إيف ميشو هو أستاذ الفلسفة بجامعة "روان" الفرنسية، له ثلاثة كتب منشورة عن العنف في حضارتنا المعاصرة، وهو من المنادين بعدم تناول العنف بشكل تعميميّ كظاهرة عامّة، ويرى أن المطلوب هو تناول مسألة العنف بشكل مذرّر، بحيث أنّ تناولنا للعنف في المدرسة هو بالضرورة غير تناولنا للإرهاب العالميّ، مع الإلحاح على تناول المسألة من زوايا مختلفة.. وهو يؤكّد أنّ العنف يتمظهر في كلّ مكان، بقدر ما هو غير موجود في أيّ مكان.. عن العنف وتطوّره في المجتمعات المعاصرة وأساليب مقاربته، وضرورة استشراف توجهاته مستقبلا، كان معه هذا الحوار الذي أجرته كاترين هالبرن ونشرته مجلّة "العلوم الإنسانية" .. هل من معنى للحديث في العنف عامّة؟ أليس بإمكاننا القيام إلاّ بدراسات لمظاهر مخصوصة من العنف؟ ما إن نجمّع مظاهر العنف كلّها في الباب نفسه فإنّنا نخشى أن نفضي إلى خطاب لا خصوصية مميّزة فيه إلى حدّ كبير. واليوم، وعلى خلاف هذا، توجد نزعة إلى تفتيت المشكل، إذ ندرس العنف في المدرسة والإرهاب والعنف الممارس على الصعيد الدوليّ ووجوه السلوك الخطر. ولكن بتجزئتنا لمظاهر العنف، فإنّنا لا نأخذ بعين الاعتبارما يميّز الكائن البشريّ جوهريّا من حقيقة عدوانيّة. بيد أنّه يجب كذلك فهم العنف من زاوية أنتروبولوجيّة عامّة لا تقرّ فحسب بالجوانب الإيجابيّة في الإنسان، وإنّما ترى فيه أيضا نزعاته التدميريّة. وتركّز المقاربات المتخصّصة على بعض تنسّبها. في حين تمكّن الدراسة ذات الطابع العامّ من رؤية الأشياء في نسبيّتها. وعلى سبيل المثال وجدت في فرنسا سنة2000 نزعة إلى التركيز على العنف الداخليّ وانعدام الأمن، إلاّ أنّ العنف الدوليّ الأشدّ تقليديّة كان أكثر خطورة. يتغيّر فهم العنف في الزمان والتاريخ على حدّ السواء... تهتمّ المجتمعات في المقام الأوّل بمشاكلها. وتوجد مجتمعات يبدو فيها العنف الاقتصاديّ ومظاهر انعدام المساواة أو انعدام الأمن الغذائيّ بالنسبة إلى الكائنات الحيّة أهمّ بكثير من العنف الماديّ. فلكلّ مجتمع كيفيّته في مباشرة المسألة، إذ تراه يولي عنايته، عن حقّ أو باطل، إلى بعض أشكال العنف. وعندما ننظر في التاريخ الفرنسيّ، فإنّنا نتبيّن أنّ ما اعتبرناه عنفا قد تغيّر على نحو كبير خلال الثلاثين أو الأربعين سنة. ففي السبعينات كان العنف مساويا للإجرام والعنف السياسيّ. أمّا في الثمانينات فقد كان يعني لصوصيّة العصابات الكبيرة من ذلك ما كان من زعماء مثل"جاك مسرين" و"جون شارل ويلوكيه". وإثر ذلك وفي التسعينات كان العنف مرادفا لانعدام الأمن وعلى وجه الخصوص ما استشرى في الضواحي. أمّا اليوم فإنّنا نتحدّث أكثر عن العنف في المدرسة. ويبيّن كذلك هذا المقدار الكبير من الحساسية تجاه العنف ما لعمليّات المقارنة التي تُعقدُ من حدود، إذ توجد حالات من العنف تبدو عاديّة بالنسبة إلى أهل العراق أو أفغانستان في حين أنّها قد تكون من غير المسموح به بيننا، وحينئذ ليست بإمكاننا فعلا المقارنة. وفي الوقت نفسه يظلّ العنف رغم هذا شيئا يُحسَب وُيقاس. وإذا تركنا مسألة الحساسيّة جانبا فإنّه بالإمكان عقد المقارنات والتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّنا، نحن الأوروبيين، نعيش في عوالم على غاية من الهدوء في حين أنّ الظروف الحياتيّة في أفريقيا أو أمريكيا الجنوبيّة تبدو أكثر عنفا. ماهي التحوّلات الحاسمة أثر التي شهدها العنف في مجتمعاتنا الغربيّة الديمقراطية؟ كثيرة هي التغيّرات ذات الشأن. وقبل كلّ شيء نسجّل التطوّر المذهل للوسائل التقنيّة المستخدمة سواء في ممارسة العنف أوالردّ عليه. أمّا الجانب الثّاني فهو البعد التواصلي للعنف وعولمته الإعلاميّة الفوريّة. وفي هذا الصدد تمثّل اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول2001 مثالا أنموذجيا شاهدا على التواصل الإرهابيّ، فقد استهدف الإرهابيون برجين يرمزان إلى القوّة الأمريكيّة، وحدث هذا في الصباح بما يضمن لهذه الاعتداءات تغطية إعلاميّة طوال النّهار، هذا دون أن نستثني الطابع الهوليوديّ لعمليّة الإخراج. إنّ المجتمعات الغربيّة ملزمة كذلك باحترام حقوق الإنسان، ولهذا أيضا تأثيره في طرائق العنف الذي بإمكانها ممارسته. وحتّى في ظلّ الديمقراطيات، فإنّه يتعيّن وجود تقنيات للاستنطاق، وتبعا لذلك نحاول إيجاد وسائل موازية وملتوية وأشكال تعذيب مقبولة؛ كأن نضع المحتجزين في وضعيات غير مريحة إلخ ... ليس هذا تعذيبا "دمويا" وإنّما هو من قبيل التعذيب النّظيف والمقنّن ... وأخيرا، إنّنا في مجتمعاتنا نعطي قيمة كبرى للحياة والأمن على نحو معتبر حتّى بالمقارنة مع الماضي القريب. ومهما كان هول الحرب في العراق، فإنّ الأمريكيين لم يخسروا فيها عددا مرتفعا من الرجال، فقد قضى ما يناهز عن 1000 رجل مع عدد هائل من الجرحى جرحا بليغا. وهذا لايساوي شيئا ذا بال بالمقارنة مع حرب الفيتنام مثلا. وفضلا عن هذا فإنّ عدد المحاربين ليس أكثر ممّا هو عليه الحال في الماضي. واليوم أصبح العسكريون محترفين، ولكن أن تكون محترفا فإنّ هذا لا يعني الموت في سبيل عملك. وتبعا لذلك، وعلى نحو غريب، فإنّنا إزاء محاربين، محاربين مدرّبين تدريبا جيّدا، ولكنّهم لايريدون الموت ويرغبون في بلوغ سنّ التقاعد. وتلحّ جميع الدراسات الدائرة على هذه المهنة على هذا التحوّل. تتحدّثون عن هيمنة شعور بالرّفق الكونيّ اليوم يسير تطوّر مجتمعاتنا ? وحسبنا في هذا أن نذكر تطوير التقنيات الطبيّة ? في اتجاه المحافظة على الحياة. وقد يكون من العبث إجراء عمليات جراحيّة تدوم الواحدة منها اثنتي عشرة ساعة وتكلّف آلاف الدولارات لإنقاذ شخص أو تمديد أنفاسه لأشهر، وفي الوقت نفسه نرسل بكلّ استخفاف النّاس ليموتوا أو ليقتلوا غيرهم باسم قيم الوطنيّة والحريّة. وفي الوقت نفسه يمكن أن نذهب على غرار "أنّا أرندت" إلى القول بوجود قيم في الحياة تشرّع التضحية بالحياة. وتقدّم أسبانيا إثر اعتداءات 11مارس / آذار 2004مثالا جيّدا على هذا التناقض، فهو بلد ديمقراطي ينصاع إلى أوامر الإرهابيين لأنّه لا يمكنه أن يسمح بمصرع200 شخص. ولأوّل مرّة يتقرّر أمر الانتخابات الديمقراطية من قبل الإرهابيين، ولن تكون هذه هي المرّة الأخيرة بلا شكّ. وفي الآن نفسه لا يمكن القول إنّ مصرع 200شخص ليس أمرا هيّنا. نحن اليوم نريد أشياء متناقضة: هيمنة الرفق والتسامح ولكن مع وجود الاستقرار أيضا، مساعدة الفقراء ولكن دون دفع الضرائب، ونريد القيام بتدخّلات إنسانيّة لكن دون يكبّدنا ذلك الخسائر. إنّ هذه الخلطة المفارقة تمثّل مؤشّرا على تدجين ? منقوص دوما- لطبيعتنا.