من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور صديقي العزيز ، ليتَ الزمنَ يرجع بي إلى الوراء و يعيدني إلى سابق عهدي بالشباب ، كي أحقق حلمي القديم بجمع مختارات من الشعر العربي ، من القصائد الرائية على البسيط . و ذلك لكثرة ما اكتشفتُ من روائعَ في هذا الباب، على امتداد أربعة عقود من الزمان . لكن الشباب ولى ، يا صديقي العزيز ، وصار لزاماً على المرء أن ينسى حاجاته القديمة و أن يفزع إلى حاجاته الأخَر، عملاً بقول الشاعر تميم بن مقبل في رائيته البديعة على البسيط : كان الشبابُ لحاجاتٍ و كنَّ لهُ فقد فَزعْتُ إلى حاجاتيَ الأُخَرِ و هي من الرائيات التي كنتُ سأثبتُها دون شك ضمن مختاراتي. مثلها في ذلك مثل رائية الشاعر الجاهلي عامر بن الحارث - المعروف بأعشى باهلة - في رثاء أخيه المنتشر . و هي من المراثي المعدودات . و قد جعلها الأصمعي ضمن مختاراته . و من أبياتها البديعة ، في ذكْر الأخ القتيل : منْ ليس في خيره شرٌّ يُكدّرُهُ على الصديق ولا في صفوه كدَرُ ومنها : فإنْ جزعْنا فقد هَدّتْ مصيبتُنا وإنْ صبرْنا فإنا معشرٌ صُبُرُ فانظر معي ، يا صديقي العزيز ، كيف حذفَ الشاعرُ المفعولَ به ، بَعدَ قوله (هدَّتْ مصيبتُنا) ، لأن الرزء الذي حلّ به وبقومه رزءٌ شامل ، يُغني عن كل تحديد. ومن القصائد التي كنتُ سأختارها كذلك في هذا الباب ، رائية المَرّارالفقعسي، التي يقول فيها : وقد لعبتُ مع الفتيان ما لعبوا وقد أجدُّ و قد أغْنى و أفتقرُ و هي من عيون الشعر العربي .والمرار هذا - كما لا يخفى عليك - هو صاحب البيت المشهور في الكرم : إذا افتقرَ المرّارُ لمْ يُرَ فقرُهُ وإنْ أيْسرَ المرارُ أيسرَ صاحبُهْ ومن القصائد التي كنت سأختارها كذلك رائية المؤمَّل بن أُميل ، التي يقول في مطلعها : شَفَّ المؤمَّلَ يوم الحيرة النظرُ ليت المؤمَّلَ لم يُخْلقْ له بصَرُ وكان المؤمل يلقَّبُ بالبارد . ويقال إنه عميَ بالفعل بعد ذلك . ولائحة الرائيات طويلة جدا، سواء منها تلك التي ذاعت و اشتهرتْ في الأدب العربي ، أو تلك التي لم يكتبْ لها الذيوع ، والتي كنتُ دائما منَ المولعين بها ، منذ أن كان الشباب لحاجاتٍ وكُنَّ له. من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط لم يفت الأوان بعد ياصديقي. وأنت في رسالتك التي تشبه عندي مائدة الحواريين قد بدأت. لابد أنك انتبهتَ إلى قيمة الراء في الشعر العربي. إذ يخيل لي أنها الصوت الأكثر ترددا في قوافي هذا الشعر منذ الجاهلية إلى اليوم. هل ذلك لأنه صوت تكراري لا ينتهي حين ينتهي، إذ تحس له في نفسك بأصداء تنداح كما تنداح دائرة ( في صفحة الماء يُلقى فيه بالحجر ) ؟ أنا معجب كل الإعجاب بالقصائد التي أشرتَ إليها، وهي من عيون الشعر العربي النجلاء. وقد ذكرتني ببيتين مؤثرين لذي الإصبع العدواني على نفس النمط ، يقول فيهما: أصبحتُ شيخا أرى الشخصين أربعةً والشخصَ شخصين لما مَسَّني الكِبَرُ وبأبيات لكعب بن زهير : لو كنتُ أعجب من شيء لأعجبني سَعْيُ الفتى وهو مخبوء له القدرُ يسعى الفتى لأمور ليس يدركها فالنفس واحدة والهم منتشرُ والمرء ما عاش ممدود له أمل لا تنتهي العينُ حتى ينتهي الأثرُ و برائية النجاشي الحارثي ، التي يقول فيها : إنّي امرؤ قلَّ ما أثني على أحَدٍ حتى أرى بعْضَ ما يأتي و ما يذَرُ ولصاحب العقد الفريد ابن عبد ربه - وكان المتنبي يسميه «مليح الأندلس «- شعرٌ جميل في اللهو أيام شبابه، فلما شاخ عاد إلى تلك القصائد فعارضها بأخرى في الزهد وسماها ( الممحّصَات). فمن قصائد شبابه واحدة يقول في مطلعها : هلا ابتكرتَ لبين أنت مبتكرُ هيهات يأبى عليك اللهُ والقدرُ ما زلتُ أبكي حذار البين ملتهفا حتى رثى ليَ فيك الريحُ والمطر وحين أدركه الكبر عاد فمحّص هذه القصيدة بأخرى في الزهد يقول في آخرها : لو لم يكن لك غيرُ الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مُزدَجَرُ فما رأيك - يا صديقي - في هذه الحياة المستديرة ؟ و في هذا الشعر المستدير؟