يرى هايدغر في ( مراثي دوينو)، التعبير بلغة شعرية عن الافكار ذاتها التي عبر عنها في اعماله الفلسفية، إذ بالإمكان وجود شعر الكينونة كما هي موجودة فلسفة الكينونة، نوع من الشعر الذي يتحاور مع ممكنات الوجود، ممكنات أن نكون انسانا، أن نصوغ نشيد الانسان، قصيدة عبوديته وعظمته الارضيتين. إنه نوع من التوازن شبه المستحيل تقريبا، بين الانا والعالم . إحدى الاسئلة الاساس التي تنطرح منذ المرثيتين الاوليتين هو : من هم أولئك الذين يصلون الفضاء حيث تكون الملائكة في مسكنها، والجواب هو نفسه الذي طرح في ( دفاتر مالط لوريدس بريج) : انهم القديسون، والموتى الشباب والعشيقات المهجورات . استدعاء الملاك في " المراثي" وحضوره الباذج الملتبس هو حركة التوجه نحو المفتوح. إنه الملاك العارف الذي لا يتحمل الانسان ولا يقدر على رؤيته مادام متصفا بجمال ما فوق أرضي مرعب. لربما كان هذا الجمال الباروكي الملغز هو ما تحدث عنه رونيه شار في احدى شذراته الشعرية: ( في ظلماتنا ما من مكان للجمال . المكان كله للجمال). ألا يساوي الجمال المظلم هنا الجمال المرعب؟.
في إحدى رسائله الى w.von hulewicz يحتج ريلكة ضد كل تأويل مسيحي للمراثي: ( لا يجب ادماج ما رأيناه ولمسناه هنا داخل دائرة اوسع، الاوسع من بين الدوائر كلها، ضمن المعنى المسيحي ( الذي ابتعد عنه بشغف أكثر فأكثر) بل تمثله بوعي أرضي خالص، أرضي بعمق وبفرح. ملاك " المراثي" لا يملك شيئا مشتركا مع ملاك السماء المسيحية ( بل بالأحرى مع صور الملائكة في الاسلام)). اذا كان الشاعر يوجه للملاك نشيده معرضا نفسه لخطر الموت، فذلك لأن لديه الاحساس بأن لا شيء يجمعه هو الكائن المحكوم عليه بالاندثار في الفضاء دوما، بالملاك الذي هو " الكمال الاول" والمسالة المطروحة على ريلكة في 1912 هي كالتالي: أمام الملاك الذي يمثل وجوده الواقع والكثافة التي تسحقنا، كيف يمكن تشييد الانسان في واقعيته وكثافته الارضيتين؟. انها المسألة المتعلقة جذريا بممكنات الوجود: ( إنه لغريب الا نسكن الارض... ألا نمنح الورد وأشياء أخرى مكتنزة بالوعود/ معنى مستقبل انساني،... انه لغريب أن لا نواصل رغباتنا / وغريب ان نرى ما كان ملتحما بالأمس/ وهو يعود مفرقا/ حرا في الفضاء). ملاك " المراثي" هو نوعا ما حضور مسكون باختلافه العنيد والتباسه المؤسس وكما هو الحال في كل الحداثة الشعرية، حسب كريستين بوسي- غلوكسمان ، من بودلير الى مالارمي، ريلكة أو موزيل، فإن الاستعارة الصوفية هي المؤشر على لغة مزدوجة، ومجاوزة للحدود تفقد الذات مكانها لتصير " بلا صفات"، وانطلاقا مماذا يمكن الكتابة، حين تفكك في الغرب انا المعرفة الانسانية، التي تأسرها غرابتها الخاصة وآخرها؟. انطلاقا من صورة لغوية تشتغل في آن كمشغل تخيلي، كموقع للكلام وكبيعالم للمرعب والجمال: أي كملاك لذا فان المضاعف الملائكي، سيسكن الحداثة الغربية بأكملها، الحداثة المنذورة لنزعة صوفية بلا تصوف حقيقي، كملاك " مراثي " ريلكة المرعب، وملائكية بودلير، كلي، بنيامين وروني شار.
إن الملاك حاضر هنا كاستعارة عبور للحدود بين الواقعي واللاواقعي المشخص واللامشخص، الخارج والداخل، المذكر والمؤنث، المسمى واللامسمى. إنه الملاك الذي يمارس الخطف والاسر ويتجسدن في اللقاء مع موضوع العشق باعتباره واقعه وتخيله في آن. في( كتاب الدم) يقول الخطيبي:( ظهر ملاك كرعشة الموت. أيها الجمال، الجمال المنسوج من ألم إسرافي، ما الذي يخفيه ضم أصابعك). وهو ما يتصادى الى حد ما مع قول ريلكة في المرثية الاولى:( ذلك ان الجميل ليس سوى بداية المرعب) ، وهو ما نلفيه أيضا في الصوفية الاسلامية، كما في قصيدة جلال الدين الرومي "ملاك النوم" حيث يظهر الملاك في اللحظة التي( انفتحت فيها، طريق اللامرئي) نحو موت سامية، مصعدة، صوفية: ( يقود ملاك النوم الارواح الى العتبة على طريقة راع يحرس قطيعه. تتأمل الروح الاف الاشكال والوجوه الرائعة). ملاك "المراثي" الملغز والملتبس والمسكون بغيريته وبعنف اصلي هو قانونه، ينتمي اساسا الى نوع من الاستطيقا الباروكية. كما لو ان الشاعر ينسكن داخل الفاعلية الجوانية للقصيدة بالحنين الدائم الى المتعذر بلوغه . انها الاستطيقا التي تشتغل كتخيل فعال ينفتح في آن على الجميل كما على المرعب، عبر هذا يحدد ريلكة، المهمة الثلاثية التي يتوجب على الانسان الاضطلاع بها و اختيار محكها: انشاد الحب، قول الاشياء والاحتفال بالموت. لا يؤسس الشاعر في زمن الشدة والعسر ما يبقى، إلا لأنه يختبر عميقا غياب الآلهة ويضطلع به كما لو أنه بالذات مآله الانطلوجي وسؤال كينونته الآتية ولأنه أيضا يضع النشيد في علاقة مباشرة مع نداء الهاوية. إن الملاك هو عتبة اللامرئي. إنه ملاك التحولات الذي ياتي ليغتني بعالم الاشكال ويعود مصحوبا يغنيمته. ( كل ملاك مرعب، ورغم ذلك، ويل لي، / فإنني أناديك، من الروح، ياالطيور الفانية./ عارفا من تكونين .../ لو اتى الآن، كبير الملائكة، الخطير مما وراء الكواكب،/ لو نزل ودنا بخطوة واحدة/ فسيهلكنا في انجذابنا نحوه وجيب قلوبنا العالي. من انت؟/ .كل شعور بالنسبة للإنسان يتبخر، ليفقد لهاثه وما يملكه الانسان، سرعان ما ينفصل عنه كندى الاعشاب أو كبخار طبق ساخن. يتساءل ريلكة في المرثية الثانية: هل صحيح لا تأخذ الموت ثانية الا مالها، وما هو منبعث منها؟ الا يحل بعض وجودنا احيانا سهوا فيها؟ ألا نمتزج بملامحها ، على الاقل، كما يمتزج الضبابي بوجوه الحبالى؟. هذه الهشاشة التي تسم كينونة الانسان والتي انطلاقا منها نطرح الاسئلة، وطيدة العلاقة عند ريلكة بمسألة الموت التي كان شاعرها بامتياز، فالإنسان في وجوده هو الوحيد الذي لا يكف عن التلاشي وحيدا بحضور الملائكة التي لا تندثر، وحيدا أمام الحيوانات التي تجافيه لأنها تشعر بانعدام توافقه مع العالم، ليظل عاجزا عن العثور على علة وجوده، وقانونه. الانسان لا يوجد وحده ولم يعرف بعد محك الموت الارتواء من منبع الحياة الذي ارتوى منه الموتى، واضطلاعه بالألم والموت. وحدها هذه التجربة تعلمه الحب والاقتراب من الاشياء، من أجل تغييرها في ذاتها والرقي بها داخل اللامرئي، ليرقى نحو الوجود الخالص الذي لا تشوبه شائبة. ان صوت "المراثي" و نشيدها الانطولوجي انعلنا بالذات من أجل اختبار هذه المسافة الاليمة الفاصلة بين الانسان والملاك، اذ بالرغم من شساعة هذه المسافة، فإنها لم تحل رغم ذلك دون رؤية الملاك في وهجه المتعذر الاحتمال احيانا، وهو ما يحفظ للإنساني آخر حظوظه. إن الحركة الافتتاحية التي جرفت بعنف ريلكة، شاعر الهاوية بامتياز، نحو الملاك، تجذب رؤيته أكثر فأكثر نحو الفضاء الجواني للعالم. داخل أعماق الكينونة تنمحي الزمنية وتندثر لينبجس نوع من الزمن الذي يصير التخيل فيه هو الواقع بالذات. يمر الانسان بجوار الاشياء كتبادل هوائي بينما الاشجار والمنازل التي نسكنها تظل واقفة، وكل شيء يتآمر لإسكاتنا، ربما لشعوره بالعار أو بفعل أمل عصي على القول. لكن اذا كان متعذرا مساءلة الملائكة التي لا تعرف الموت من اجل اكتشاف الطبيعة الانسانية فهل يبوح العشاق بالسر؟. بإمكانهم معرفة الكثير من الاشياء لانهم الخبيرون بالليل حيث ينكشف وجودنا/ لأكثر انحجابا من ذي قبل ويندغم في الكل تحت حراسة العتمة التي سيجتنا وحدتها الكبرى.( ايها العاشقان ، يا من يتكامل احدكما في الآخر/ انني أسالكما: من نكون؟/ يمسك أحدهما بالآخر/ لكن هل لديكما براهين؟/... يا من يستسلم أحدكما للآخر / انني أسالكما: من نكون ؟اعرف: اذا كان احدكما يلمس الآخر بكل هذه المسرة/ فلأن المداعبة تصونكما، /ولأن المكان الذي يشمله حنانكما يكف عن الهرب/ ولانكما تحسان بالديمومة تحته .هكذا تبدو لكما المداعبة تقريبا وعدا بالابدية).
إن نمط المساءلة الذي يطبع استدعاء العشاق هنا، يشي بأن الحب لم يحسم المشكلة الانسانية ،بالرغم من ان نشيده كما تقول إحدى "السونتيات" الى اورفيوس، برهان وجود. الحب دوما هو ما يروم إيجاد اللاواقعي نفسه وما ينطرح كقوة إبداعية تتغيا حلول المرئي في اللامرئي. يقول ريلكة في احدى رسائله الى مترجمه البولوني، بأن ملاك "المراثي" هو الكائن الذي يبدو داخله كما لو كان منجزا سلفا تحول المرئي الى لامرئي ننجزه. كل عوالم الكون تسقط داخل اللامرئي، كما لو أنها تسقط داخل واقعها الاقرب والاعمق. القلب الذي يسكن رؤية ريلكة يتجلى هنا في إرجاع الكينونة الفاقدة للملجأ، الى حيز اللامرئي الذي هو الفضاء الجواني للعالم. وحيثما تفكر كلية الكائن كانفتاح للإدراك الخالص، فإن هذا القلب يجب ان يكون قولا مسكونا بثقته، قولا لا يترجم تحول المرئي الى لا مرئي . إنه انمحاء الاختلاف بين اشكال الإدراك، واسم الكائن الذي لم تعد تقريبا توجد لديه حدود فاصلة بين هذه الاشكال هو الملاك، ذلك الاسم الاساس في شعر ريلكة، كما يرى هايدغر في أحد اكثر تأويلاته الفلسفية للشعر عمقا وجدة11، مثل " المفتوح"، " الادراك"، " الانفصال"، "الطبيعة"، اسم اساس لان ما يقال فيه يفكر كلية الكائن انطلاقا من الكينونة. في رسالة بتاريخ 13 نوفمبر 1925 كتب ريلكة:( ملاك "المراثي" هو الكائن الذي يطرح نفسه كضامن للاعتراف بان اللامرئي يحتوي أعلى درجات الواقع). مع الملاك سيستعيد الكائن الكوني في كليته وحدته الميتافيزيقية و يتجاوز الانفصال ويصير مرئيا لأن علامة الخطر تتجلى في الارادة الحاسبة التي تخضع العالم لنزعتها الموضوعاتية وتفقد الانسان ملاذه وتحول كل شيء الى سلعة، ليوضع بين يدي الملاك، ومجاوزة الانفصال التي يعاني منه الانسان والقلق. فبتوافق مع الماهية اللاجسدية للملاك تحولت في هذا الاخير، إمكانية القلق الناتجة عن المحسوس المرئي الى لا مرئي، ليترك ماهيته تلك تشتغل بفعالية انطلاقا من الدعة والطمأنينة اللذين أسهمت في حصولهما الوحدة المتوازية بين المنطقتين داخل الفضاء الحميمي للعالم. ذاك ما جسده قول ريلكة المسائل في المرثية الثانية : [أنقدر نحن أيضا ن نعثر على قطعة أرض/ من الماهية الانسانية خالصة ودائمة ، قطعة أرض خصبة قد تكون لنا/ بين التيار النهري والصخور؟ / ذلك أن قلبنا يتجاوزنا، دوما كقلب الاقدمين/ ولم يعد بمقدورنا تتبعه بالنظر/ في التخيلات التي تطمئنه، ولا في الاجساد الإلهية،/ حيث يتمالك نفسه وهو يتجاوزها]12. ليس ملاك المراثي مرعبا اذن الا بالنسبة لنا نحن المازلنا متشبثين بالمرئي. لذا يظهر الى أي حد، حسب هايدغر، تظل العلاقة مع كائن كهذا، داخل اكتمال الميتافيزيقا لحديثة، جزءا من كينونة الكائن، والى أي حد أيضا تبدو ماهية الملاك الريلكي، باحترامها لكل الاختلافات في المحتوى، هي المثيل ميتافيزيقيا، لصورة زرادشت النيتشية. طرح كهذا لا يستطيع النشيد الاضطلاع به إلا حين ينفتح على سؤال مساره الشعري، ويبلغ فعلا تلك الموهبة الشعرية للشعر، التي تتوافق والعصر الجديد للعالم، الذي لا يكون انحطاطا ولا انهيارا بل ينهض على تملك الانسان كإنسان منذور لأن يقول كلمة الحسم في ما يجب أن يظل تاريخيا وأصيلا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.