ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة. كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة. إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية. يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية. -22- خرجنا في الصباح الباكر قاصدين جبل طارق؛ حيث استكملْنا مؤونتنا من الفحم، ووصلنا إلى سواحل الدارالبيضاء في 2 نونبر. ولقد لزِمنا أن نمكث هناك خاملين ليوم كامل؛ إذ كانت الحمولة التي يتعيَّن علينا شحنها في مخازن رجل يهودي متزمِّت، فقد كان ممتنعاً عن العمل بسببٍ من أن اليوم كان يوم سبت. ولقد اعتنمت الفرصة للاستخبار بأكثر دقة، في شأن حادث وقع منذ وقت قريب، وتحدثت عنه الصحافة الفرنسية في كثير من التهويل والانفعال، ولقد أمكنني أن أجمع في شأن هذا الحادث التفاصيلَ التالية : كان الشيخ ماء العينين قد عاد، مؤخراً، لزيارة مدينة فاس، ولقد مرَّ رجاله في طريق عودتهم إلى الصحراء، بمدينة الدارالبيضاء. واتفق لأحدهم أن قام بزيارة، عن فضول وحب اطلاع، إلى مشغل لأحد صنَّاع الأسلحة الفرنسيين. ويبدو أن الزائر أُعجِبَ كثيراً بآلة ثقَّابة، فأخذ، بدافع الفضول، يدير عجلتَها بشدة. وضاق الصانع الفرنسي درعاً بذلك العبث من الزائر، فرفع يده في جهه، مهدِّداً، وطرده خارج مشغله. ولقد استاء رجال الشيخ ماء العينين من ذلك التعدِّي على واحد منهم، فتوجهوا إلى مشغل الرجل الفرنسي، فأوسعوا الرجل ضرباً، ثم طردوا جميع الفرنسيين من المدينة، غير أنهم لم يتعرَّضوا بسوء إلى المسيحيين الذين علِموا عنهم أنهم من غير الفرنسيين. ولم يستغرق الحادث سوى ساعات معدودة، عادت الأمور بعدها إلى مجاريها، ولم يعد بين السكان من يفكر في ذلك الحادث. وحدها الصحافة الفرنسية انتهزت تلك الفرصة لتثير الانتباه إلى جو الفوضى الذي يسود البلاد. ولقد خذ احترام السكان للسلطان وإدارته في التقلُّص أكثر فأكثر، بسببٍ من ضعفهما، ولم يعد الأهالي يجدون في أنفسهم أدنى احترام لسلطانهم. وكان الاستياء أقوى وأشد عند التجار. فقد كانوا يطلبون إلى السلطة أن تحمِل المدينين على أداء ما في ذممهم من الديون لهم، فكانوا يقابَلون بالرفض عموماً، لكن، مع ذلك، لم يكن الأهالي يجدون من أنفسهم أي عداء تجاه الأوروپيين. وفي 14 نونبر أرسلنا الباشا إلى مدينة مليلية. وقيِّضَ لي، في 17 من الشهر نفسه، أن ألتقي، بطريق الصدفة، بالقبطان «جيم»، الذي كان من عادته أن يتردد كثيراً على بوحمارة في سلوان. فعلِمت منه أن سلطة الروغي يسير إلى في تراجع. وسيكون ممثل للسلطان مقتدرٌ وموضع ثقة، في الوقت الراهن، أنفع في مليلية، وسيكون في مقدوره، في هذه الظروف، أن يقضي، في أسرع وقت، على التمرد. ومن سوء الحظ أن القايد محمدي لم يكن له أي نفوذ تقريباً على القبائل المجاورة، إذ كان شغله الشاغل، دائماً، مصلحته الشخصية، وقد كان الجميع، للأسف، يعلمون بذلك. وكنت إلى ذلك الحين، أعتبر هذا القايد رجلاً آية في الاستقامة، وكنت أتبيَّن هذا الاعتقاد في وجهه السمح الجميل. فلم ألبث أن أدركت أنني انخدعت أيما انخداع في شأن الرجل. وعلمت في يوم 22 نونبر، من صحيفة «تلغراف الريف»، أن إسپانيا، وأنجلترا، وفرنسا، تزمع القيام باستعراض لأساطيلها في مياه طنجة، احتجاجاً ضد الريسولي، وأن أعداداً كبيرة من الجنود تقوم في إسپانيا على أهبة الركوب، احتمالاً، باتجاه مدينة طنجة، ولقد كان الاعتقاد في هذه الجريدة أنه في حالة حدوث ذلك الإنزال، فسوف تكون الدعوة إلى الجهاد في جميع مساجد المغرب. ولقد عبَّرت عن رأيي علناً في محضر بعض الضباط الإسپان الذين كنت أتداول معهم في شأن هذه الأخبار. وأوضحت لهم أنه ما دام تمرُّد بوحمارة يقترب من نهايته، فإن فرنسا ستجهد لتخلق، بطريقة أخرى، مصاعب للمغرب. وعلى الرغم من أن الريسولي كان في السابق، قائد لصوص، فقد أصبح، الآن، قايداً كثير النشاط جم الحيوية، وأصبح الإقليم الذي هو تحت إمرته ينعم بالأمن والهدوء والنظام. ولئن لم يكن الريسولي بالمعادي للأجانب، فإنه كام، مع ذلك، يبغض الفرنسيين. فقد كان يستشعر، بغريزته، أنهم لازالوا يمثلون تهديداً لوطنه. وكان الريسولي مبعث قلق وانشغال للفرنسيين؛ إذ كانوا يعلمون أنه ليس من أصدقائهم، ولأنه كان عازماً، كل العزم، على الحفاظ على النظام في مجال سلطته. ولذلك سارعت فرنسا، وانجلترا وإسپانيا إلى الدسِّ له وتدبير العراقيل والمنغصات! ومما لا سبيل إلى إنكاره أن الريسولي كان يتجاوز صلاحياته في بعض الأحيان، وينتحل لنفسه حقوقاً ليست له. لكنها وضعية كان في الإمكان تسويتها، لو لم يكن فرنسا بالطيش والتهور اللذين كانت عليهما. ولقد أمكن لسفيرنا الألماني، الدكتور روزن، أن يتدخَّل، فاستطاع، بحقٍّ، أن يحول دون إنزال تلك القوات، ومنع، بذلك، من وقوع مأساة كبيرة. غير أن المخزن لم يجد بداً من خلع الريسولي. ولقد كان عاقبةَ ذلك عودةُ منطقة الشمال الغربي من المغرب إلى حالتها السابقة من انعدام الأمن. وكانت فرنسا، بذلك، قد حقَّقت هدفها. لقد عمِل القايد محمدي، طوال تلك الأيام، في بأس شديد، لتوحيد تلك القبائل، وإرسالها على بوحمارة، ولقد أغراهم على التوحد بوعده إليهم أن يمدَّهم بالأموال والأسلحة، ولكي يطمئنهم إلى جدية دعوته، قرَّر أن تُحَمَّلَ سفينة «التركي» من مدينة طنجة ب 50 بندقية و8 صنادق من الذخيرة، لتوزيعها على الريفيين. ولقد أرسلَنا القايد محمَّدي في 23 نونبر، إلى الجنوب الشرقي من رأس «ثلث مداري». وأشاع أننا إنما نذهب لتسليم البنادق والذخيرة، وجعل معنا دليلاً من البلاد والقبيلة. فأبحرنا في تؤدة، بمحاذاة الساحل، بطول أراضي بني بوغاسن، وبني شيكر، حتى بلغنا إلى بني سعيد. وقد كان محظوراً علينا أن نفتح النار، وكان علينا أن نكتفي بانتظار القوارب القادمة من البر. لكن عبثاً انتظرنا، فلم يظهر قارب. ثم لمحنا، في نهاية الأمر، في خليج (كرت) تجمعاً كبيراً. ولقد أخذنا في تشغيل صافرة السفينة بصورة متواصلة لوقت طويل، كما جعلنا على مقدَّم السفينة حايكاً كبيراً علامة على السلم. ويبدو أن الأهالي اقتنعوا بنوايانا السلمية؛ إذ جعلوا قارباً في البحر، وعلى متنه ثمانية من المجدفين. وأما جنودنا فيبدو عليهم أنهم لم يثقوا بهم، فكانوا على استعداد للقتال. ولقد تجمعوا فوق ظهر السفينة ببنادقهم وصناديق الرصاص. وكذلك الريفيون لم يبد عليهم أنه وثقوا منا؛ فحتى عندما صعدوا إلى متن سفينتنا، ظلوا محتفظين بأسلحتهم. كانوا رجالاً مليحين ووقورين. ذوي وجوه صريحة وصادقة. كان بينهم ستة كباراً في السن، لذوي لحي كبيرة، واثنان منهم في قرابة العشرين، كانوا مرداً، وقد كانوا مليحين حقاً. للم تكن ثيابهم بالفاخرة، لكنها كانت نقية. وقد أحاطوا رؤوسهم بعمامات من وبر الجمال، علي جري العادة المحلية. مضينا بهم إلى الخلف، تحت الخيمة؛ حيث اتخذوا لهم أماكن إلى جوار سي حامد وبومغيث. ولقد وضعوا بنادقهم فوق كوة صغيرة عند مدخل الخيمة، وظلوا حريصين على أن لا يقربها أحدٌ. وقد كان معظمها أسلحة بالية، لكنها لا زالت في حالة جيدة جداً. ولقد جعل سي حامد من يدير الشاي على الريفيين، ثم تحدثوا في حمية، عن معركة قوية وقعت على بعد ثلاث ساعات فقط، من هذه الناحية وقد شارك فيها جنود السلطان، لم يتخلف منهم غير قلة، ليقوموا على حماية القرى. لم تكن البنادق التي حملناها موجهة إلى هؤلاء الريفيين. فكانوا عليهم أن يعودوا إلى البر، يصطحبون معهم دليلنا ليبحث عمن هي موجهة إليهم، ويأتي بهم إلى متن السفينة. ألقينا المرساة هذه الليلة في ذلك المكان، على ساحل لا يمكننا أن نأمن فيه إلى أحد، وليس لنا فيه من حمى من الطوارئ. بيد أن الطقس كان جميلاً جداً، على الرغم من أن الفصل كان يشارف على النهاية، بحيث لم يترك الأمر مجالاً للتردد في التوقف هناك. ولقد جعلنا حراساً على متن السفينة، تحسباً للمفاجآت التي يمكن أن تأتينا من البر. مر الليل من غير حوادث. وفي صباح اليوم الموالي، مررت بخيمة سي أحمد، فوجدت هناك بومغيث وبحاراً نائمين، وإلى جوارهما بندقية معبأة. بيد أنهما شعراً بالانزعاج خلال الليل. لبثنا هناك إلى الزوال، من غير أن يتقدم إلينا أحدٌ. وعندئذ رأى سي حامد أن لاجدوى من إطالة الانتظار. وقد أصبح الجو مضطرباً. وهبت ريح قوية، جعلتني أصرف نظري عن المضي رأساً إلى مليلية، فآليت إلا ألقي المرساة وأتخذ حمى في الجزر الجعفرية. تلقيت في مكاني هناك برقيتين من مليلية من القايد محمدي. وتفيد البرقيتان : 1 . أن بني سيدل يخوضون، منذ ثلاثة أيام، حرباً على بوحمارة. وقد سقط في تلك الحرب أعداد كبيرة من القتلى. وتحتم على القبائل أن توقف القتال، لافتقارها إلى الذخيرة. ويتعين قدوم المحلة على وجه السرعة. 2 . أن بوحمارة قاتل قبائل بني فكلان، وأحرق بيوتهم، مما اضطرهم إلى الفرار عند بني سعيد. ولم يكن ذانك بالخبرين الساريْن. بل إنهما ليحملان على الخوف من أن يكون في ما حدث ما يعيد للروغي اعتباره، ويزيد من قوته. وكذلك حمَلْنا، في 26 نونبر، أخباراً محزنة إلى باشا قصبة السعيدية. فلم يغتم لذلك كثيراً، وأخبرَنا أن المحلة اغتنمت غياب الروغي إلى ملوية، وكذلك اغتنمت انخفاض منسوب الماء في النهر بفعل توالي بعض الأيام من الجفاف، فانتقلت إلى الضفة التي يحتلها العدو. ولقد اخترق الثلث الجنود، ذلك الذي يقوده القايد البشير، النهرَ، وقد أصبحوا يعسكرون، الآن، فوق ساحل كبدانة. وسوف يأتي القايد البشير نفسه، رفقتنا إلى مليلية؛ حيث سيقيم هناك مركز قيادته، ذلك أن من المتوقع للجنود أن يزحفوا بسرعة على سلوان، ويقيمون صلة وصل بطريق البر مع مليلية. والتقينا، إذ نحن في الجزر الجعفرية، كاتبَ القايد محمدي، الذي قدِمَ من مليلية يحمل رسائل، وواصل طريقه رفقتنا إلى السعيدية. وكان بين تلك الرسائل ثلاث من السلطان، فكان الباشا يمس كل رسالة من تلك الرسائل بجبهته ويقبلها بفمه قبل أن يأخذ في قراءة ما فيها، فيما يهمهم الحضور بالتبريك. وفيما كنت أتجول في أرجاء القصبة، إذا برجل في بدلة عربية تقليدية بالية، يكلِّمني، فجأة، باللغة الألمانية: «هل يمكنك أن تقلَّني؟». ولقد حكى لي أنه ألماني من إقليم الألزاس، وأنه فرَّ، منذ ثلاثة أشهر، من الفرقة الأجنبية. فلما وصل إلى التراب المغربي، تعرَّض للاعتداء من الأهالي، الذين نهبوه كل ثيابه، وأعطوه، بدلاً عنها، جلابة ممزقة. وكذلك أطعموه، وكانوا كثيراً ما يشغِّلون. وبذلك أمكنه أن يتنقل من قرية إلى قرية، واجتاز جبل بني يزناسن، وبلغ، كذلك، حتى إلى المحلة المرابطة في منطقة ملوية. وكان بلوغه، في نهاية المطاف، إلى قصبة السعيدية؛ حيث التقاني بمحض الصدفة. ولقد حملته، في المساء، إلى ظهر السفينة؛ حيث أعطيناه، نحن الأوروپيين، بعض الثياب. لكن لزِمه، في البداية، أن يستحم داخل السفينة، بالصابون الأخضر... لقد كان ثالث جندي من جنود الفرقة الأجنبية أقلُّه مباشرة من مرسى ساي، على متن الزورق التابع للسفينة. وقد كنا، نحن الأوروپيين، نغتنم وجود هاربين من الفرقة الأجنبية على متن سفينتنا لنجعلهم يقصون علينا كيف كانوا يعيشون أثناء عملهم في تلك الفرقة. وغالباً ما كانت الآراء تتباين. فلقد زعم أحد الهاربين أن العمل في الفرقة الأجنبية منهك أشد ما يكون الإنهاك، وأن الطعام من التردي بما يفوق كل وصف. فيما كان الآخر يجد الأمريْن مما يمكن تحمله. وربما كان الرأيان معاً على صواب، فأحد الرجلين واتاه الحظ، ولم يوات الآخر. وقد يكون أحد الرجليْن معتاداً على العيش في البيت، وعلى الحياة الهنية والمترفة، فيما لم يعرف الآخر، منذ سنِّي شبابه، غير العمل والمعاش الفقير. وأحرص على التوضيح أن المشتكي من الرجليْن كان بلجيكياً. وأما الألمان الذين فروا، بعدئذ، من الدارالبيضاء، فقد كانوا، راضين على وجه العموم. وقد كانوا، برأيي، محقين في تشكيهم من المعاملات السيئة وانعدام الانضباط. وكأنما يخيل إلى المرء أن هذا الأمر الأخير كان يؤثر فيهم، ولم يكن الأمر كذلك؛ فقد كانوا موقنين أن النظام لا يمكن أن يستتب إلا بفضل الانضباط الصارم، نظام يحمي الجندي الأجنبي، الأعزل، غير العارف بلغة أهل البلد، من رفاقه ومن القادة، نظام يقنن الخدمة من غير عقوبات دائمة ومغالية، ومن غير الشجارات الصغيرة المتكررة، التي تم إسكاتها بكثير من القسوة. ذلك بأن الجنود الألمان في الفيلق الأجنبي قد أصبحوا، يومها، هم الذين يتعررضون، على الدوام، للتنكيل من غير حماية. إن الإنسان العادي، خاصة إذا كان قد أدى خدمته في ألمانيا، تكون حاجته في المقام الأول إلى العدل، وأن تكون السيادة للصرامة؛ في الفيلق الأجنبي. إن قدماء الألمان خاصة يعانون من الانضباط العنيف ينزله به ضباط الصف والمأمورين، ذلك بأن هذه المناصب هي، على وجه التحديد، التي يشغلها رجال أقل جدارة، والفرنسيون هم الأسوأ؛ وإذا كانوا قدامى الجنود العاملين في الفيلق الأجنبي، فإن المتعاظمين الذين ليس لهم مبادئ هم الذين يصلون إلى هذه المناصب. فالمعاملة الظالمة، في معظم الأحيان، تدمر، ببطء، لكن بشكل محتوم، الإحساس بالشرف، والذين ينتبهون قبل فوات الأوان إلى أن ضمائرهم تتدمر شيئاً فشيئاً، يحاولون التخلص من هذه الوضعية بالهرب. غير أن المجازفة التي كان الفار من الفيلق الأجنبي يركبها كانت عظيمة. فالجندي الذي يتم الإمساك به، بعد أن يظل بعيداً عن الجيش لأكثر من ثلاثة أيام، من غير أن يفلح في الوصول إلى الحدود نظراً لبعد المعسكر، يكون عقابَه الحرمانُ من الحرية لأعوام. وتُزاد إليه عقوبةٌ إضافية عن كل قطعة تنقص من زيه، ولو كانت بضعة أزرار. وتكون العقوبات الحارمة عقوبات فظيعة؛ شغل جهيد من الصباح إلى المساء تحت الشمس الحارقة، وطعام قليل جداً، ومعاملة وحشية من كل الوجوه. ومن قبيل ما نقول أن رجلاً سويسرياً كان يعمل كثيراً مع المساجين، حكى لي أن أحدهم أوثق ليلاً إلى عمود من أعمدة التلغراف، وترِك هناك دون أن يُهتم لأمره، إلى الصباح. فقد أوثق ساقاه إلى العمود بحبال، وأوثق ذراعاه وراء ظهره. وحل المساء، وهو لا يزال واقفاً، حتى إذا أقبل الليل، أخذ ينهار شيئاً فشيئاً، فلما أطلِق سراحه في اليوم الموالي، كانت قدماه قد ماتتا تماماً. وقد رأى سالووسكي كيف جرى تقييد يديِّ أحد أولئك التعساء ورجليه خلف ظهره، ثم مدِّد لساعات في الشمس الحارقة، وإمعاناً في زيادة الحرارة الخانقة، جُعل عليه قماش غليظ، ولو صاح التعيس في طلب شربة ماء، جاءه الحارس الكورسيكي - فكثيراً ما يُتخَّذ الحراس على المساجين من الكورسيكيين، إذ كانوا معروفين بقسوتهم - وغرز كعب جزمته في فمه، قائلاً له: «هاك، أيها الكلب، ها هو الماء!». وإذا كان الرجال من الأهالي يلوذون بالفرار، على الرغم مما قد يعود عليهم من الإيجابيات من هذه المعاملات، فبا بالك بالحياة التي ستكون من نصيب الجندي العامل في الفيلق الأجنبي! وإذا سالووسكي، الذي رضخ للأمر المحتوم، والذي أمضى سنواته الخمس، قد وجد الخدمة في صورتها هذه، أمراً يمكن تحمله، فلقد تكبد معاناة معنوية كثيرة. وقد كان، هو الآخر، يشتكي من الجور الذي يعم الفيلق الأجنبي. يغلب على الناس الاعتقاد بأن الفيلق الأجنبي يتألف من جنود ألمان فارين من الخدمة، أو مجرمين. وليس هذا بصحيح؛ فمن جملة الجنود الألمان الستين الذين فروا من الدارالبيضاء، لا تجد غير ستة قد فروا من الدارالبيضاء (فقد فضلوا الخدمة في الفيلق الأجنبي بدلاً من أن يمضوا مدة عقوبتهم في سجون بلدهم). بل إنك، على العكس، تجد معظم هؤلاء من العمال الألمان النزيهين، قد وقعوا في أيدي مجنِّدين فرنسيين عديمي الذمة، مدفوعين إليهم بالحاجة أو بمعسول الوعود، ثم لا يلبثون أن يصطدموا بالبؤس، ولا يظفرون بشي مما قيل لهم من تلك الوعود البراقة. ذلك بأن المجندين في الفيالق الأجنبية كل أجرهم يقبضون خمسة سنيمات ذهبية عن اليوم الواحد في وقت السلم، وعشرون في وقت الحرب، لأي سبب؟ ليسخَّر، في وقت السلم، للعمل في الأماكن القصية من الصحراء، أو ليُجعلوا، في وقت الحرب، جنوداً منذورين للهلاك، في الأماكن التي يكون تمنع المخاطر فيها من إرسال الجنود الفرنسيين. ولو قدِّر لهذا الجندي أن لبث أثناء المسير في المؤخرة، ووقع بين أيدي العدو أو مات من العطش في الصحراء، أو وقع صريعاً في ساحة الوغى، أو ترِك [في العراء] من غير كفن، نهباً لأنياب الضباع ومخالب النسور في الأطلس - فما هو إلا جندي عامل في الفيلق الأجنبي! فمتى تنتهي، إذن، هذه المتاجرة في الرقيق الأبيض، فنتنفس الصعداء؟