كنت كثير الإنشغال بنفسي ، حيث عزمت على التوغل داخل المغرب حتى يمكنني الإستفادة من خبرتي الطبية في خدمة الدولة هناك. كان أكثر الحديث أثناء ذلك الوقت ، في إسبانيا أو في الجزائر يدور حول إعادة تنظيم الجيش المغربي ، بمعنى، أعرب السلطان بعد معاهدة الهدنة مع إسبانيا، عن القيام بإجراءات إصلاحية. و لهذا قامت الصحف بنشر نداء ، الى كل أوروبي يمكن الإستفادة من علمه و كفاءته هناك ، بالتوجه إلى المغرب. لقد استأثر كل هذا باهتمامي ، فبدأت بوضع أفضل الخطط للمضي في غايتي . ونتيجة لتأقلمي عبر سنوات طويلة من الإقامة في الجزائر ، كنت أعتقد ، انه يجب علي أولا، حتى يمكنني التقدم بسرعة داخل المغرب ، الاحتكاك بسلوكات الأهالي والتعرف على عادات و أسلوب حياة هذا الشعب ، أكثر من محاولتي الإقتراب من السكان العرب في الجزائر. في الساعة الخامسة من مساء اليوم الثالث من شهر ماي سنة 1861 كنت قد وصلت و مرافقي قادمين من المدينة المقدسة وزان ، دار الضمانة قبالة فاس ، عاصمة البلاد. لقد بهرني تقريبا ذلك المنظر الممتد لكثافة الدور، حيث تسمق من بينها «الصوامع» هنا وهناك. انطلقنا بسرعة عبر الشارع الطويل ، حيث رُشدت بشكل ما إلى «المحلة «، معناه مخيم الجند ، إلى أحد القواد السامين للجيش ، الحاج عزوز، فقد كنت أحمل رسالة توصية من الشريف الكبير لوزان ، الحاج عبد السلام ، لهذا لم أستقبل جيدا فحسب ، بل كان علي أن أحل ضيفا على الحاج عزوز و أقاسمه خيمته ، ثم انه وعدني بالتعيين في اليوم التالي . في يوم لا حق, أقيم استعراض كبير أمام السلطان . كل الجيش النظامي ، حوالي 4000 رجل ، كان عليهم أن يمروا في نظام جيد نسبيا ، أمام السلطان الجالس تحت مظلته. ما أن يصل فيلق قرب السلطان مباشرة ، حتى يهتف كل الجنود : « الله يبارك في عمر سيدنا «. القواد انفسهم يعرضون سيوفهم ، ينحنون ويقبلون الأرض . ما أن وصل فيلق الحاج عزوز، حتى تابع السير في موكب و هتف ، ثم بعد أن أدى الحاج عزوز تحيته ، ُدعي إلى مقربة من السلطان الجالس هناك من غير حراك . كان سبب هذا الاستدعاء هو انظمامي إلى فيلقه ، و المشاركة في استعراض الجنود والضباط . طبعا لابد أن يكون ظهوري قد أثار الإنتباه ، حيث كنت أرتدي معطفا طويلا نسبيا ، الذي يصل إلى الركب ، و الذي بالكاد يظهر السروال من تحته ، بلغة صفراء متآكلة فعلا و طربوشا أحمر ، كان ذلك هو بقية لباسي . عاد الحاج عزوز مغمورا بالفرحة. في واقع الأمر فقد استفسر السلطان عن شخصي . فقال له الحاج عزوز، إنني اعتنقت الإسلام ، أحمل رسالة توصية من الشريف الكبير و أرغب في الدخول إلى الجيش كطبيب : «خيار» (فيه الخير، معناه، حسن) ، كان ذلك جواب السلطان ، و الحاج عزوز كان كل اليوم أكثر فرحا بحظوة ، حديث السلطان اليه. ثم بعد الإستعراض قدمت إلى وزير الحرب ، أسود ، يسمى سي عبد الله ، الذي تلقى الخبر الهام و هو جالس تحت خيمة أشبه بمظلة. كان راضيا كل الرضى عن إجاباتي وقال ، إنه يترقب تعييني في الأيام القادمة. ثم في الأيام اللاحقة تم إخباري، بأنني عينت الطبيب العام لكل جيش جلالته. كأول مهمة كلفت بها ، تم إعلامي بفحص ومعالجة ، كل الجنود ، الذين سجلوا أنفسهم مرضى . الأدوية يحصلون عليها مني ، لكن عليهم الأداء مقابل ذلك ، حيث لم تضع الحكومة شيئا من الأدوية رهن إشارتي . كان راتبي قد حدد بوزنين ونصف ، أي ما يقارب 3 إلى 4 قروش المانية في اليوم . فهذا يسمع بالتالي قليلا، فعلى هذا النحو هي الأجور في المغرب ، بحيث ، أن الإنسان يمكنه العيش جيدا بهذا القدر ، خاصة أنه يتبقى لي متسع من الحرية ، لإدارة عيادة خاصة ، أين و بقدر ما أشاء . فوق هذا لا يهتم كثيرا بأمري . احتفظت مؤقتا بإقامتي عند الحاج عزوز، لكن حتى حين كنت أغيب اليوم كله عن «المحلة «، فلا أحد يسأل عن ذلك . كان من المفروض أن يوضع رهن إشارتي فرس ، بغل وخادم ، غير أنني لم أحصل على هؤلاء أبدا. مأونتي كنت أدبرها بنفسي ، فكان ذلك هو أقل ما يشغلني فعلا ، اليوم أنا ضيف عند هذا ، غدا عند ذاك إذا لم تكن وقتها مجاعة في المغرب ، على الإنسان الأعزب أن لا يحمل هم معيشته أبدا. بعد أيام أرسل في طلبي بن الطالب ، الباشا ، حاكم فاس . فقد سمع بخبر وصول طبيب أوروبي ، طلب مني معالجته, حيث كان يعاني نفسه من مرض ضيق تنفس مزمن ، لكن في نفس الوقت الاقامة عنده أيضا. قبلت هذا العرض بسرور كما لم يكن للحاج عزوز مانع ، أن أسكن عند الباشا ، فهذا ، أحد الأغنياء و الموظفين ذوي النفوذ الكبير في كل المملكة ، له الحق التام في أن تؤخذ رغبته بالإعتبار. في تلك الفترة وصل ايضا يؤخيم غاتل إلى فاس . إتخذ له إسم إسماعيل ، إستقبل من طرف سي محمد الخوجة ، قائد آخر للقوات النظامية و حصل من فوره على فيلق مستقل للمدفعية. لاحقا كان علينا التعرف على بعضنا بشكل أدق ، خلافا لما هو عليه الوضع الآن ، حيث أصدر السلطان بعد انقضاء حوالي أربعة أسابيع أمره بالتحرك. كانت فترة تغير الإقامة قد حلت و السلطان قرر، نقل موقع بلاطه وكذا «المحلة « إلى مكناس. إذن فمن الطبيعي أنه لم يعد مسموحا لي بالبقاء في فاس ، حيث كان على كل الوحدات الإنتقال مع السلطان ، باستثناء تلك التي كانت تساعد الحاكمين. ( الباشا في فاس البالي و الخليفة في فاس الجديد). سيكون من الصعوبة بمكان ، رسم صورة تامة لهذا المسير الخاص . الكل كان يسير في فوضى ملونة . كان هناك الجنود المسمون بالنظاميين ، رفقة نسائهم (تقريبا كل جندي متزوج) ، أطفالهم وعبيدهم . الباعة ينحشرون فيما بينهم ، هنا يعرض أحدهم الخبز للبيع ، هناك آخر البصل ، هناك واحد له لوح صغير برفوف مختلفة و عليها علب ، دكان توابل صغير متنقل ، فيه القرفة ، الإبزار، القرنفل و أمثالها . هنا يعرض أحدهم اللحم للمساومة ، هناك آخر يعرص السمك . و هنا جاء السلطان نفسه متبخترا في موكب براق عظيم ، يحيط به الوزراء ، كبار موظفي البلاد و يتبعه طابور طويل و طويل جدا من الجمال و البغال المحملة. ثم «الحريم «، أكثر من مئة إمرأة و فتاة ، ملثمات بإحكام ، يركبن البغال. فهؤلاء وحدهن يكونن مجموعة مغلقة ، حيث يحف بهذه النساء المحضيات عند الحاكم الخصيان فوق الخيول السريعة . كان هذا, نوعا ما ,حريم السلطان المتنقل, أجمل و أصغر و أسمن نساء مخدع الحريم الأربع من فاس ، مكناس ، الرباط و مراكش . الغالبية أطفال في سن الثانية إلى الخامسة عشرة . أخيرا جاء فيلق المخازنية الكبير، الذي هو غير نظامي إلا أنهم فرسان مؤجورون ، قد يكونون فعلا زهاء عشرة آلاف فارس. يعتقد الإنسان أن هذه الحشود البشرية و الحيوانية هي في مسير دون نظام أو وحدة تسيير، أحدهم يسرع ، الآخر يبطئ ، هذا هنا في خطو عسكري ، الآخر هناك ، هذا يخب هنا ، ذلك يواصل طريقه في تثاقل ، كل يمشي حسب ما يناسبه. حين وصلنا إلى مكناس ، و كنت ضمن الأوائل . كانت كل الطريق بين فاس و مكناس لا زالت تعج بالبشر و الحيوانات ، ثم حين بلغ الأوائل هذه المدينة ، لم يكن الكل قد انطلق بعد من فاس . استغرق ذلك يومان ، حتى يصل مجموع الجيش ، الذي ربما وصل تعداده حوالي أربعين ألف إنسان ، و الطريق بين المدينتين مستوية إلى حد ما و جميلة ، بحيث أن الإنسان قد يتقدم دون عقبات في صحبة كثير من القوات . أريد القول ، يمكنه تقريبا التقدم من مدينة إلى أخرى في سير استعراضي . خيم الجيش في ظاهرالمدينة ، اما السلطان نفسه فقد دخل إلى قصره. فيما يتعلق بي أنا ، فقد كان علي ، أن أكون هناك حيث يكون الجيش ، من ناحية كان لي من الحرية بما فيه الكفاية ، أن أسكن حيث أشاء ، لذلك أجرت للإقامة غرفة في أحد فنادق المدينة ، غير أنني أجرت من ناحية أخرى مع فرنسي إسمه عبد الله، « حانوتا «، دكانا، في الشارع المفضل . كنت أمارس فيه المهنة أو بالأحرى أقمت فيه عيادة، متعددة الإختصاصات . أدويتي تتكون مثل أدوية الأطباء المغاربة من موقد فحم كبير، بقضبان حديدية لأجل إحمائها حتى البياض، قدور كبيرة من البراهيم ، زيت الكافور، مسحوق القيئ مواد الإسهال و مساحيق مختلفة من دقيق ملون غير ضار لأمراض الوهم والإضطراب العصبي. و ما لم يسبق أن شوهد مطلقا و لا في أي مكان في المغرب ، هو تلك اللافتة الكبيرة ، التي كانت عندي معلقة ، حيث كتب عليها إسماعيل (يؤخم غاتل) بحروف كبيرة و جميلة : « مصطفى النمساوي طبيب وجراح « ، (المغاربة لا يعرفون المانيا الا باسم النمسا) . لا يكاد يصدق ، أي إهتمام أثاره وجود هذه اللافتة ، في بلد، حيث الإعلانات ، اليافطات ، اللافتات المعلقة ليست بعد ولو حتى في مرحلتها الطفولية، بل حيث أنها لم تولد بعد . من الصباح الباكر حتى المساء المتأخر، و الشباب ، الشيوخ ، المحترمون والفضوليون ، رجال و نساء يقفون أمام الدكان و يتهجون الحروف العربية الطويلة (القراءة لا يعرفها أحد في المغرب ، لكن التهجي يعرفه كل سكان المدن) ، التي ملأت القوسين الورقيين الكبيرين. فكان بذلك النجاح الباهر. لقد أشرت سابقا ، إلى أنني اشتركت وفرنسي اسمه عبد الله في الدكان ، لأنني لم أكن من البداية قادرا على أداء الإيجار وحدي. هذا الفرنسي ، ضابط خيالة سابق ، كان قد هرب منذ حوالي عشرين سنة ، بخزينة فيلقه إلى المغرب و قد وجد إيواء جيدا لدى السلطان السابق مولاي عبد الرحمان ، لكن ماله (كما ذكر لي هو نفسه ، عشرون ألف فرنك) قد بدده ، في سنوات قليلة ، في مجون و بذخ مع الفتيات العاهرات . لاحقا انظم إلى البلاط ، تزوج بطبيعة الحال و هو الآن يعيش من مهارته الميكانيكية . هكذا زعم ، أنه هو قائد فرقة النفخ في المغرب ، و أن عمله السابق كان يقوم على صنع آلات نفخ جديدة و إصلاح القديمة . كان من وقت لآخر يهتم بالذهاب إلى إحدى الموانئ ، حيث يجلب احتياجات جديدة. دون معرفة محددة ، كان يعتز رغم ذلك ، بأنه ضابط فرنسي سابق . إن كان إنسانا سليم النوايا ، فهذا ما لا يمكن دائما قوله على بقية المرتدين . بالمناسبة ، نظرا لطول إقامته في المغرب فقد تمغرب تماما ، وكان يترك بطريقة رياء حبات السبحة تنزلق بين أصابعه هو الآخر، مثلما يمكن أن يفعله أفضل «طالب» أو «فقيه». لكن دكاننا كان يبدو غيرعادي بما فيه الكفاية ، في جهة منه كان يعمل الفرنسي آلات النفخ ، و في الجهة الأخرى كنت أدجل أنا ، حيث هكذا يجب علي القول ، إذا كنت أريد أن أكون صادقا ، في تسمية عيادتي الطبية في المغرب. اللافتة المعلقة ثم مجيء طبيب أوروبي ، أثارا عموما أثناء ذلك كثيرا من اللغط ، وصداهما بلغا حتى مسامع الوزيرالأول سي الطيب بوعشرين . ذات مساء جاء بعض خدمه، أمسكوا يدي، و بالكاد كان لدي الوقت، أن أطلب فيه من الفرنسي عبد الله ، مصاحبتي كمترجم ، ثم إنطلقنا. ألفينا سي الطيب وقتها أثناء تناول العشاء مع عدد آخر من موظفي البلاط ، الذان كانوا ضيوفه. في الزاوية الخارجية للغرفة عزف ثلاثة موسيقيين على «الغيطة «، «الكويترا» و «الرباب «. سي الطيب دعانا سويا إلى الإقتراب من «الميدة « مائدة صغيرة واطية، لكن عبد الله شكره عن نفسه و نيابة عني ، و تراجعنا إلى الغرفة المجاورة ، بينما كان الوجهاء ينتقلون من صحن الى آخر. و بعد ذلك مباشرة حمل إلينا العبيد الصحون المأكول منها ، التي طبعا لا زالت تشتمل على أطعمة معدة بمهارة فعلا و وافرة ، لكن لمسها بالنسبة لي كان مقيتا ، لأن كل وجيه في المغرب ، مهما علت مكانتها، يعبث فيها بيدين بالكاد هما مغسولتان . لكن مراعاة للأدب كان علي تناول بعض اللقمات من كل صحن ، و لا أنسى أثناء ذلك ، مدح كرم سي الطيب وجودة الطعام . ثم قال لي عبد الله أيضا ، سيكون من عدم اللياقة جدا، لوأننا قبلنا دعوة سي طيب لتناول العشاء معه ، لكنه سوف يكون الآن جد مسرور بتواضعنا وأدبنا. الحجرة ، حيث كان يوجد سي الطيب بها ، تسمى «المنزه «، معناه ، غرفة في الطابق الأول ، طويلة ، ككل الغرف المغربية ، مؤثثة بأناقة ، أي ، بزربية « بني زناسن» ناعمة ممتدة عبر الغرفة ، وعلى الزخارف الجبسية المرتفعة للباب المقابل كانت هناك أيضا زرابي أخرى . ثم بعد ذلك وضعت فرش و وسائد صوفية. عدد من المصابيح النحاسية ، العتيقة التشكيل ، تتدلى من سقف الحجرة و كذلك في الزوايا بعض الشمعدانات الفضية تنير بشموع حمضية الدهن . كان سقف الغرفة يحمل رسومات ملونة ، وعلى الجدران نفس النقوش من الجبس على الطراز العربي . حين انتهينا نحن ايضا من الأكل ، دُعينا إلى الغرفة وأُذن لنا بالمشاركة في شرب الشاي ، الذي يدار فقط في فناجين صغيرة من الخزف الصيني الناعم . بعد ذلك كشف لي سي الطيب عن رجليه و سألني ، أي مرض ذلك. كان عبد الله الفرنسي ، قد سبق و أخبرني قبل هذا ، بأن الوزير يعاني من مرض نقرس إبهام القدم ، كان جهدي سيكون جد هين ، لو أنني كشفت له عن أعراض مرضه. مع ذلك قمت قبل ذلك بفحص رجليه بعناية، سألته عن بعض الأعراض الأخرى ، لأجل منح الأشياء منظورا أكبر، و أخيرا حين قلت له ، أن به «مرض الوزراء»، ( هكذا يسمى نقرش إبهام القدم في المغرب) ، كان جد فرح ، حيث ، أنني تعرفت حسب رأيه على مرضه من مجرد علامات ظاهرية . ثم سألني ، إن كنت من أنصار الوسائل الحارة أو الباردة (حسب رأي المغاربة فإن للأدوية صفات إما حارة أو باردة ) ، وحين عبرت له عن ميولي للأولى ، كنت قد صادفت بذلك ذوقه أيضا. صرفنا سي الطيب بلطافة وأضاف عند الوداع ، علي الإنتقال في يوم لاحق للإقامة في إحدى مساكنه، حتى يمكنني أن أعالجه من مرضه. لكن كان لابد للأمر أن يأتي مغايرا، مباشرة في اليوم التالي جاء باكرا من دارالسلطان (قصر السلطان)» المخازنية « بتعليمات ، الذهاب إلى هناك على الفور. بالكاد ترك لي الوقت ، حتى ألبس البلغة و أرتدي البرنس . بمجرد الوصول إلى هناك ، شرح لي أحد موظفي السلطان ، أن بن الطالب باشا فاس القديم ، كتب إلى السلطان ، يطلب منه بأن يأذن لي بالعودة لمعالجته. وافق السلطان على هذا الطلب و بذلك كان علي أن أرحل للتو . الإحتجاج ، بأنه لا بد لي من العودة إلى البيت ، من أجل الإتيان بحاجياتي ، قصد حمل الأدوية معي وايضا من أجل توديع المعارف ، كل هذا لم يفدني شيئا. كان الجواب دائما هو: «السلطان قال، يجب أن تسافر حالا ، إذن يجب عليك أن ترحل فورا. « وقف بغل مسرج جاهز وكان مرافقي مخزني على فرس ، و هكذا كان علي الذهاب ، مثل طرد دون إرادة ذاتية . و حيث أن السلطان أمر، بالوصول إلى فاس في نفس المساء ، أسرعنا الركوب بجد و قبل غروب الشمس وصلنا العاصمة و بعد ذلك مباشرة كنت ثانية عند حاكم المدينة القديمة. أثناء ذلك كنت قد قمت بتغيير جيد ، فقد عمل بن الطالب على ، إحضار مترجم ، طالب من مواليد الجزائر، إسمه سي عبد الله ، الذي كان فهمه للفرنسية متوسط . منحت سكنا جيدا ، حصانا و بغلا و خادما رهن إشارتي . الطعام و الشاي الذي هو من لواحقه يُأتي به من عند الباشا. من جهتي لم أكن بالمقابل ملزما بالقيام بأية مهمة أكثر من الحديث مع الباشا لمدة ساعة أو ساعتين يوميا. لست هنا في حاجة إلى ذكر، أنني خلال هذه الإقامة لمدة شهور في فاس ، قد أتيحت لي فرصة كافية للتعرف على المدينة . العاصمة فاس عاصمة سلطان المغرب لم تتم زيارتها إلا من طرف عدد قليل فقط من الأوروبيين ، كذلك المعلومات ، التي قدمها عنها شهود عيان هي شحيحة. أكثر إسهابا و تقريبا باستفاضة كان هوعرض ليون عن فاس، تلاه وصف اعتمد على مشاهدة ذاتية للجنرال الإسباني باديا (علي باي-العباسي). أما التقارير الأخرى حول فاس فكلها ترتكز على استنتاجات وسماع أخبار فقط. إن كان قد سكن المكان، حيث توجد فاس الآن، الرومان، فمن الصعب الجزم بذلك و هذا نظرا لقلة البحوث ، لكن هذا محتمل جدا. فالموقع متميز جدا و جذاب في كل الأحوال بالنسبة للمدينة حيث، أن لها مركزا غاية في الملاءمة و هو ما لم يفت بكل تأكيد الأقدمين . زد على هذا هناك بالقرب نقطة ، التي نعرف على أنها عمرت بكل تأكيد من طرف الرومان . فقد تعرفنا على مدينة فوليبيلس في زرهون الحالية ، مدينة ، كانت في زمن ليون تسمى غاليلي أو وليلي، و عنها يقول ، إنها لا تشتمل باستثناء قبر إدريس الأول إلا على ثلاثة أو أربعة منازل فقط . اليوم وليلي أو زرهون كما تسمى حاليا ، هي مدينة صغيرة بحوالي أربعة إلى خمسة ألاف نسمة ، و قبر « مولاي إدريس الكبير» ، كما يطلق على مؤسس مدينة فاس، لا زال دائما مزارا شهيرا . ثم إن لنا في مياه دتشيتشي نقطة توقف أكيدة قرب فاس ، إذا أمكننا بالضبط الإعتماد على إتينيراريوم أنتونيني هكذا سوف لن نتردد في ، أن نلقب فاس بمدينة فوليبيلس القديمة ، ذلك أن مسافة، ستة عشر ميلا ، تتفق تماما مع منابع الكبريت الشهيرة « عين» سيدي يوسف ، التي توجد شمالا إلى الغرب من فاس ( مولاي يعقوب م) . فمياه دتشيدتشي حسب إنتنيراريوم من المفروض أن توجد على بعد ستة عشرميلا شمال فوليبليس. فمياه ديتشيدتي القديمة هذه والمسماة الآن بعين سيدي يوسف ، لا تزال اليوم كذلك هي أشهر الحمامات الساخنة في المغرب. مدينة فاس الحالية أسسها, حسب ليون, إدريس سنة 185 هجرية، كان هذا أحد أقارب هارون الرشيد و أكثر قرابة من محمد نفسه ، لأن إدريس كان حفيد علي ، صهر محمد . إدريس الأب نفسه هو إدريس إبن عبد الله ، الذي كان قد قدم من اليمن و استقر في وليلي ، إبن هذا ولد له من أمة غوطية وذلك بعد وفاة الأب أولا. يورد رونو، أن إدريس أسس المدينة سنة 793 ميلادية ، الذي يوافق سنة 177 من التاريخ الإسلامي . مارمول يجعل بناء فاس سنة 793 ميلادية . غير أن هذه السنة تتوافق خطأ مع سنة 185 للهجرة. بينما وضع آخرون لتأسيس فاس سنة 808 ميلادية، أما دابر فيحيل تاريخ التأسيس إلى سنة 801 ميلادية. هناك تقديم و تأخير في تاريخ التأسيس، بحيث، أننا لا نستطيع تحديد السنة يقينا، بل علينا القبول ، بمعرفة، أن المدينة أسست حوالي نهاية القرن الثامن أو بداية التاسع الميلادي . أيضا معلومات غير محددة ، من أين ينحدر إسم المدينة. ليون يرجع الإسم إلى أنه عند القيام بالحفريات الأولى عثر المشيدون على الذهب و الفضة ،آخرون يذهبون إلى ، أن إسم المدينة اشتق من نهر صغير يشطر المدينة، يحمل نفس الإسم ، كذلك آخرون يرجعون إسم المدينة إلى الفأس ، ما يعني بالعربية «المعول.» فيما يتعلق بطريقة كتابة إسم المدينة، هكذا نجد أيضا قليلا من الإتفاق ، فبعضهم يكتب فاس ، أخرون فس ، غيرهم فيس ، و مع هذا تبقى فاس هي الصحيحة الوحيدة ، إذا ما نحن إعتمدنا على قواعد طريقة الكتابة و النطق العربي. ..... في فاسالجديدة هناك عادة «المحلة»، معناها معسكر الجنود. فهذا عليه أن يوجد دائما، حيث يقيم السلطان، و بما أن في فاس الجديد لا يوجد مكان كاف للقوات ، التي يحتفظ بها السلطان دائما من حوله، هكذا فإنهم يعسكرون هنا تحت الخيام . من الرؤية البعيدة ، يبدو هذا المخيم ، وسط العشب الاخضر، غني بالألوان، يخترقه واد فاس ، لكن في داخله تسود أفدح القدارة والفوضى . فقوات السلطة المتواجدة سنة 1862 كان قوامها حوالي 4000 من المشاة، يرتدون بدلات ملونة. السلطان الحالي، سيدي محمد بن عبد الرحمان، هو نفسه ، الذي لقن في فترة حياة أبيه، درس هزيمة مؤلمة على يد المرشال بوكوت في إسلي ، كما أنه لم يكن أوفر حظا في ساحة القتال ضد الإسبان . أثناء ذلك تنور فهمه كثيرا ، حيث أدرك ، أنه لا يستطيع بقواته غيرالمنظمة القتال أمام القوات الاوروبية. الآن يظن، أن بإمكانه التوفرعلى جيش نظامي ، حين جعل جنوده يرتدون بدلات عسكرية على الطريقة الأوروبية ، وهكذا يرى الإنسان هنا بزات عسكرية من مختلف القوميات ، لا يوحدها جميعا غير الطربوش التركي الأحمر و البلغة الصفراء. ايضا شُرع في لبس السراويل القصيرة ، الممتدة حتى الركب ، إدراج لبس السراويل الطويلة ، يبدو ، أنه من الممكن عند العرب و البربر. فهؤلاء المشاة مقسمون إلى أربعة فرق أو وحدات ، كل واحدة منها يقودها «أغا»، الوحدات مقسمات ثانية إلى أربعة فرق، يرأسها «قايد» (ضابط)، و كذلك الفرق الأقل حجما يقودها?» خليفة القايد» (نائب الضابط) و»المقدم» ( العريف). الفرق نفسها مشكلة من العرب ، البربر، السود والمرتدين الإسبان ، هؤلاء الأخيرون، الذين فروا من سجون سبتة ، صخرة الحسيمة أو مليلية. هؤلاء المرتدون هم قبل كل شيء موظفون كعازفين للآلات النفخية ، الطبول أو في الجوقة. حيث إن الحكومة الإنجليزية قامت بإهداء الآلات الموسيقية، هكذا أمر السلطان بتشكيل جوقة، لكن التي يقف لها الشعر أكثر هي الفرق التركية و هي تؤدي الفالتسا الألمانية أو القطع الإيطالية على أحسن وجهها. لكل فرقة أربعة وعشرون عضوا، في حين لا يوجد في كل فيلق غير إثنين من النافخين والطبالين. الطبول تشبه طبول الفرق العسكرية الألمانية ، المزامير، هي الإنجليزية نفسها. السلاح تكونه بنادق قفل حجري فرنسية عتيقة، ترجع كلها تقريبا إلى سنة 1813. فقد أمرالسلطان باستيرادها بمبلغ 40 فرنك للقطعة الواحدة (كان بإمكانه مقابل ذلك الحصول على مسمار الإشعال)، غير أن التجار الوسطاء جنوا منفعتهم من ذلك. الأوامر تعطى باللغة التركية ، ماله سلبيات بالنسبة للجنود, حيث أنهم انفسهم تعلموا فهمها ميكانيكيا فقط . لكل فيلق علم ، كل فرقة ( أُسمي هكذا المجموعة التي يقودها «أغا») لها واحد أكبر، ألوان الأعلام حمراء، صفراء، زرقاء، حسب ميول القائد إلى هذا اللون أو ذاك. الجندي العام يتقاضى أُجرة ستة «موزونات»، و من ذلك عليه الحصول على كل ما يحتاجه ، و هو بالنسبة للأحوال المعيشية الرخيصة في المغرب ممكن ، لا سيما الملابس فهم يحصلون عليها من السلطان . الرتب العالية بالمناسبة لا يدفع لها جيدا ، هكذا يتقاضى «الأغا»، قائد الفيلق، مثقالا يوميا فقط ( ما يعادل 40 موزونة أو فرنكين تقريبا ). لكن هذا غير ما يحصل عليه من السلطان من حصة شعيرعلف الفرس ، الحقل والغنم . فوق هذا فقسم كبير من أموال الجنود المجازين تصب في جيوبهم ، إذن فهم ليسوا بسيئي الأحوال. بحيث من ألف جندي، التي تحت قيادة أغا، أقصاها تكون ثمانية مئة موجودة ، لكن المئتان الناقصتان تدرجان، و مرتباتها تؤدى يوميا من طرف «الأمين العسكري»، أي رئيس الأداءات. يمكن للإنسان أن يكون فكرة عن هذا الجيش النظامي، الذي يشكله أكثر تافهي مجموع المملكة ، حين أعطي هنا بعض الإشارات الوجيزة عن الموظفين القواد ، الذين تعرفت عليهم . «فأغا» أحد الفيالق كان تاجرا سابقا لخيوط الحرير و الحرير الخام في فاس ، أسمه الحاج عزوز، إنه يدين بوظيفته للظروف فقط ، حيث أنه كان حاجا، أي زار مكة. فالمغرب، الذي يقع بعيداعن مكة ، يظهر أن له نسبيا عدد قليل فقط من الحجاج و حتى وإن كانت البواخر الآن تحمل المؤمنين الورعين بطريقة مدهشة و رخيصة الثمن من طنجة إلى الإسكندرية ، ثم من هناك إلى جدة ، مع ذلك لم يرتفع بأية حال عدد الحجاج ، لأن الحج بالبواخر لا ينظر إليه بجديرالتقدير مثل الحج سيراعلى الأقدام . و قافلة الحج، التي كانت تنطلق سنويا من فاس ، مراكش و تافلالت ، قد توقفت بالنسبة للمدينتين الأولتين عن التواجد . «الأغا» الثاني المسمى سي حمودة، جزائري المولد، اكتسب مكانته حسب ظرفه ، لأنه فرنسي مجرد من الحقوق القانونية ، إرتقى إلى رتبته ، بمجرد أن وضع السلطان السيف في يده . « الأغا « الثالث المسمى سي- محمد الخوجة، تونيسي المولد ، نفسه لا يعرف كيف جاء إلى الوظيفة العسكرية، فهو طالب في الأصل ، أي، فقيه . «الأغا» الرابع و الأخير المسمى بن قدور، هو في الأصل « قايد» إحدى البوادي، فهم مقارنة بهذا الأخير على الأقل ، لا يتناسبون و الصفات الحربية ، لكن من المعرفة العسكرية الأوربية الفعلية فهو الآخر أيضا أقل إدراكا مثل الآخرين . باستطاعتي ، حيث توفرت لدي الفرصة ، للتعرف على كل القياد إعطاء المزيد ، لكن هذا يكفي . إلا أنني أذكر أيضا، أن ضابطين فرنسيين حقيقيين، من أصول القناصة الأهليين لم يساعدهم هذا في الرقي إلى أكثر من رتبة مقدم ، لأنه كان يُشتبه في أنهم لا يزالون مسيحيين، بينما واحد متسكع « سوسي» (من مواليد إقليم سوس)، يعين لتو نقيبا أو قائدا. و حيث أن هذا التعيين جاء أثناء تواجدي في فاس، هكذا يمكنني أن أُورد هنا ، أن سبب حدوث ذلك ، راجع لأن هذا « سوسي» أبدع أمام مرأى السلطان في فن السير بتوازن على الحبل . قبل ذلك فهو ينتمي إلى جماعة، أفرادها كما هو في الغالب يأتون من سوس، ومع هذه الجماعة لم يزر العالم الإسلامي فقط ، بل أوروبا كلها، فقد ادعى أنه كان في المانيا أيضا، و حيث أنه استطاع أن يذكر لي عددا من المدن الألمانية بأسمائها، كان لزاما علي أن أصدقه ، لأنه ليس بإمكان أي مغربي آخر، التعرف على مدينة المانية بالإسم. فالمعرفة الجغرافية لكبارالمتعلمين المغاربة، في مدى فهمها البعيد لأوروبا ، تنحصر في باريز (باريس)، لوندر? (لندن)، مانطة ( مالطا)، بلاد الأندلس (إسبانيا)، برتغان (برتغال) موسغو ( روسيا)، نمسة ( المانيا) سطنبول (القسطنينية). فاذا ما استطاع طالب أو فقيه إظهار معرفته حسب ترتيب هذه الأسماء ، يعتقد على أنه هو الجغرافي هو مبلد أو على الأقل فارس في الجغرافية.