كنت كثير الإنشغال بنفسي ، حيث عزمت على التوغل داخل المغرب حتى يمكنني الإستفادة من خبرتي الطبية في خدمة الدولة هناك. كان أكثر الحديث أثناء ذلك الوقت ، في إسبانيا أو في الجزائر يدور حول إعادة تنظيم الجيش المغربي ، بمعنى، أعرب السلطان بعد معاهدة الهدنة مع إسبانيا، عن القيام بإجراءات إصلاحية. و لهذا قامت الصحف بنشر نداء ، الى كل أوروبي يمكن الإستفادة من علمه و كفاءته هناك ، بالتوجه إلى المغرب. لقد استأثر كل هذا باهتمامي ، فبدأت بوضع أفضل الخطط للمضي في غايتي . ونتيجة لتأقلمي عبر سنوات طويلة من الإقامة في الجزائر ، كنت أعتقد ، انه يجب علي أولا، حتى يمكنني التقدم بسرعة داخل المغرب ، الاحتكاك بسلوكات الأهالي والتعرف على عادات و أسلوب حياة هذا الشعب ، أكثر من محاولتي الإقتراب من السكان العرب في الجزائر. من هنا يوجد في فاس أيضا أطباء متخصصين في النار . يراهم الإنسان مقرفصين فوق أرض الشارع الرئيسي ، الذي يربط فاس الجديد بفاس البالي. أمامهم قدر حديدي صغير في داخله مشواة ، حيث يوجد فوقها جمر شديد الإلتهاب . بجانبهم قفة تشتمل على الفحم ، و بجانبها ركوة من جلد المعز ، التي تستعمل للنفخ على النار. يأتي مريض ، كان عليه قضاء الليل دون خيمة ، وقد أمطرت ، و نتيجة لذلك أُصيب ، بألم الظهر. يقدم نفسه إلى طبيب النار الشهير سي دريس ، فهذا الاخيرهو شهير بحيث ، أنه يعرف القراءة ، طالب ، يشهد له بذلك ، كتاب ضخم يوجد بجانبه ، وهو الكتاب الوحيد ، الذي يملكه . حتى و ان كان الدكتور سي دريس لا يملك غير هذا الكتاب الوحيد فقط . فهو رغم سنه الستين ، لم يقرأه بعد كاملا ، هل الكتاب صعب الفهم إلى هذا الحد ؟ كلا ليس هوعلى الإطلاق ! لكن لذلك أسبابه ، أولا لم يقدرالدكتور دريس على إنهاء قراءته كاملا ، لأنه يمل أثناء ذلك بسرعة كبيرة مثل طفل عندنا في السابعة أو الثامنة من العمر ثم إن مضمون الكتاب ، حتى و إن كان بالنسبة للمسلمين مهم جدا و ضروري للمعرفة ، فهو في غاية الملل . ذلك أن الكتاب لا يحتوي من بدايته حتى النهاية إلا على جملة واحدة : ? لا إله إلا الله محمد رسول الله? خلال ذلك قام طبيبنا الأخصاصي بتجهيزعدد من الأسياخ الحديدية ، بطول قدمين و ذات عقد معينة ، أعقاب وأشكال أخرى ، مدخلا مقدماتها القابلة للحرارة، في النارالموقدة أمامه. و قد أوهج بالركوة جمراتها بشكل أفضل ، في الختام أصبح الحديد أبيض ، بينما تمدد المريض أثناء ذلك على بطنه ، ملابسه مرفوعة إلى الأعلى ، و المارة ، الذين رأوا ، أن أحدا سوف ? يتلقى النار ? ، كونوا جماعة جد مكثفة. و حين أزفت اللحظة الحاسمة ، تناول الدكتور سيخا و مع نداء ? بسم الله? شرع متأنيا يعمل به بعض الخطوط فوق ظهر و حول سلسلة ظهر المريض . فحيح تصاعدت معه رائحة كريهة إلى أنوف الواقفين من جراء الجلد المحروق . و قد أظهر المريض ، أثناء هذه العملية ، التي يقوم بها سي دريس بتأن غاية في الروعة لأنه يعتقد ، أن السرعة الكبيرة تسيئ إلى سمعته ، أظهر مثابرة وجلدا كبيرين ، فقد عض على أسنانه و قطرات العرق المتصببة بغزارة وحدها تفصح عن آلامه. مثل مصروع بقي المريض بعد نهاية العملية ممدا لمدة طويلة على الارض ، لكن لا شكوى تصل إلى أذان الواقفين ، الذين كانوا يدحرجون حبات السبحات بين أصابعهم وهم يمجدون الله و محمدا على شفاههم . لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ المريض الذي لابد وأنه كان ميسورا ، أدار رأسه مناديا : ? سي دريس، سي دريس?، ? مالك ? ، ماذا تريد ؟ كانت تلك هي إجابة الطبيب المشهور و المختصرة ، ? مازلت العافية ?، ألا تزال هناك نار! ? مليح عطني حقي?، جيد، إعطني أجري ، أجاب الدكتور. تحت التأوهات والزفرات ? الحمد لله? ، سحب المريض من احدى طيات ملابسه موزونة ( ربع قرش تقريبا) قدمها الى الدكتور، و بذلك يبدأ علاج النار من جديد . سي دريس ككل الأطباء المغاربة يجعل دائما أجرته تدفع مقدما. بالمناسبة فقد جعلت منه سمعته الواسعة ، طاغية لا يقبل المساومة ، بينما كل الأطباء الأخرين و ايضا دكاترة النار، يسمحون دائما بالمفاصلة معهم ، وهذا ما لا يفعله سي دريس . عن الثمن الثابث للمعالجة مرة واحدة بالنار، لم يتزحزح منذ سنوات عن تقاضي موزونة واحدة . لكن أي ثورة أحدثتُ في فاس بين الأطباء ، حين إنتشرت فجأة إشاعة ، أنني أملك? النار الباردة ?، وأن بركة النار الباردة هي أكثر اثرا . غير أني خفت ، حيث جاء كل المرضى إلي ليجعلوا أنفسهم ، ليكتوون بالنار الباردة ، خفت من أن يقوم زملائي ضدي بشيئ ما، و رغم أنني كنت لا أزال أتوفرعلى كمية من نترات الفضة أو حجر جهنم ، غير انني أعلنت، عن نفاذ النار الباردة ، و صرفت منذ ذاك كل المرضى ، الذين يرغبون في الإكتواء بالنار، إلى زملائي الأجلاء. فهذه القوات? النظامية? المذكورة أنفا، لا تقام بها مناورة أبدا ، والتداريب تنحصر في السير الإستعراضي ، في ? السلام دور? (إستعراض البنادق) و بعض المصطلحات الأخرى . خلل كبير أخر و هو ، أن معظم الجنود متزوجين و لهم أطفال ، كثير منهم يملكون العبيد ايضا ، بإختصار، يمكن القول ، أن السلطان لم ينجح بأية حال بمجموعاته الملونة بأنواع بدل كل الدول في خلق جيش نظامي و لا حتى نواته . لكن عصمة السلطان من الخطإ القائمة منذ مئات السنين، أدت إلى ، أن هذه الشخصيات بدأت هي الأخرى تعتبر نفسها معصومة من الخطإ ، و السلطان يعتقد فعلا ، أن بتعيينه إنسانا ما قائدا لفرقة ما ، قد صنع بذلك فعلا رئيسا بارعا. فرقة الخيالة هي أفضل تنظيم ( فهم حسب السير درمندهاي، ستة عشر ألف فارس قوي) ، لأنها مكونة وفقا للشُروط المحلية . الخيالة يتقاضون ? موزونتين? في اليوم زيادة على المشاة ، لكن عليهم مقابل هذا علف خيولهم بانفسهم . فهم مقسمون إلى مجموعات صغيرة من 50 إلى 60 فارس ، الذين هم تحت إمرة قايد . و الأوامر هنا تعطى بالعربية. كسلاح يحمل الفارس بندقية قفل حجري طويلة و سيفا مستقيما نسبيا ، فمن إستطاع الحصول على مسدس أو مسدسين زيادة ، يعتقد أنه أصبح بذلك مدججا تماما بالسلاح السيف يحمل بحبل من الحرير أو من القطن متدليا من الكتف الأيمن إلى الجهة اليسرى . كل السيوف مزودة بمسند مرتفع إلى الخلف ، مع عقب عال إلى الأمام و هو المستعمل عموما عند العرب و البربر. الحديث عن التداريب والمناورات هو أكثر ندرة عند الفرسان ، فكل براعة الفارس تنحصر في ، حمل الفرس على الإسراع في العدو، و إطلاق النار من البندقية أثناء ركوب الخيل . و حيث أن الرُكب يعلقون جد قصيرين و مُعدون هكذا بحيث ، أن كل القدم تجد لها متسعا فوقه ، يقف من هنا غالبا الفرسان عند العدو السريع . وعلى هذا النحو يتم الهجوم أيضا ، فالواحد يعصف مقتربا إلى الأمام ، ويطلق من البندقية دون تصويب ، و بعد ذلك يعقب الفرس من ذاته عائدا وهو يحمل المهاجم . الخيالة ليس لها إلا الأحصنة فقط . منذ الحرب ضد إسبانيا أنشأ سلطان المغرب مدفعية الميدان ، لكن كذلك هنا اُشيرعليه بتعاسة كما هو الحال في إحداث البدل العسكرية . فهو لا يملك أي مدفعية تشبه الأخرى. المدفعيون ، الذين يستعملون هذه الأليات ، كلهم تقريبا مرتدون إسبانيون ، كذلك وجدت هناك فرنسيا ، الذي كان قائدا ، و ألمانيا ، كان في الوطن مساعد بناء ، فقد إستبدل ِمسطري البناء بالمدفع ، وعين من طرف سيدي محمد ?حاكم المومنين ? ، الذي قام له بعدة أعمال ترميم في القصر،? قايد الطبجية ? ومعناه ، قائد المدفعية. بالكاد أحتاج إلى القول ، أن كل هؤلاء المرتدين هم متزوجون هناك. إذن فقد أعلنوا في الواقع عن أنفسهم و إلى الأبد ، أنهم مواطنون مغاربة. أوروبي وحيد تمكن فعلا في المغرب من إحراز رتبة محترمة حقا ، بلا ربيب كان هذا هو الأخر قد أصبح مسلما صوريا فقط ، ودخل معي في نفس الفترة إلى العاصمة فاس ، أما الأن فقد غادر المغرب منذ فترة طويلة. إن هذا هو الإسباني يوؤخيم غاتل ، الذي كان إتخذ إسم إسماعيل في المغرب. و حيث أن وصفه ? لواد نون و التكنة ? يتضمن تصويرا هاما للحياة العسكرية المغربية ، فسوف أترجم هنا الأتي من ? تقاريرالجمعية الجغرافية لباريس?. في الصفحة 279 يكتب غاتل : ? في سنة 1861 كانت الحرب أنذاك قد إنتهت بين المغرب و إسبانيا . فالحكايات ، التي أُلفت وقتها عن الشعب المغربي ، عن التقاليد ، الأساطير، العادات الوحشية ، عصبية السكان ، أثارت في فكرة التوغل في داخل البلد ، رغم الأخطار، التي قد أتعرض لها . سافرت إذن إلى فاس ، حيث يوجد البلاط ، وحتى أحقق هدفي على وجه أفضل ، دخلت في الجيش النظامي للسلطان . رغم أنني لم أكن أفهم من السلاح إلا اليسير جدا ، فقد عينت على الفور ضابطا.? بعد وصف الحملة ضد بني حسن ، حيث عين غاتل قائدا لوحدة ?مدفعية حرس السلطان? ، تابع وصف الحملة ضد الرحامنة: ? كنا نملك تسعة و عشرين قطعة ، أُرفق بها مدفع المهراس . من مخزن الرباط حملنا معنا خمسة و خمسين وقية من مسحوق المتفجرات في البراميل ، و غير ذلك الكثير من المتفجرات الجاهزة في الصناديق ، و هكذا بدأنا في ملاحقة المتمردين . جزء من ? قبايل? السراغنة توحد هو الأخر مع الرحامنة ، كذلك هذه المرة لم يكن الجيش السلطاني يتقدم ببطئ شديد مدفوعا بالعزة فقط ، و انما كان يبدو، وكأننا نقوم بنزهة في واضحة النهار، لكن في كل الأحوال ليس من أجل مهاجمة العدو. كانت العاصمة مهددة ، لكن مع هذا لم يكن أحد يهتم بمثل هذه التفاهة. سوف نصل مبكرا جدا ، و إن لم يحدث ذلك ، فتلك مشيئة الله . الجلالة المغربية يجب أن لا تبدي العجلة ابدا، أوحتى إظهار إهتمامها البالغ بمجريات الأحداث.? ثم يتحدث غاتل عن ، كيف لم تُعلن الحرب ضد الأهالي ، و إنما ضد مزروعات الحقول، التي يتم حرقها ، و أخيرا حين كانواعلى بعد أربعة ساعات من مراكش وجها لوجه مع الرحامنة ، شتت القصف المقاومين ، حيث أطلقت هنا فرقة المدفعية خمسة عشرة طلقة و قدفت ثمانية قذائف. ? فيما يتعلق بالحرس الأسود لسلطان المغرب ، ? جيش البخاري?، الذي لعب تحت قيادة السلاطين القدامى ، و بالتحديد تحت مولاي إسماعيل دورا كبيرا ، اليوم تقلص نفسه بشكل كبير، يكاد يكون بعض المئات من الرجال الأشداء ، وظيفته الأن هي في فخامة الإستعراض فقط ، و يبدو أنه لم يعد بعد يستعمل ضد العدو، على الأقل لم يشارك جيش البخاري في الحرب ضد إسبانيا . كل الجيش تحت رئاسة أسود ، إسمه عبد الله، كوزير للحرب ، فقد أحرز على هذه الرتبة كعبد سابق ترعرع مع السلطان الحالي . تحت إمارته عدد من ?الأمناء? ، الذين يقومون بمهام الجيش المالية و غيرها . بعد هذه الإطلالة على الجيش سنعود إلى مدينة فاس ثانية. من بين بقية البنايات المستحقة الذكر، سوف نذكر مسجدين فقط . أولا جامع القرويين، هذا المسجد هو أكبر مساجد شمال إفريقيا. فسكان فاس يزعمون ، أنه يقوم على أزيد من 360 سارية، بل تحدث بعضهم عن 800 عمود، فأنا لم أستطع بطبيعة الحال عدها، لكن إذا ما نظر الإنسان من فناء المسجد إلى الداخل، يحسب أنه أمام غابة من الأعمدة . إذا ما صدق الإنسان وصف ليون ، فالجامع يشتمل على واحد وثلاثين بوابة كبيرة ، السقف محمول على ثمانية و ثلاثين قوسا طولا و عشرين عرضا ، وهذا سيعطي أزيد من تسع مئة سارية. علي باي يذكر ثلاث مئة عمود . مسجد القرويين يوجد نسبيا في وسط المدينة القديمة ، و قد أنشأ تقريبا ككل المساجد و التي على هذا النمط ، ذلك أنه يتكون من فضاء بهو كبير، تحفه أسوار و أقواس شاهقة و جزء منه بسقف مغطى . المسجد الفعلي ، كله مشيد من الأجور المطلي بالجير، السطح ، أو بالأحرى صفوف من السطوح غير المستوية و المغطات هي الأخرى بقرميد على شكل سرج . الصومعة المرتفعة إلى حد ما ، مربعة الجهات كما هو في مجموع المغرب ، و قد أنشأت عريضة جدا. في فناء البناية تنبع تيارات مائية من نافورتين رخاميتن ، رائعتين و فاتنتين ، فمرافق المياه و البيوت الصغيرة ، حيث تتم شعائر الطهارة الضرورية قبل الصلاة ، هي عموما متميزة وكثيرة . القسم المسقوف من المسجد له مثل كل هذه البناية جدران صماء مغطاة بالجبس ، لكن كل الأرضية مفروشة إلى حد ما بالزرابي النفيسة ، و في كل مكان على الأقل بحصائر ناعمة . كذلك على الجدران و حول السواري تمتد حصائر أخرى جميلة بإرتفاع نصف قامة رجل . مثلما هو في كل مساجد الغرب هناك تجويف في الجدار الشرقي ?القبلة ?، الذي يحدد وجهة الصلاة. مباشرة على الجهة اليسرى منه هناك الأدراج ، التي من فوقها تقرأ ?خطبة? صلاة الجمعة . بعد دعاء قصير يصعد الإمام الأول للمسجد، مزود بعصى طويلة في يده، إلى الدرج الثالث ( المنبر يتكون من خمسة أو ستة أدراج ) ، ثم يقرأ بصوت وتيرة واحدة خطبة الجمعة، الختام يكون دائما مرفوقا بدعاء للحاكم الحالي ، في مجموع ? الغرب ? أي ، المغرب ، وكذلك في المناطق الجنوبيةالجزائرية يتم الدعاء لسيدي محمد بن عبد الرحمان ، لكن في الشرق ، بما في ذلك، تونس و مصر، لعبد العزيز خان . إن كان المسلمون في الجزائر اليوم لا يزالون يدعون ايضا ، لنفس السلطان التركي ، كما كانوا يتضرعون سابقا ، بالنصر للقائد نفسه ، أو للحاكم الفرنسي وقتها ، ذلك ما لا يمكنني قوله . لمسجد القرويين خصوصية، توفره على كثير من المنابر أو كراسي الوعض . ففي خطبة صلاة الجمعة لا يستعمل إلا ذلك الذي يوجد على يسار محراب الصلاة ، غير أن البقية تستعمل لكراسي التدريس ، فمن فوقها يعلم و يوعض المؤمنون في بقية الأوقات. لكن حين يقصد علي باي، أن القرويين وحدها ، من تتميز بإحتوائها على جناح خاص للنساء ، ذلك لأن محمدا لم يتعرف على أي مكان للنساء في الجنة ، فهذا شيئ مثير للدهشة ، يمكنني الرد عليه ، أن للنساء الحق في دخول كل المساجد . عادة النساء المسلمات لا تذهبن لأداء الصلاة في المساجد ليس لهذا السبب ، ذلك أن المساجد ليست ممنوعة بأي حال من الأحوال على النساء ، مثلما هو حج مكة ليس ممنوعا عليهن . فمن الخطإ الإعتقاد ، أن محمدا حرم النساء من الفردوس ، ففي سورة 17، معناه حرفيا ? و لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانو يعملون.? و في مواضع أخرى كثيرة من القرآن ، بالتحديد سورة 13، يذكر محمد النساء كمشاركات في السعادة الفردوسية اللاحقة . ترتبط بالقرويين بناية أخرى ، التي هي نسبيا خزانة هامة ، بطبيعة الحال تضم مجموعة من المخطوطات فقط ، فحسب تقديرات سطحية ، قمت بها ، تتوفر هذه الخرانة على خمس ألف مجلد على الأقل . فمجموع نفائس الكتب بالمناسبة توجد في حالة إهمال بالغ ، و إنها لمعجزة ، أن الغبار والعُثث لم تحدث فيها إتلافا كبيرا. فمن السهل الحصول على الكتب من الخزانة قصد قراءتها ، ايضا هو مسموح الإطلاع على المخطوطات (طبعا للمسلمين فقط) ، غير أنه محضور بثاتا ، إستعارة أي كتاب ، لأجل حمله إلى البيت ، و حيث أن المكتبات هناك لا تعرف على ما يبدو نوعا من ترتيباتنا ، الفهارس ، الإستمارات و نحوها ، لذلك فهذه التدابير هي ضرورية للغاية . فحتى اليوم لايزال يدرس دائما في القرويين ، مع أنه لم يبقى من الجامعة الشهيرة سابقا، إلا ظل باهت . يفسر القرآن، أي يجادل حول مسائل سطحية صغيرة ، حيث لا يسمح بأن تمس أصول العقائد. فمن إرتاب بأقل قدر في معتقد ما ، فسوف يرمى على الفور بالمروق ، سوف يخرج من حيز الإسلام ، و حيث أن عقوبة الموت في المغرب لا زالت مزدهرة ، كما كانت عندنا من قبل لنفس الإرتياب ، هكذا يتحفظ كل واحد في المس بأي شكل من الأشكال بكلمة من الكتاب ، الذي هو نازل من السماء . عكس ذلك يسمع الإنسان التفسيرات الأكثر علمية حول الأشكال و السطحيات ، مثلا ، إن كان محمد قد قرب بعد رمضان الأول كبشا أسودا أو أبيضا ، ما هو حجم جهنم ، هل سيقدم في الجنة هذا الطعام و ذاك ايضا ، و كثير من مثل هذه التراهات . ثم تدرس عناصر الطبيعة الأربعة ، لكن فقط بطريقة جد مقتصدة . أشير بالمناسبة إلى، أن المغربي ، بإستثناء عمليات الجمع ، فإنه يستعمل الطرح ، الضرب و القسمة، بطريقة أخرى ، خلافا لما نعمل على تعلميه في مدارسنا. ايضا تقدم دروس الجغرافية ، أو تلقن بالأحرى حفظا ، لأن في بلد، لا يملك فيه الواحد عن وصف الأرض إلا معرفة يسيرة ، حيث يتصور ، أن البرتغال أكبر من فرنسا ، فهو يبدو بدون شك بئيسا بمعلوماته عن الأرض . هكذا يعتقد المغاربة أيضا ، أن أرضهم هي الأكبر و أن شعبهم هو الأول و الأقوى في العالم . كذلك يمارس علم الفلك، لكن فقط في علاقة مع التنجيم. بعض المتعلمين المغاربة يميلون إلى أراء بطليموس ، لهم فكرة عن كبر الكواكب ، بالمناسبة ، أن الأرض تدور حول الشمس ، ذلك ما لا يسمح بتدريسه ، إذا ما إستطاع الواحد إطلاقا الرقي إلى هذا التصور ، فإنه يكون في تناقض مع القرآن . ثم هناك دورس التاريخ و يمكن للإنسان عموما إستحسان الثناء على هذه المادة أيضا . فقد شاركت في الإستماع إلى قراءات هامة من هذا النحو ، التي إشتملت على شيئ من تاريخ العرب في ? بلاد الأندلس? (اسبانيا). في الأخير هناك شعبة? الجرومية? معناه، النحو العربي، لكنها هي الأخرى لا تختلف عن بقية الشُعب المعتادة الأخرى. كل هذه الشعب تدرس في القرويين نفسها ، هكذا يلتقي الأنسان هنا في كل أوقات النهار بالطلبة والمدرسين. المدرسون يتقاضون أجورهم من مال المسجد والطلبة إلى حد ما أيضا ، لهم كلهم على الأقل مؤونة وسكنا مجاني. تعتبرالقرويين من أغنى المساجد ، ثلث دكاكين وأقبية فاس من أملاكها ، و الحدائق و المزارع الكثيرة، فحتى و إن كان الحكام السابقون لفاس ، يستولون أحيانا على كل إيرادات المسجد و أملاكه ، كان أخرون يعيدون من جديد ما ضاع مضاعفا. فرجال الدين الإسلامي قد تعلموا أن يروا جيدا مثل الأخرين كذلك، ان سلطتهم تقوم على المال وملكية الأرض، وعلى كثير من الخصوصية، مع أن محمدا علم ايضا مثل المسيح (262)، ? لا تكنزوا ذهبا أو فضة في جيوبكم?، ? لا تعبدوا المال?، نرى، أن رجال الدين الإسلامي ليسوا أقل حرصا من جميع الديانات الأخرى، على جمع الكنوز، قصد الوصول إلى السلطة. كيف كان ثراء القرويين على عهد ليون، يتضح ذلك من خلال وصفه : ? فالإيرادات اليومية تبلغ 200 دوكات ، في الليل توقد 900 مصباح، زيادة على ذلك هناك ثريات كبيرة ، كل واحدة منها تتسع إلى 1500 قنديل إلخ.? فهاته الثريات الكبيرات قد إختفت مع مرور الزمن ، وهي مذابة من النواقيس المسيحية، كما ذكر ليون ، و جعلت ربما لاحقا في خدمة أحد السلاطين ، حيث أفرغت في قوالب المدافع. أما بقية المصابيح العديدة والثريات البلورية الكبيرة فهي لا زالت موجودة . في إحدى الغرف المهملة لا زالت توجد أيضا مختلف الساعات الكبيرة ، بوصات ، مغنطيسات ونحو ذلك ، دون أن أعرف أصلا ، إن كانت هذه الأشياء لازالت تستعمل. المسجد الأخر، الذي نذكره نظرا لطراز بناءه الخاص من ناحية، ثم نظرا لشهرته كملاذ من ناحية أخرى، هو، الذي يحمل إسم و بقايا اجزاء جثمان مؤسس المدينة ? جامع مولاي إدريس?. يقع ملتصقا جدا بالأول، لا ينفصل عنه إلا عبر زقاق ضيق . في واقع الأمر لا يظهر هو الأخر إلا من خلال هذا الزقاق المسمى، ? باب السنسلة ?، باب السلسلة هذا، له مدخل كبير و جميل على شكل حدوة فرس، كل الجهات الأخرى فهي محاطة بالأسوار . مسجد مولاي إدريس يتميزعن بقية كل البنايات الدينية في المغرب من حيث، أنه لا يشتمل على بهو، ثم إن صفا صغيرا من الأعمدة ذات الأقواس أُلحق به فيما بعد كما يبدو. وهذا يشير إلى قدم البناية، حيث في متناول الإنسان ملاحظة تقليد المعابد المسيحية . كذلك لم تعد اليوم توجد هيئتان لتدريس الطلبة، تلك التي تحدث عنها ليون بإعجاب بالغ ؛ فمن غير كراسي التدريس في القرويين، لا تتوفر فاس حاليا إلا على مسائد و مدارس إبتدائية، حيث يلقن التلاميذ الكتابة و القراءة ميكانيكيا وليس بما فيه الكفاية. هذه المدارس توجد بأعداد كبيرة ربما فوق المئة . المستشفيات، التي ذكرها ليون ، ليست هذه مستشفيات حسب مفهومنا، و إنما هي، (دور إيواء المرضى) بمعنى الكلمة . فحتى الوصف، الذي قدمه ليون عنها، يشير إلى ، أن في زمنه ايضا لم تكن لها وفق مفهومنا إلا علاقة طفيفة بالتطبيب أو بالمستشفيات. فهذه أوقاف، حيث بإمكان الزوار، المسافرون، العابرون المرهقون الإستراحة فيها و الحصول أثناء فترة زمنية معينة، على السكن و المأكل دون مقابل. كانت هذه التقاليد، الحصول على مثل هذه الأوقاف في المدن، ليست راسخة في البلاد الإسلامية فحسب، و إنما كانت توجد أيضا في كل البلاد المسيحية، في ذلك الزمن، الذي لم تكن حياة الفنادق قد تطورت بعد مثل الأن . هذه المرافق لا زالت توجد اليوم أيضا في كثير من المدن الأوروبية مثلا في سافوي ، في فرنسا و إيطاليا . مستشفيات بمعنى الكلمة لا توجد في فاس . هناك ? الفنادق ?، التي بنيت، لإيواء الإنسان و الحيوان ، و أخرى ليس فيها مكان إلا للبشر و على كل حال لبضائعهم . مثل هذه المأوي ، كما يصفها ليون، على أنها مأوي لغير المستقيمين ، بل وتسكنها ?القحبوات?، حيث يتردد عليها كذلك شخوص نسائية قادحة، لم يعد لها اليوم في فاس وجود، فعلا هناك خلف أبواب المدينة، الحي الذي من هذه الناحية له سمعة سيئة، لكن العهارة الفعلية في المغرب لا توجد عموما إلا في مكناس فقط. بالمقابل هناك العديد من المقاهي ، حيث يدخن و يأكل ? الكيف?، أي، عشب القنب المجفف (كان، إندكا) أيضا العفيون يؤكل في هذه المقاهي، فعادة تدخين العفيون لا تعرف في «الغرب». فالحكومة أو الشرطة لا تقوم بأي شيئ ضد هذه المتعة الضارة، ثم كيف ذلك و الحشيش والعفيون مع التبغ جميعا لا تباع في المدينة إلا من طرف هؤلاء التجار، الذين قاموا من إجل ذلك بشراء رخصة من الحكومة. فهذه الحالة ليست إذا في فاس وحدها ، و إنما هي في كل المدن المغربية الداخلية فهي بالنسبة للمدن نوع من وكالة العفيون، الحشيش و التبغ . غيرأن الناس المستقيمين يتحاشون حقا، الدخول إلى مثل هذه المقاهي ، مع ذلك فكل واحد في فاس تقريبا، يعاقرمتعة الحشيش سرا و في داخل البيت فقط. لذلك ممنوع بالمقابل بيع العرق و الخمر بكثافة ، بيد أن كلاهما يمكن الحصول عليه في فاس مقابل المال وكلمات معسولة، الأول يقطره اليهود من التين، الزبيب أو من التمر ايضا يتم تهريبه إلى هنا من جبل طارق. الأخير يعده اليهود وكذلك المسلمون في موسم قطف العنب. لا يصل الإنسان مباشرة من القصرية إلى متاهة أزقة الحرفيين ، بل عليه أولا و هو في طريقه إلى فاس الجديد، التجول على الأقل عبر حوانيت الزهور و هي تشكل منعطفا جميلا من التصنيع إلى التجارة. إنها خاصية ، ذلك العشق ، الذي يبين تميز سكان فاس منذ القديم عن بقية المغاربة في إمتلاك الزهور، كذلك كما يبدو هذا في تصفيف حدائقهم أنفسهم في كل مكان . فالدار، التي قدمها إلي الباشا حاكم فاس كإقامة، توجد على مرتفع التل الشرقي . يعبرها فرع من واد فاس ، غير أشجار البرتقال ، التين ، الزيتون ، المشمش ، البرقوق و الرمان ، كانت في كل مكان براعم الورود المزهرة ، شجيرات كبيرة للياسمين ، القرنفل ، البنفسج و نباتات عطرة قوية الرائحة. هذه يلاقيها الإنسان هنا أيضا و بصورة رائعة في جناح الزهور، هناك الياسمين ، الآس، القرنفل ، الورد، النرجس، النعناع، العيسلان ، السوسن ، الزعتر و المرقدوش. وهناك تباع باقات زهور كاملة ، تسمى ? مشموم النوار?. بعد ذلك تتبعها حوانيت الخضر و الفواكه . تدار شؤون المدينة من طرف حاكمين، لأحدهما لقب ? باشا? وهو على رأس فاس القديمة ، بينما الأخر يسمى ? القايد? و يحكم فاسالجديدة. يظهر هنا جليا ، أن حكومة السلطان من ناحية تعتبرالمدينتين منفصلتين تماما ، و من ناحية أخرى ينظر إلى فاس الجديد على أنها مجرد قلعة ، و حيث تعتبر فاس القديمة على أنها الأهم ، لذلك أسندت إدارتها إلى باشا. في دار الباشا و القايد تصدر الأحكام يوميا في نفس الوقت. كل يوم يتواجد هناك ? قاضي? كل مدينة، و كل الحالات القضائية يتم الحسم فيها في نفس اللحظة. ثم من الممكن إستئناف الحكم إلى الباشا أو القايد و من هما معا إلى الوزير الكبير أو إلى السلطان نفسه . فليس من النادر، أن ينتقل الداعي من القاضي إلى الباشا و من هذا إلى السلطان . أما عقوبة الضرب بالعصى أو التعلاق بالكرابيش (الفلقة) تقريبا لا يتم الإحتجاج ضدها إطلاقا ، وإنما ضد الغرامة المالية. القاضي و الباشا لهم أملاك عقوبات بمبالغ غير محدودة ، غير أنه من النادر ما تفوق عقوبة التعلاق 300 ضربة ، لكن الغرامة المالية بالمقابل ، تتم فيها المبالغة قدر المستطاع . السرقات الكبيرة، يتم فيها قطع اليد اليسرى أولا، ثم عند العودة تليها اليمنى . فإذا لم تعد هناك أيادي لكي تقطع ، هكذا يأتي الدورعلى الأرجل . في حالة سرقة كبيرة أو في حالات جد هامة ، كثيرا ما تقطع أيضا حتى الرجلان في نفس الوقت. هكذا أثناء تواجدي في فاس ، قطعت لأحد سكان البوادي ، الذي سرق في فصل الصيف حصانا للسلطان ، اليد اليسرى والرجل اليمنى . البوابة المفضية من المدينة القديمة إلى فاسالجديدة تبين دائما العديد من رموز الإنتصارات هذه ، ايضا رؤوس المجرمين الذين تم اعدامهم هنا يكون مكان عرضهم ، إلا أنني وقتها لم أرى أثناء فترة إقامتي في فاس أي رأس معروض . الحكم يطلق بالمناسبة بطريقة جد تعسفية ، والإرتشاء فهو في جدول الأعمال اليومية . في بداية سنوات الستينيات كان في فاسالجديدة قايد ، أسود ، عبد سابق إسمه فرجي . شغل هذا المنصب لما يزيد على خمسين سنة، و يعتبر ظاهرة . لقد تولى المنصب في عهد السلطان سليمان ، إحتفظ به في عهد عبد الرحمان ، و زُكي كذلك من طرف السلطان الحالي سيدي محمد. في السنوات الأولى من حكم السلطان الحالي وشي بفرجي ، حيث أُلفت نظر السلطان إلى ممتلكاته الضخمة، فقد أشير إلى ، أن فرجي ، الذي كان مجرد عبد سابق فقط ، لم يتمكن من جمع هذه الثروة الهائلة حقا إلا عن طريق التهديد، الإرتشاء أو حتى عن طريق ، مد يده إلى ممتلكات السلطان نفسه. حين سمع هذا الأخير، أن لفرجي ممتلكات دخيلة عليه وأنه كعبد سابق لم يكن يملك شيئا، بعث لإحضاره و أمره ، أن يقوم يفرز الدخيلة على ممتلكاته ، بمعنى، التي هي للسلطان . لم يجب الداهية فرجي بشيئ ، بل توجه إلى إسطبل السلطان ، خلع ملابسه و ارتدى جلباب صوف قديمة و بدأ يكنس الأسطبل . بعد فترة زمن لاحقة سأل السلطان عن فرجي ، و تعجب حين ظهرهذا الأخير أمامه في أسمال فقيرة . ما هذا ؟ فأجاب: ? نعم مولاي، أمرتني أن أعزل ما أملك مما هولك ! حين إشتراني عمكم الأكبر مولاي سليمان ، لم أكن أملك غير جلباب العبيد هذه ، التي أحتفظت بها كذكرى لموطني الأصلي ، و حتى هذه أيضا فهي ، بالمعنى الدقيق حقا، ليست ملكي ، كيف يمكنني إذا أن أعزل ما هو ملكي و ما هو ملك لك ، ألست دائما عبدك ؟ أمر خدامك أن يأخذوا الكل ، فكل ما أديره هو ملك يمينك الشرعي.? يمكن للإنسان أن يتصور، كيف أن فرجي المدعى عليه عبر هذا الأسلوب لعب بيسرعلى وتر الإستغاثة بسماحة السلطان و في الواقع فقد عانقه سيدي محمد ، و أعيد فرجي من جديد إلى منصب القايد بكرامة ، و تركت له كل ممتلكاته. حين نقل السلطان مقره من فاس إلى مكناس ، قمت بزيارة فرجي عدة مرات ، كان دائما لطيفا ، مجاملا ، يقضي كل الصباح جالسا على زربية ، أمام دار المخزن ( فهذا هو التعبير الرسمي لقصرالسلطان، و هو يعني في نفس الوقت كل الحكومة) . كان فرجي شيخا أسودا ضخم الجثة بملامح ذكية ولحية بيضاء جميلة ، حتى وإن كانت زهيدة. فقد كان عمره ، حسب رأيه ، سنة 1863 تسعون سنة ، و هذا بلا ريب أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه ، حيث أنه كان قائدا في عهد السلطان سليمان، أي في الفترة ، التي زار فيها علي باي المغرب. ?سي? محمد بن الطالب، باشا فاس القديم ، الذي كنت ضيفه أثناء كل فترة إقامتي في فاس ، عرف بلا ريب قدرا مغايرا. كان رجلا ذو تفكير عادل و من غير أحكام مسبقة تماما، ما يعني الكثير في المغرب ، حتى أنني وجدت في يومياتي هذه الإشارة : ? بن الطالب كان حقا الأنسان الجدي و بلا ريب المنصف الوحيد ، الذي عرفته في المغرب .? ولد في ?عين ضيفة ?، مكان يوجد على بعد مسيرة يوم تقريبا جنوب شرق مراكش ، كان هناك حاكما شبه مستقل لقبيلة بربرية ، التي تشتمل حسب قوله الشخصي على سبعة فروع رئيسية . قوي وغني ( يبيع سنويا من اللوز حوالي 000،200 فرنك إلى الصويرة ) كان من المؤكد يفضل البقاء في منصبه كزعيم بربري ، حيث كان عموما سعيدا و منبسطا ، بدل أن يزوره أفراد عشيرته ، برابرة موطنه في فاس و يتحدث معهم الشلحة أو الأمازيغية . فقد حملت الوقائع ، كما يحدث كثيرا في المغرب ، عشيرته البربرية سنة 1846 على المواجهة مع حكومة السلطان ، غير أن بن الطالب نفسه لم يشارك في هذه المواجهة ، بل وقف و كل عائلته إلى جانب السلطان . المقاومة إنتهت كما هي العادة ، بهزيمة المتمردين ، لكن السلطان عبد الرحمان ، من أجل ربط هذه القبيلة القوية إلى قصره على الدوام ، عين شيخها بن الطالب باشا حاكما على فاس ، هذه الوظيفة ، التي تعتبر بعد ?الوزارة ? الوظيفة الأولى في كل المملكة. بمثل هذا التعيين المجامل ، الذي أُسند إلى رئيسها ، تم ضم القبيلة كلية إلى صف السلطان ، و ايضا بن الطالب ، الذي يبدو أنه أحق بهذه الوظيفة أكثر من أي أحد غيره ، و كذلك هو ، لم يقبلها أولا عن غير رضى . ثم كان بن الطالب يكرر في حياة مولاي عبد الرحمان ، التماس إستقالته ، لأنه عرف من خلال التجربة ، أن حاكم فاس القديمة ، أثرى مدينة في البلاد ، لا يموت أبدا موتة طبيعية . في الواقع للموظفين في المغرب وضعية مغايرة تماما عنها عندنا . إنهم لا يتقاضون مرتباتهم من الدولة أو من الحاكم ، حيث الدولة و السلطان هناك هم واحد . بل عليهم على العكس دفع الأموال للحكومة ، أو إلى خزينة السلطان . لأجل ذلك بإمكانهم طبعا إبتزاز رعاياهم قدر ما يشاءون . هكذا يعمل كل موظف إستنادا إلى ذلك ، على ملإ كيسه ، لكن غير ذلك تقديم حصص كبيرة للسلطان ، من هنا يمكن للإنسان أن يتصور ، كيف هي سيئة إدارة الشعب ، و كثيرا ما تكون المبالغة في الضرائب ، الإبتزاز المتعسف ، سببا للثورات الدائمة. فهذا النظام من ناحية هو ايضا سبب لسوء زراعة الارض ، بغض النظرعن ، أنه لا البرابرة و لا الساميون أنتجوا شيئا في حقل الزراعة ، فلا أحد يبدل جهدا، من أجل إصلاح الأرض لتصبح مثمرة قدر الإمكان ، لأنه يعلم ، أن المنتوجات ستستأثر بها الدولة. أيضا التجارة فهي مشلولة بسبب ذلك ، بالمقابل فالتاجرالغني من فاس يرى يومه ينقضي بخوف ، حيث الدولة تستولي على مدخراته ، لهذا لا يوجد ايضا أحد في أية مدينة ، و لا في أية منطقة ، ليست له ثروته السرية ، التي عادة هي مدفونة . في السنة التي دخلت فيها إلى فاس ، كان الباشا بن الطالب يحكم منذ ثلاثة عشرة سنة . و بما أنه لم يستطع الحصول على إستقالته من سيدي محمد ، فقد كان يؤاسي نفسه بتأملات ، في الخدمات الهامة التي أداها عند دخوله الحكومة ، و يتوقع الإعتراف له بذلك . مثلما هو عند كل تغيير ملكي ، كانت قد إندلعت أثناء موت مولاي عبد الرحمان أيضا قلاقل و نزاعات كبيرة حول الخلافة. كان قبل الكل الإبن الأكبر للسلطان سليمان ، إسمه عبد الرحمان بن سليمان ، الذي يأمل ، بدعم من الفرنسيين ، في إعادة إكتساب عرش أبيه ، لكن رغم إرساله إبنه لطلب المعونة من الجنرال الفرنسي مرتمبري ، الذي كان مشغولا لتوه بإخضاع بني زناسن ، لم يستطع الحصول عليها . إلى جانب ذلك كان قد تم تنحية الإبن الأول للسلطان المتوفى و أيضا الأخ الأكبر للحاكم الحالي عن حقل المنافسة ، و تم نفيه مثل المذكورالأول إلى تافلالت . فالسلطان الحاكم الحالي سيدي محمد يدين بسرعة توليه العرش بالدرجة الأولى إلى حدث ، أن سيدي الحاج عبد السلام كبير شرفاء وزان ، قد أعلن لصالحه ، أنه سبق و كان خليفة في فترة حياة أبيه ، و معناه. ممثلا للسلطان و قد جمع ثروة هائلة ، و أن بن الطالب حاكم فاس، قد إنظم فورا إلى شيعته . بيد أن مراوغة باشا فاس القديم لم تكن سهلة ، ذلك أنه إذا ما قام فرجي ، حاكم فاسالجديدة ، هو الأخر بمهاجمة لواء السلطان الحالي ، هكذا ستواجه بن الطالب و قواته القليلة كثير من الصعاب من أجل حماية فاس الجديد و قصر السلطان من الهجوم و النهب. لكن بن الطالب زيادة على عشرات من المخازنية (الخيالة) كان رهن إشارته ربما خمسون برابرة من عشيرته المسلحين بالبنادق الطويلة فقط والسلطان الحالي كان لا يزال بعيدا بقواته عن العاصمة . أحد أهم أحياء المدينة هو ? جامع? مولاي إدريس ، يسكنه بوجه خاص الشرفاء (سلالة محمد)، الذين ثاروا بعد موت عبد الرحمان فورا ، و دعوا إلى خلافة الإبن الأكبر للسلطان سليمان . غير أنهم لم يحسبوا حسابا لقبضة بن الطالب الحديدية. فقد أمر تقريبا بتمزيق كل الرجال البالغين في الحي ، تسوية دورالشرفاء الوجهاء مع الأرض وكل ما بقي على قيد الحياة ، إستولى عليه نفسه . فقط أولائك ، الذين يدركون ما معنى إهانة شريف في المغرب ، أي معاقبته أو حتى قتله ، يمكنهم تصور، أي غضب أثاره تصرف بن الطالب هذا، الذي لم يكن حتى عربيا ، ناهيك عن الحديث عن شريف، بل بربريا فقط . لكن الشيخ البربري لم يكن الرجل ، الذي يخاف التهديد ، فقد قام من ناحية بتوزيع 2000 ?مثقال? على كل حي من الأحياء الأخرى للمدينة، مبالغ محترمة لسبعة عشر حي . هكذا فقد نجح من خلال القسوة و الكرم في ان واحد على ، أن يحمل الفاسيين على الإعتراف عن قريب بالسلطان الحالي ، و حين أقبل إبن عم السلطان بقواته نحوالعاصمة، إستقبله سكان فاس و في مقدمتهم فرجي و بن الطالب ، بعداء ، فما كان عليه إلا الفرار، وحين وصل سيدي محمد، فتحت أمامه الأبواب ، و بذلك أصبح للمغرب سلطانا. كضيف على الباشا سكنت رفقة مترجمي ، الذي كان ضابطا في الجيش النظامي للسلطان ، غرفة تنتمي إلى مسجد الباشا الخاص ، الذي يوجد مباشرة قرب مسكن إدارته . مع تصاعد الحرارة أصبحت الإقامة في هذه الغرفة لاحقا لا تطاق ، وحين سألني الباشا ذات يوم ، إن كنت راضيا عن معاملتي ، لفتت إنتباهه إلى الحرارة غير المحتملة. نادى على أحد خدامه و سأله ، أي البيوت القريبة من سكناه يمكن الحصول عليه حالا ، فوصف له هذا إقامة صيفية رائعة ، التي حتى وإن كانت توجد في المدينة ، فهي تملك حديقة جميلة ، يجتازها واد فاس و متصلة بدار الباشا ، ? لكن?، أضاف ، ? الشريف ، الذي يملكها ، قد سبق و أعد إقامته الصيفية فيها ?. ? إذهب إليه فورا و قل له ، إنني في حاجة إلى داره ? ، كان جواب الباشا هذا جد مقتضب. ? وأنت مصطفى? (كان هذا هو الإسم الذي إنتحلته في المغرب ) ، أضاف قائلا ، ? يمكنك اليوم أيضا الإنتقال إلى هناك ، و ستكون من المؤكد راضيا . ? غير أن الشريف لم يكن فيما يبدوعلى عجل كبير من أمره، ربما إعتقد هوالأخر، لأنه شريف (من سلالة محمد) ، يمكنه كذلك تحدي الأمر . بإختصار، حين زرت بن الطالب في الأيام التالية و استفسرهو عن سكني الجديد كان علي الإعتراف ، بأنني ، لازلت أسكن في حجرتي بالمسجد ، ذلك لأن المالك لا زال دائما يتواجد في منزله. غير ان الباشا بالكاد تركني أُتم حديثي ، حتى نودي على أحد الأعوان ، الذي تلقى الأمر ، بإلقاء الشريف مع كل ممتلكاته المتحركة إلى الشارع . هكذا حدث ، و في نفس اليوم أمكنني الإنتقال إلى السكن الجديد . لم يكن من المجدي، لو أنني أردت الإحتجاج بمشاعر رقيقة ضد هذا الأمر، جلاء صاحب الملك من ممتلكاته ، فلا أحد كان سيفهم مثل هذا السلوك ، حيث أن تصرف العصمة من الخطإ ، معناه ، سلوك التعسف ، المنتقل من السلطان إلى موظفيه. إذا اسلط الضوء كالأتي بإختصارعلى المحاكمات في المغرب و فاس بالأساس حيث سأكتب هنا حرفيا السطور التالية من دفتر ملاحظاتي أنذاك . ? الدار الجديدة، التي إنتقلت إليها ، تحتوي على طابق واحد و مصممة على غير طراز منازل فاس ، و إنما هي مبنية حسب قاعدة هندسية أخرى . وسط الحديقة ، يجري تحت الدار أفقيا واد فاس الصغير، الذي يجتاز هنا الحديقة و ينساب في عمق أربعة أو ستة مجاري مسيجة بالأسوار، إلى أن يصل إلى إحدى الشرفات المقابلة للمنزل ، و من تحت هذه يعبر إلى حديقة أخرى . للدار نفسها شرفة واسعة في الأسفل ، قاعة ، غرفة و نوع حجرة جانبية (نوع من القبة) شيدت في الخلف . في الأعلى هناك ثلاث غرف، التي تركناها شاغرة ، كذلك لم يستغل السطح المستوي إلا نادرا . الضابط الذي عين لي كمترجم ، كان ينام معي في الغرفة الجانبية ، و عند الباب الوحيدة ، التي تفضي إلى القاعة ، ينام ثلاثة من الخدم ، إثنان في الشرفة و إثنان أخران في الشرفة المقابلة ، حيث كنا على سبيل المثال نستمتع بوسائل الراحة و أيضا نوقف خيولنا. مع ذلك و رغم كل هذه الحراسة، لم نفكر إطلاقا في السرقة ، خاصة في فاس ليلا ، لأن كل حي ، يتم اغلاقه على حدة و المواصلات الشاملة منقطعة تماما . في ساعة متأخرة من ليلة من الليالي ، كنت و ?القايد? أو الضابط ، ممددين فوق زربيتنا ، نشرب الشاي، بين أشجار البرتقال العطرة ، تحت ضوء القمر الفضي جانب النهر الصغير المنهمر و قد نسينا الوقت ، حيث بدأ ?الموذن يهلل ? ينادي (في الصيف يعلن عن الإنذار الأول للصلاة من الصومعة في الساعة الواحدة صباحا)، حين ذهبنا إلى النوم . لم يكن قد مضى على نومنا أكثر من نصف ساعة ، حين صاح أحد الخدم ?السراقين ، السراقين?، (اللصوص، اللصوص) . إنطلقنا جميعا مسلحين بالبنادق إلى الخارج ، غير أننا لم نعثرعلى أي شيئ . لكن كيف يمكن لسارق الدخول إلى هنا والإنسحاب بكل هذه السرعة و الأسوار ترتفع من الجهات الثلاثة للحديقة بعلو عشرين قدم و في الجهة الرابعة يمتد جدار فاصل عمودي بعلو ثلاثين قدما إلى الحديقة الأخرى ، من غيرالجائز أن يكون قد قفز منه إلى هنا. إلا أننا بعد عودتنا إلى البيت وجدنا فعلا، أن لصا كان هنا ، كانت تنقص قطع من ملابسي ، التي كنت قد خلعتها ، سراويل ، البلغات ، ثم عمامة الضابط ، و قالب سكر شُرع في كسره أقصاه في اليوم السابق ، أخيرا كل طاقمنا لتحضيرالشاي ، الذي هو ملك للباشا. فقد أعطى بحث دقيق ، أن السارق نبش تحت باب الحديقة ، و من المحتمل أنه فتح عدة منافذ. وفقا لشكايتنا في اليوم التالي ، تم بأمر من بن الطالب القبض على عدد من أبناء سكان المحيط ، وعلى السكان جماعيا تعويض الأشياء المفقودة ، غير ذلك على كل واحد منهم أداء عشرين ? ريال? (هكذا يطلق على قطعة خمسة فرنكات فرنسية) كفالة ، حتى يتم التحقق من اللص من بينهم . بأداءهم العشرين ريال قد إستعادوا فعلا حريتهم ثانية ، لكنني لا أكاد أعتقد ، أنه قد أعيد لهم ذات يوم مالهم من جديد ، حتى و لو توفقوا إلى الكشف عن السارق . بهذا أشير هنا إلى ، أنني شهدت بعد سنوات لاحقة في لبدة ، قضية مماثلة عولجت تماما بنفس الطريقة من طرف الموظفين الأتراك ، حين سُرق لأحد خدمي ليلا مسدس من الخيمة . باستثناء الحاكميين الإثنين للمدينة هناك ايضا مدبر لكل حي على إنفراد، مدبر المساجد ، جامع الأموال، أمناء الأسواق، قائد سوق القيسارية، و قائد السوق الكبير، الذي يعقد مرة كل أسبوع خارج المدينة. فأمناء و قياد الأسواق لهم بالدرجة الأولى مهمة تسوية الخلافات والحفاظ على النظام .عند كل بوابة للمدينة يوجد ? قايد الباب?، الذي يقوم بمهمة فتح و إغلاق الباب ، أيضا تحصيل الرسوم الجمركية ، ثم هناك إدارة الجمارك الرئيسية في المدينة ، ختاما نذكر أيضا كأدارة أمناء الحرف ، حيث ترتبط كل حرفة بأمين ، الذي هو معلم و يحمل لقب «الكبير».