المغرب التطواني يفوز على مضيفه اتحاد طنجة (2-1)    المنتخب المغربي يفوز بكأسي البطولة العربية ال43 للغولف بعجمان    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    أنشيلوتي يدافع عن مبابي.. "التكهن بشأن صحته الذهنية أمر بشع"    دينامية السياسة الخارجية الأمريكية: في نقض الإسقاط والتماثل    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    موتسيبي "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة بالجديدة يحتفل ذكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (19 )
نشر في بيان اليوم يوم 15 - 08 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة
«التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
-19-
اضطررنا، بسوء الطقس في الأيام التالية، إلى البقاء متبطِّلين. فلم نرجع إلى عجرود إلا في 9 ماي، لنسوي، أخيراً، قضية الغنيمة.
كان البر لا يزال على شيء من الاضطراب، فآثر بن الطاهر البقاء على متن السفينة خشية اضطراب الأمواج، وأوكل ببيع حصته من الغنيمة إلى يهودي من مليلية.
وأما أنا فقد بعت في القصبة الحصة العائدة إلى البحارة بثمن جيد جداً؛ ثم عدت إلى السفينة؛ فوزعت تلك الدوروات الستين على أفراد الطاقم؛ وكنت أفعل ما أفعل فوق طاولة على سطح السفينة؛ على مرأى من العجوز، فكنت أنادي على كل الرجال واحداً واحداً، فأسلمه نقوده. واحتفظنا على متن السفينة ببعض أكياس القيق لأجل المطابخ، وعادت إلى ابن الطاهر خمسة من تلك الأكياس؛ فدفع إلى الجنود بثلاثة واحتفظ لنفسه باثنين، وعلى النحو نفسه جرى تقسيم السكر؛ ثلثاً للعجوز، وثلثين لنا. فكان الجنود ينظرون إليَّ في حسد، وأنا أقسم الدوروات على رجالي، وأردت أن أدخل السرور على أنفسهم، فمنحتهم حصتنا من السكر.
وقد تبادر إلى أذهانهم، بكل تأكيد، أن بإمكانهم أن يحصلوا على المزيد؛ فذهبوا عند العجوز يطابونه بحصتهم من الغنيمة، فكان رده عليهم، من حيرته، أنه اعتقد أنني سأبيع حصته أيضاً. لقد جعلني، نوعاً ما، مسؤولاً على أن لم يحصل الرجال على شيء. فنبهته، إذاً، إلى أنه كان قد عهد ببيع حصته إلى ذلك اليهودي.
وكانت لنا عودة إلى مليلية. وقد التقيت هناك فارساً فرنسياً، من ڤرساي، كانت لي به معرفة، وشاءت له الصدفة أن يكون في مليلية برفقة (زينيث)، فحكى لي، في فرحة ماكرة، أنه كان عائداً من جمرك الروغي؛ حيث رأى الرؤوس المقطوعة لرجال السلطان الخمسة معلقة عند مدخل الجمرك. فكان ما سمعت منه دافعاً لي إلى للتوجه، في اليوم الموالي، عند العامل. فرجوته أن يزيل، في الحال، بتلك الرؤوس، فليس من حق بوحمارة أن يعرض، على تلك الصورة، غنائم الحرب في منطقة محايدة. ولولا أن أنزِلت تلك الرؤوس، لرأينا من حقنا أن نسقطها برميها بقذائفنا. ولقد أكد لي العامل أنه قد سبق أن طالب بإزالة تلك الرؤوس، مع تأكيده لي أنه ليس لنا أي حق في التعدي على حياد بيت الجمرك. إلا أنه وعد بالحرص، في ما يقبل، على أن يبتعد المتمردون بمظاهر الخشونة وعدم اللياقة عن جوار مليلية.
وعاودت ابن الطاهر رغبته العارمة في الاستراحة بضعة أيام بمليلية، حيث يشعر بالأمان، إذ يتولى الإسپان الحراسة لأجلنا. فلم أجد ببداً من تذكيره بأمر الطريس إلينا بعدم البقاء في مليلية لأكثر من أربع وعشرين ساعة. فلم أدع له مناصاً من استئناف رحلة استكشافية قصيرة في 13 ماي، لكننا ما كدنا نرمي ثلاث كرات على المصنع نعلن بها أننا لا نزال على قيد الحياة، حتى لاحت لنا في الأفق سفينة شراعية. فسارعنا نبغي اعتراض سبيلها، فتبين أنها كانت تبحر من غير طاقم عليها. فعمدنا إلى شدها لصق سفينتنا، لتفحصها عن كثب، فلم نجد على متنها أحداً؛ إلا من بعض الثياب وأربعة رجال متفرقين على السطح. وكان على متن السفينة حمولة من 40 كيساً من الفحم الخشبي، وأناء عظيم من البيض، وخمسة دوروات إسپانية. فأخذنا البيض والنقود، وتركنا الفحم في السفينة، وقمنا بشدها إلى مؤخرة سفينتنا لنسحبها إلى عجرود.
غير أن الطقس كان ينذر بالاضطراب، فلم نجد بداً من أن نجعل عليها ثلاثة من رجالنا المتطوعين. فأفلحوا في المضي بها إلى البر. وانطلقنا، فور ذلك، إلى الجزر الجعفرية، فألقينا فيها المرساة. وكنا في الطريق إليها اقتسمنا البيض، وبعنا الثياب بالمزايدة. وقد وجدنا في جيب أحد الألبسة رسالة من الروغيك يأمر فيها صاحب السفينة، وهو، كذلك، شيخ القرية، بجمع الأموال في القرية؛ بسيطة عن كل شخض، وإلا عاد، في جيشه لنهب القرية، ومحق أهلها.
لبثنا في الجزر الجعفرية إلى صباح اليوم الموالي؛ ثم تحسن الطقس، فأبحرنا صوب مليلية، لنبرق إلى الطريس في حاجتنا إلى الفحم. وفيما كنت أهم بالرحيل، إذ علمت أن سفينة إسپانية صغيرة قد جاءت، في الصباح الباكر، تسأل عن ركاب السفينة الشراعية التي أسرناها في اليوم الذي قبل. وكان أحد أولئك الرجال بلغ الشاطئ سباحة، فظُنَّ قد احتفظنا بالثلاثة الآخرين على متن السفينة. والحال أنهم غرقوا فيما كانوا يحاولون النجاة بأنفسهم سباحة.
وفي مليلية تلقيت برقية منالوزير يأمرني بالتوجه من فوري، إلى طنجة، لأتزود من الفحم. خبر تلقاه كل من على السفينة بصيحات الفرح. فسارعنا بالتحوك صوب عجرود لأخذ رجالنا من هناك. وكان العامل دعاني إلى مقابلته في الساعة 7 من مساء ذلك اليوم، بسبب غنيمتنا الأخيرة، لكنني أبلغته تأسفي لعدم استطاعتي الانتظار، لشدة عجلتي. ووجهت إليه تحياتي، وزدت شاكراً له لطفه ، وقد كانت تلك المحادثة ستكون جلسة أخرى من التفسير المتعب.
وفي اليوم الموالي رتبت أمر شراء حصتنا من الفحم الحجري، وانتهيت من الأمر في الساعة الواحدة. لكن الأمر لم ينته بالنسبة لابن الطاهر، الذي لبث، من المساء حتى الساعة الواحدة ليلاً جالساً في مكانه يشرب ويأكل، لا يتزحزح عنه. وعليه، فقد أخذت حصته من الدقيق ، التي لم يفلح اليهودي في بيعها، قد أخذت، في تلك الأثناء، يدركها الفساد بفعل ما توالى عليها من سيول كثيرةو فصارت تنبعث منها رائحة لا تطاق. فلم يعد له سبيل، في تلك الحالة، إلى بيعها. غير أنه لم يتخل عن ذلك الدقيق، وحمله على متن السفينة؛ فظل يزكم أنوفنا إلى أن بلغنا طنجة، وهناك لم يعد يجد بداً من رميه في الماء. وفي نحو الساعة الثانية بعد الزوال، عدنا إلى السفينة، وأبحرنا من فورنا. وقد أمكنني أن أزيد كل بحار 4,50 بسيطات عن الفحم الخشبي، فيما لم ينل الجنود شيئاً، فظل ابن الطاهر ييتذمر، لأنني لم أبع حصته من الدقيق.
أحدث ذلك الشخص من الأضرار خلال تلك الأسابيع أن بات التخلص منه يمثل عملاً شاقاً مرهقاً. فقد صار لا يكاد يمر يومٌ إلا يكون فيه سطح السفينة مسرحاً لشجارات؛ بسبب نسائه أو خدمه. وعلى الرغم من أنه يكون هو المخطئ دائماً، فإنه لا يفوت فرصة للتذمر. ثم إنه كان في غاية الجبن والفظاظة والجهل والثقل، وفاقداً للذوق والحصافة؛ بحيث لا يحترمه أحدٌ. وقد أقام الطريس محاكمة كبيرة لبن الطاهر، فحاول هذا الغشاش الماكر الكبير أن يلبسني المسؤولية عن كل الحوادث التي وقعت على متن السفينة. واشتكى خاصة، من أننا، نحن الأوروپيين، قد أخفناه كثيراً بالألغام. وعندما حكى أن الضابط الأول قد تمادى في الأمر، وأنه أخبره بأن طوافة التلغراف في طنجة كانت طوربيداً، كان موجهاً إلينا، لم يتمالك رجال الوزير أنفسهم من الضحك. ثم دعا جنوده ليكونوا له شهوداً عليَّ. لكنه أخطأ الحساب؛ فلقد انصب على رأسه سيلٌ من التهم، بهت لها وتجمد، فلم يحر جواباً. ووقف جندي، قد عينه رفاقه ليتكلم بالنيابة عنهم، فأسهب في الحديث، وكان يتكلم بحدة وعنف كبيرين؛ شد إليه انتباه السيدين. فلقد اشتكى الجنود المعاملات الشائنة، ونقص رواتبهم، وأن ابن الطاهر لم يكد يعطيهم شيئاًَ من الغنائم، فيما وزعتُ أنا كل ما عاد إليَّ مها على رجالي. وختم الجندي حديثه بالتأكيد أن رفاقه لن يلبثوا تحت إمرة العجوز.
وعندما فرغ ذلك الجندي من الحديث، تكلم بناصر غنام، فأغلظ القول للعجوز بمحضر طاقم السفينة كله. ولامه بأنه قد جعله سخرة أمام المسلمين والمسيحيين. وقال إن عليه أن يخجل من نفسه، وإنه لم يكن جديراً بالمنصب الذي يشغله، وإنه سوف سيكتب فيه إلى صديقه وزير الحربية، ليتم عزله منه.
لكن وزير الحربية الذي جاء جوابه بعد بضعة أيام، أبقى على محظيه أثيره في مهمته، لأنه كان، هو نفسه، سيتفيد من الاختلاسات التي يقوم بها هذا الأخير. ولزمنا في 30 ماي، أن نعاود الرحيل بمعيته بصفة «الأميرال» إلى ساحة العمليات. بيد أن الطريس حد من سلطاته، فما عاد له إلا حق تحديد وقت القصف ومكانه، وتحديد وجهة السفينة. وحتى لقد جُعل الجنود كلهم تحت إمرتي. وما عاد له من سلطان إلا على خدمه الشخصيين، ولزمه، بطبيعة الحال، أن يُنزل نساءه في طنجة. فالطريس، كسائر المسلمين، يرى في وجود حريمه على متن السفينة أمراً مخالفاً للآداب.
وفي تلك الأثناء توجه القنصل الإيطالي الكونط ملموسي إلى فاس، لينقل إلى السلطان قرارات مؤتمر الخزيرات، ويحمله على التوقيع.
وفي فجر يوم 1 يونيو، ألقينا المرساة قبالة مليلية، وكانت المدينة مزينة عن كاملها، بسبب حفل زفاف ملك إسپانيا، فرفعنا، نحن أيضاً، علم الاحتفال.
وكان بوحمارة أرسل بعدد كبير من الفرسان، قاموا، في المنطقة المحايدة، بلعبة الفروسية، احتفالاً بذلك اليوم، من دون أن يعلم بها الإسپان بصفة رسمية.
وفي الصباح الباكر، ارتقى مساعد الجنرال، وهو ليوتنون كولونيل، السفينة وبرفقته ترجمان، لينقل إلينا ما يقرب من الأمر التالي من لدن الحكومة :
تنص المعاهدات على أن إسپانيا ينبغي لها أن تتولى الأمن في البحر وعلى الساحل الريفي، ولا ينبغي لنا أن نعرقل التجارة بين الأراضي التي تستعمرها إسپانيا من جهة، والريفيين من جهة أخرى، بإعاقتنا للتجارة البحرية. وابتداء من تلك اللحظة، سوف تصطنع جواز مرور إسپانياً لأجل جميع السفن الريفية التي تبحر من غير تهريب. ولئن كان لنا الحق في وقف السفن المزودة بهذا الجواز، والتحقق من أنها لا تحمل على متنها سلعاً مهربة، لكن يُمنع علينا أن نحتجزها ما لم نجد عليها ما يريب، ولو وجدنا على تلك السفن أسلحة مهربة، فإن علينا أن نمضي بها إلى مليلية، ونترك للعامل أن يقرر بشأنها. لقد كان بإمكاننا أن نغنم جميع السفن التي ليس بحوزتها جواز مرور، لكن لا ينبغي لنا أن نأتي بها إلى التراب الإسپاني، وإنما علينا أن ننزلها في البر المغربي. وعلاوة على ذلك، فقد أعاد تذكيرنا أننا ليس من حقنا أن نطلق النار على بيت جمرك الروغي. وليس علينا أن نهتاج للخيام التي باتت تقوم فيه يومئذ، لأن رجال الروغي كانوا يقيمون حفلاً على شرف ملك إسپانيا، وذلك أمرٌ لم يكن يغيب عن علم السلطات الإسپانية.
وقدم مولاي مصطفى، أحد أعمام السلطان، إلى مليلية. فاستقل سفينتنا إلى عجرود. وانطلقنا في 3 يونيو، وجهتنا المتجر، فأطلقنا بعض القذائف، لنعلن لأعدائنا أننا قد عدنا إلى ذلك المكان. ثم واصلنا طريقنا صوب الجزر الجعفرية؛ حيث ألقينا المرساة، إذ كان ابن الطاهر يرغب في استبقاء مولاي مصطفى في ضيافة سفينتنا. فظل العجوزان، طوال النهار، في مؤخر السفينة، في أكل، وصلاة، لا ينقطعان عنهما إلا بالنوم. وكان ابن الطاهر، بين الفينة والأخرى، يأتي مولاي مصطفى ببعض الشروحات حول المنطقة، أو يحكي له عن مآثره ومنجزاته خلال الرحلات السابقة. وفي اليوم الموالي، أنزلنا مولاي مصطفى في قصبة السعيدية، ومن هناك رحل ليطلع على أمور القوات المتمركزة على ضفاف ملوية.
وفي 7 يونيو، تلقى ابن الطاهر وخليفته الأمر المفاجئ بالذهاب لرؤية القوات؛ وقيل لي إنه كان ينبغي التحقق من تعداد الجنود الذين في ملوية، لأن السلطان لم تعد له رغبة في تقديم المال لجيش كبير، فيما حوالي نصف الجنود المبينين على الورق كانوا في البوادي. فأرسِل بمولاي مصطفى من فاس، ليقوم بإحصاء الجنود؛ لكنه لم يستطع أن ينجز تلك المهمة لوحده، فاستقدم ابن الطاهر إلى المعسكر. لقد ظُن أن هذا الأثير الكبير على وزير الحربية سيصيب من النجاح أكثر مما حقق مولاي مصطفى. بيد أن محاولات الإحصاء والعد فشلت كلها؛ فقد اصطدمت بعناد القايد شراب، أحد أفظع المحتالين وأكثرهم جراءة على عهد السلطان. وعاد ابن الطاهر إلى السفينة في يوم 9، من غير أن ينهي مهمته.
وحكى لي خليفته أنه جرى إزالة خمس الراتب، الذي كان، إلى ذلك الحين، يُدفع إلى القادة، ومن المحتمل أنهم لن تعوزهم مع ذلك النقود.
كان الطرفان المتعاديان، متحاذيين، لا يفصلهما غير النهر، وقد شرع من الجانبين في بناء بيوت من الإسمنت، وبالتالي، خلق مواضع جديدة. ولم يكن أي من الطرفين يفكر في القيام بهجومات نهائية.
وقد كان لي، أثناء غياب ابن الطاهر، محادثة طويلة مع عجوز ريفي، يدعى عُمراً، كان يقيم على متن السفينة منذ وقت طويل ليكون لنا مرشداً على الساحل الذي ليس لنا به معرفة. كان الرجل يعمل في خدمة السلطان منذ 40 سنة خلت. وكان شارك في طرد قبيلته، فرخانة، وكان شاهداً على محاصرة المتمردين للقصبة وتدميرهم لها. وكانت للرجل ملكية صغيرة، فسُرقت منه ودمرت. وعندما طرِد جميع موظفي السلطان من مليلية، تحت تهديد الروغي، لبث وأسرته في المدينة، فآوى إلى المخيم الذي جُعل للاجئي فرخانة. وعندما طلب القايد المحمدي ورجاله رجال السلطان لتقديم العون للقوات التي على ضفاف ملوية، التحق الرجل بهم، وخاض معارك، أصيب فيها بجراح كثيرة. ولقد كانت له نظرة ثاقبة إلى الجيش برمته، فكان يراه فاسداً عن بكرة أبيه، ويمكنه أن يخبرنا عنه الشيء الكثير. وكان يخشى كثيراً القايد شراب، إذ كان يراه الأسوأ بين موظفي السلطان طراً. إنه قريب للمنبهي، وكانت له أملاك في تلمسان، على الجانب الجزائري ؛ حيث كان له قطعان كبيرة من الماشية. وعمر يعتقد أن الرجل يتخذ له هذا المكان ملاذاً آمناً، لو قدِّر له أن يرفع قدميه في يوم من الأيام. وقد كان في مكنة الباشا، في اليداية، وقت أن كان شراب لم يحز بعد النفوذ الكبير الذي صار له، كان في مكنته أن يقضي عليه، وأما بعد ذلك، فما عاد الأمر ممكناً، فقد أصبح له مناصرون ونفوذ متزايدان، وبات يعرف أم يحيط نفسه بالرجال الأشد مراساً. وهو يداهن الروغي، ويُقال إنه لم يكتف بأن أهداه عدداً كبيراً من الخيام، وإنما كان كثيراً ما يبيعه الأسلحة العصرية. وهو يعرقل العمليات، إذ لا يبدي تعاوناً قط مع قادة القوات، كما يأمره القايد البشير أو القايد الحسين. وهو يلبث، في معظم الأحيان، من غير فعل، وقد حدث، بكل تأكيد، أن انضم رجاله، بطريق الصدفة، إلى المعارك، فكانوا يطلقون نيرانهم في ظهور الأصدقاء والأعداء. لقد كان فزعاً يتملك معسكر السلطان كله، ولم يكن بمقدور القياد فعل شيء ضده، فهو يفوقهم بكثير.
لم يكن لقضية السلطان، في مثل هذه الظروف، أن تعرف تألقاً كبيراً، ويمكن القول إن الحظ شاء أن يموت شراب، بعد ذلك، من رصاصة أصابته. فتحقق، حينها، مزيد من الوحدة في العمليات، لكن من أسف أن لم يتحقق تقدم كبير.
تردى ابن الطاهر، خلال الأسابيع التالية، إلى خمول لا يطاق. ولقد أمضينا أياماً بلياليها قبالة عجرود، وومليلية والجزر الجعفرية، من غير أن نعرب عن رغبة في القيام بشيء ما. فقد كان يحب الإقامة في عجرود، إذ كان فيها يعيش في البر، ويمكنه أن يطعَم مجاناً عند بعض أصدقائه، في الجزر الجعفرية، لأن السفينة في الميناء لم تكن تترجح قط، وفي مليلية، لأن السلطات الإسپانية تسهر على أمننا. فلقد ظل على خوفه الشديد من الألغام، وكان شديد الفزع أن تطير به. وكان يتحاشى مار تشيكا، كأنما يمتنع عن دخولها. فلما كنا في مليلية، ذكرته بأمر الطريس ألا نمكث فيها لأكثر من أربع وعشرين ساعة، فكان جوابه أن له محادثات مع بعض القبائل المتمردة، وأن عليه أن يمكث هناك لأكثر من ذلك الوقت. وحتى لقد أمضى الليلة في البر، متعللاً بالمفاوضات. وقد اتفق لبعض البحارة أن رأوه يدخل بيتاً للدعارة؛ ضم بعض الفتيات، لكن من المؤكد أنه لم يضم قادة للمتمردين ولا به قاعات للمفاوضات. وكان كثيراً ما يلبث جالساً في بعض الحانات الإسپانية في شرب، حتى إذا عجز أن يأتي على الخمرة، تولاها زنجي يلازمه على الدوام، حتى لا يتركها لصاحب الحانة. وقد يقف، أحياناً، مع القايد المحمدي، في حانوت أحد اليهود، يقتعد صناديق السلع ويفاوض. وقد أسر إليَّ أن الأمر كان يتعلق بإخضاع إحدى القبائل. لكن، عندما سألت المحمدي، بعد ذلك، كيف كان يجري الأمر، أجابني بقوله إنهم تداولوا في أمور شديدة التفاهة، وإن الحكاية التي قالها ابن الطاهر كانت تلفيقاً من كل الوجوه، وإن وجودنا في مليلية كان أمراً زائداً وباطلاً من كل الوجوه.
تلقيت، في 9 يوليوز، برقية من الطريس، تأمرني بالرحيل على الفور إلى عجرود، لأقل من هناك بعض السجناء، وأعود، فور ذلك، إلى طنجة. خبرٌ ثار له بن الطاهر، وأصر على أن نلبث في مليلية، ذلك بأن فاساً قد منحته مطلق السلطات على السفينة، وبالتالي، فليس على الطريس أن يحشر نفسه في الأمر. ولقد أبرقت إلى الطريس بتفسيرات ابن الطاهر، وتوصلت، على الفور، بجواب يقول : اترك بن الطاهر هناك، وعد إلى هنا، من غيره، مروراً بعجرود.
بيد أن العجوز لم يلبث هناك مكتوف اليدين؛ فلقد آثر إلا يرافقنا في تلك الرحلة. وفي صباح 11 يوليوز، وجدت في عجرود، رسالة من الباشا، تخبرني أنه ليس عليَّ أن أنتظر السجناء، وأن علي أن أرحل في الحال. وأراد ابن الطاهر، مرة أخرى، أن يصيب الفطور في القصبة، فنزل إلى البر. فجعلت من يخبره أنني لن أنتظره. ولقد حاول أن يستبقينا، بيد أني أعطيت أمراً صارماً : ينبغي أن يكون القارب على متن السفينة في الساعة العاشرة دون تأخير.
وعندما تأخر، استعملت الصافرة البخارية، ورأيت الرجال يركضون صوب القارب، ويدفعونه في الماء، وينطلقون. وعلى ذلك، أسرع العجوز القائم بالرحلة، وسرعان ما جُعل على متن السفينة، ولولا ذلك، لتركته، وفي حوالي منتصف النهار، انطلقنا صوب طنجة.
في تلك الفترة، شرع الفرنسيون في خلق مصاعب جديدة للسلطان عند الحدود، وتحدثت الصحافة صراحة عن دعم نشيط للروغي. وفي نمور، جرت، من جديد، مصادرة أسلحة وذخيرة موجهة إلى المحلة، ولئن أعيدت في وقت لاحق، فلقد آلم هذا الحادث المغاربة كثيراً. ليس في مقدورنا أن نثبت أن ثمة انحيازاً عمومياً من الفرنسيين نحو الروغي، لكن ثمة أمر شديد الدلالة : من الجانب الرسمي الفرنسي لم يُشرع في إنهاء المتاجرة التي لا تزال تجري في الخفاء، بين پور ساي والمتجر، وحتى ليبدو كأنهم يشجعون عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.