ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة. كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة. إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية. يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية. - 15 - كانت تلك بدايةَ فترة مضطربة بالنسبة لنا. فقد كنا نجهد لمنع عمليات التهريب التي كانت تجري في مار تشيكا، واحتجاز قوارب أنصار الروغي بوحمارة، والإبقاء على أهل المركز التجاري في حالة خوف دائم، بفعل ما نرميهم به من الطلقات بأوقات معلومة. قمنا، في يوم 18 فبراير، بأول معركة ذات أهمية، إن صح التعبير، منذ ذلك الاشتباك الذي كان لنا مع سفينة «لالاند. » فلقد غادرْنا مدينة مليلية في وقت باكر، والصبح بعد لم ينبلج، لكي يكون وصولنا، على حين غرة، مع مطلع النهار، قبالةَ المركز التجاري. وما كاد بن الطاهر يستيقظ حتى أعطى أمره إلى الرماة بقصف العدو. ولقد رد العدو على قصفنا، لكنه سرعان ما توقف عن القصف؛ إذ تبيَّن أن طلقاته لن تصل إلينا، فكنا في جيئة ورواح، في بطء، على بعد 5000 متر من المركز التجاري، مستعملين مدفع الميمنة، أو مدفع الميسرة، ولقد أصبنا المعسكر بنحو عشر طلقات من جملة الطلقات الخمسين التي رميناه بها، حتى إذا أشبع العجوز بن الطاهر ما بنفسه من عطش إلى الحرب، توجهنا إلى مليلية، حيث أرهقَنا الأهالي والإسپانيون بالأسئلة عن نجاحاتنا. أبدى الضباط الرماة الإسپانيون اهتماماً خاصاً بنشاطنا، وطلبوا إلينا أن نقص عليهم ما فعلنا. ورغب كثير منهم في مرافقتنا، لولا أن امتنعت الحكومة، لأسباب سياسية، من الترخيص لهم بذلك. ولم يكن في وُسعِنا أن نعلَم مدى ما كان لطلقاتنا من الفعالية، رغم أن من أهل المركز التجاري من كان يأتي بانتظام إلى مليلية، فلقد منع الروغي بوحماره أنصارَه من التحدث في الأمر، وهدد المخالفين لأوامره بتغريمهم 50 دورو. ولم نتلق، في 18 فبراير، رداً على قصفنا للمركز التجاري ولمعسكر بوحمارة، مما أشعرنا بشيء من الاطمئنان. فلما باشرنا المعارك في 20 من الشهر نفسه، من دون أن نلقى رداً من البر، أصبحنا أكثر جراءة، بحيث صرنا نقترب أكثر فأكثر من الساحل، لكي تكون طلقاتنا أكثر فعالية. لكن ما كدنا نقترب من الساحل بنحو 3000 متر، حتى لاح، فجأة، لأبصارنا لمع كالبرق من البر، وبعد ذلك بقليل، أصابت طلقة من العدو الماء على مقربة من سفينتنا. وإذن فقد راقبنا خصومنا عن كثَب. لكنهم لم يكونوا، بكل يقين، من الأهالي، فليس الأهالي من الذكاء بحيث يلاحظون أن السفينة قد بلغت إلى حد الرمي، بل كانوا، بالأحرى، من الأوروپيين، الفرنسيين، الذين قدَّروا بدقة، تلك المسافة. ولقد أسرعنا، عندئذ، إلى التراجع ب 1000 متر. وما كدنا نتخذ طريقنا باتجاه مليلية، حتى شرع بن الطاهر في قصف جميع الضيعات والبيوت التي كنا نراها في متناول مدافعنا، غير أن ذلك القصف منا لم يسفِر عن كبير خسائر، إذ كانت الأهداف المتموقعة على الضفة من مار تشيكا شديدة البعد، بحيث تستحيل معها الدقة في التسديد. لكن سمعنا أن المتمردين كانوا في خوف شديد من ذلك القصف، وكان بن الطاهر يؤمل، بقصفه المتواصل لهم، والرعب الذي يبث في أنفسهم، أن يدفعهم إلى التخلِّي عن بوحمارة. في تلك الأيام، كانت بمليلية خمسة قوارب تابعة إلى المتمردين، كانت تتهيأ للانطلاق بما عليها من الحمولة، وكانت تبغي أن تنتظر حلول الليل ليتسنى لها الفرار في جنح الظلام، فلا نراها. وكانت تلك القوارب موجهة إلى الحسيمة، وكان يكفيها أن تبلغ إلى «رأس ثلث مداري»، لتكون في منأى عن الأنظار، ولقد لبثنا نراقب تلك القوارب ليل نهار. وفي زوال يوم 21 فبراير، عدنا إلى نقطة رسونا، وعندئذ لمحنا بعض الأشرعة البيضاء على مقربة من ساحل «رأس ثلث مداري». ولقد أخذنا في إبعاد تلك الزوارق، موقنين أنها للمتمردين. حتى إذا اقتربنا منها، تبين لنا أنها لصيادين إسپانيين كانوا يصطادون آمنين، وعندما كنا نستعد للتوجه نحو مليلية، إذ لمحنا، فجأة، زورقاً صغيراً في خليج صغير إلى أقصى الجهة الشمالية الشرقية من ذلك الرأس. وكان الزورق قد ألقى مرساته على مقربة من الساحل. ولقد لاحظت من هيئته أنه قارب ريفي، وعندئذ قرر ابن الطاهر الاستيلاء عليه، ولقد أخذت بالتسلل، في تؤدة وحذر، إلى الخليج، وأوقفت ذلك القارب، وأنزلت إلى الماء زورقنا الصغير. لكن لم يكن ببحارتنا رغبة بالنزول إلى القارب، مخافة أن يكون في ذلك حتفهم، فلئن كان الشاطئ يبدو خالياً مقفراً من أي شخص، فيمكن لبعض المتمرِّدين أن يكونوا مختفين خلف صخور الساحل، لحماية أموالهم عند الحاجة. وانتهى الأمر بأن نزل إلى القارب ثلاثة متطوعين، ومعهم سبعة جنود، كانوا، للغرابة، أقل خوفاً. ولقد بلغوا حتى إلى البر. وأرسلتُ بسفينة الإنقاذ الكبيرة لمساعدة أولئك المتطوعين، متى عجزوا عن تدبر الأمر بأنفسهم. وكان الظلمة تزداد حلكة، حتى لقد أصبح يتعذر علينا رؤية الزوارق. وفجأة سُمعت في كبد الظلام طلقات نارية، ثم عاد السكون المطبق. تقرَّيت الظلمة، فما استطعت تبيُّن شيء. ولبثنا لبضع دقائق، في قلق، خشية أن يسقط رجالنا بين أيدي المتمردين. وفي الأخير لمحت ثلاثة قوارب فوق سطح الماء، تقترب من سفينتنا. ثم سمعنا، من جديد، طقات نارية في الظلمة، وبلغت إلى مسامعنا، في الوقت نفسه، صيحة الحرب يطلقها بحارتنا المغاربة. وكان رجالنا يعلنون، بذلك، أنهم في أمان، وأنهم عائدون بغنيمة. ولقد اقتربت تلك حتى صارت بمحاذاة سفينتنا، وأخبرنا بحارتنا أنه ليس على الساحل غير الريفيين، الذين طردتْهم الطلقات المدفعية الأولى. ولقد أسرعنا بحمل الزوارق، وأخذنا في سحب القارب المغنوم. واتجهنا ناحية عجرود، فبلغناها في صباح اليوم الموالي، وهناك سلمنا غنيمتنا. لكن أثناء ذلك فرَّ من بين أيدينا أولئك الذين كانوا بغيتنا في الأصل. واستاء الإسپان أيما استياء لاستيلائنا على ذلك الزورق. ونشرت صحيفة «تلغراف الريف» بعض المقالات المعادية، أشد العداء، لنشاطنا. فقد رأى كتاب تلك المقالات أننا لو أردنا أن نحتجز كل ما تقع عليه أنظارنا من القوارب، لآل بنا الأمر، بمضي الوقت، إلى وقف كل تجارة مع مدينة مليلية. كما أثار أسلوبنا في العمَل قلق الحكومة المغربية وانشغالها، هي التي كانت تؤمِّل الحفاظ على علاقاتها الودية مع سكان المناطق المحيطة بالتراب الخاضع لإسپانيا. ولذلك أصدرت إلينا الحكومة المغربية أمرها بردِّ القارب المغنوم إلى صاحبه. لكن قوبل ذلك الأمر بالرفض من العجوز بن الطاهر، ولم تُجدني شيئاً محاولتي لرده إلى جادة الصواب. وكذلك كان لقصفنا للضيعات القريبة من الحدود الإسپانية الوقع السيء في نفوس أهل مليلية. ولقد أمرنا الجنرال، من أجل تهدئة النفوس، بأن نتلافى أي قصف لتلك النواحي إلا أن يكون على مسافة تتعدى ستة أميال بحرية من التراب الخاضع لإسپانيا. ولقد جُنَّ جنون بن الطاهر لدى تلقيه لهذا الأمر. لكنه لم يلبث أن استعاد هدوءه لما أخبرتُه أن من شأن ذلك أن يجعلنا نفيد من ضيافة مدينة مليلية، لكننا سنُطرَد منها لو لم نمتثل لتعليمات السلطات الإسپانية، وهي تعليمات معقولة. ثم إذا ببن الطاهر يأخذ شيئاً فشيئاً في استعادة حماسته، وأخذ يجد من نفسه شعوراً متزايداً بأنه هو سيد السفينة وسيِّد الجنود معاً! وإذا هو يبلغ من كل ذلك إلى تطبيق العقاب الجسدي لأول مرة على ظهر السفينة. والعقاب الجسدي ممارسة لازالت جارية في المغرب. فلقد أمر بن الطاهر بجلد أحد الجنود في سوء غير ذي بال اقترفه. ولقد انقلب ذلك الحادث مشهداً هزلياً. ففيما كان أحد الرجال يمسك برأس الجانح، الممدَّد على أرضية السفينة، ويمسك رجل آخر برجليه، كان «الجلاد» وهو أحد ضابطي الفرقة الصغيرة، ينزِل ضرباته بثنية سروال الجانح بطرف كبْل صغير. كانت ضربات الضابط شديدة حقاً، لكن لم يكن لها أن تؤلم الرجل شديد الألم، رغم ما كان يُصدِر من الصراخ الحاد. ولقد دفَع هذا الصراخ بالسيد الذي كان يجلس على سطح السفينة؛ حيث كان يجري تنفيذ الحكم، إلى وقف ذلك العقاب، ولم يكن الجانح تلقى غير ضربات معدودة. وفي اليوم نفسه، أُنزِل العقاب عينه بأحد العبيد السود. ولقد لبِث الرجل العجوز داخل خيمته فيما كان يجري تنفيذ الحكم في الخارج، بعيداً عن نظره. فأما الجندي الجانح فقد كانت الضربات تنزِل فوق ثنية سرواله، رغم أنه قد كان لذلك السروال الكثير من الثنيات، وأما العبد فقد تولى رجلان شدَّ طرفي سرواله، بحيث كانت الضربات تنزل فوق الثوب المشدود! غير أن العبد كان يصرخ من الحدة كأنما هم يسلخونه حياً. ولقد دخلت، في تلك الأثناء، إلى خيمة بن الطاهر، ونظرت إلى العجوز نظرة شزراء، وغمغمت ببعض الكلمات بلساني الألماني، وإذا هو يأمر، فور ذلك، بوقف العقاب. كانت سفينتنا مكتظة بالرجال؛ من بن الطاهر وجنوده. فقد كان منهم على متن السفينة 90 رجلاً. وكان جنود بن الطاهر يتألفون من 50 من المشاة، و20 من الرماة. وكان المشاة يتوزعون إلى مجموعة من الفصائل، وكانت كل فصيلة منها تأتمر بأوامر قايد خاص (أشبه بضابط الصف). وكان الرماة يأتمرون بأمر المعلم محمد. وكان جميع هؤلاء الرجال في جعجعة دائمة لا طحين من ورائها! ولم يكونوا يقومون بعمل دائم منتظم، إلا من المشاة الذين يقومون بتنظيف بنادقهم مرة في الأسبوع - إذا أُجبِروا على ذلك - فيما يقوم الرماة على مسح المدافع وتنظيفها بعد كل استعمال، فإن لم يفعلوا ذلك، كان عليهم أن يقوموا، في كل يوم وأثناء ما ينشب من «معارك»، بجلب الذخيرة وشحن البطاريات. غير أنه عمل يكفي عشرة رجال، أو أقل، للقيام به، مما يجعل طاقم المشاة برمته زائداً على الحاجة ولا نفع فيه. غير أن بن الطاهر لم يكن من هذا الرأي، فلم يكن يرى هذه الكثرة الزائدة في الجنود على ظهر السفينة، فإذا طلبت منه، في بعض الأحيان، أن يتخفَّف من النصف وزيادة من أولئك الرجال، كان يقابل طلبي بالرفض، متذرعاً بحاجته الماسة إليهم في عملية الإنزال المقبل. ولم أكن أجد بُداً من الإذعان لمشيئته، وأعتبر جميع أولئك المزعجين بمثابة شر لا مفر منه! لم يكن أولئك الجنود في الحقيقة بالرجال العدوانيين. ولقد أصبحنا لا ننزعج لوجودهم منذ أن كفوا عن القيام باستعراضهم المألوف فوق سطح السفينة لسبب وبدونه. ولم يكن لهؤلاء الجنود، بطبيعة الحال، أي حظ من التكوين العسكري، وما كانوا يشبهون الجنود بغير الهندام. فقد كانوا في ثلاث بدلات مختلفة. غير أنهم كانوا يرتدون كل ما يقع بين أيديهم، مما كان يجعل مجموعهم غير متناسق. وكانوا في ثياب واسعة وعريضة، إذ كانت أُعِدَّت على مقاسات رجال أقوى منهم وأسمن. غير أن حسنة هؤلاء الجنود الوحيدة في كونهم من الشبان مكيني البنية. كان الحنود يقيمون في ممر، قُسِّم إلى حجرات ضيقة، بواسطة الأخشاب التي يجود بها مد البحر، على نحو ما نجد في جميع السفن، بواسطة عصي، وأغطيتهم وأفرشتهم. وكان الرجال يعيشون في جماعات. وكانوا لا يولون كبير اهتمام للنظافة، فكانوا يتركون الفضلات مكوَّمة فوق الأرضية، لا يزيلونها إلا أن يُضطروا إلى ذلك بعد أن تصبح تلك الأزبال معرقلة لحركتهم. وهم يمضون بقية ووقتهم في الشرب، والأكل، والتدخين والثرثرة والنوم. ولا يبرحون أماكنهم إلا على مضض، وفي حالة الضرورة القصوى. وكان مكان الاحتكاك الوحيد بين الجنود والبحارة هو المطبخ. فلم يكن بالسفينة غير حجرة صغيرة شاغرة، تُستعمَل في إعداد الأكل للبحارة، والسائقين، والرماة، والمشاة، وضباط الصف، وبن الطاهر. وكان هؤلاء جميعاً يقومون على إعداد أكلهم بأنفسهم، وإنه لأمر معقد حقاً! فلم يكن مناص من أن تنشب عراكات بينهم، وسيظل الأمر على حاله إلى أن يتم إدخال بعض النظام على هذه الفوضى. كان العجوز، ورؤساء الرماة وضابطا الصف، شأننا نحن، قد أُعطيَت إليهم أوامر بأن يعتنوا بالسلامة الجسمانية لرؤسائهم. وفي مقابل ذلك كان لهم أن يأكلوا من الفتات الذي يفضل عنهم، ولقد كان فتاتاً هزيلاً مع بن الطاهر، الذي كان رجلاً بخيلاً. كما كان الطباخ الذي يقوم على إعداد طعامه رجلاً مغطى ببقع الزيت، ولم أكن أقبل، إلا على مضض، دعواته إليَّ، بين الفينة والأخرى، لمشاركته طعامه، فلم يكن للنظافة وجود في محيطه، وكان العبدان اللذان يقومان على خدمته من القذارة حداً لايطاق. لم يكن ليخطر ببال الجنود أن يُهَوُّوا حجراتهم، فلازال الوقت شتاء، ولازال الجو بارداً. ولقد واصلوا الحياة في حجورهم، رغم كل تحذيراتي إليهم من مغبة ذلك. فلم يكن بالشيء المفاجئ، والحالة هذه، أن يقع بينهم بعض المرضى. ولقد طلبت الإذن من مدينة مليلية بحمل الجنود المرضى إلى المستشفى، لكن لم يأذن لهم موظف المحجر بالنزول إلى البر، خشية أن يكونوا مصابين بمرض معدٍ. وزاد على ذلك بأن هدَّد بالحجر على السفينة كلها، ومنعها من كل نشاط تجاري، في حالة الإعلان عن وجود حالات مرض أخرى على متنها. ولقد استاء بن الطاهر أيما استياء من ذلك، وقرِّر، مكرهاً، أن يُنزِل جنود المشاة جميعاً في عجرود. وكان علينا، قبل الرحيل، أن نتزود بشيء من المؤن من مليلية. بيد أن الجنود لم يكن لهم، بسبب الأمراض، أن يطأوا البر، ولم يؤذن بذلك لغير البحارة والأوروپيين. بيد أن العجوز كان عاقداً العزم على أن يرسل بأحد خدامه ليقوم له ببعض الأشرية، فلقي مقاومة شديدة من البحارة، الذين منعت عنهم منهعاً باتاً أن يسمحوا للجنود بالرحيل. ولقد امتلأ العجوز سخطاً وحنقاً، فأعطى أمره بمعاقبة البحارة، وهو الأمر الذي قاموا عليه محتجين كرجل واحد، وسمعت الضجة، فأسرعت بالصعود إلى سطح السفينة. كان ابن الطاهر يصيح، في انزعاج، ويلوح بيديه، فيما كان رجالي الحيارى يقصون عليَّ ما جرى، فانحزت، بطبيعة الحال، إلى جانب رجالي، ومعه ابن الطاهر بصورة نهائية أن يعطيهم أوامر أو يعاقبهم، فهم لا يتبعون سواي، أنا القائد المسؤول للسفينة، ولن أتحمل أن يقوم شخص ثالث بعرقلة عملي. وحدث كذلك أثناء إنزال الجنود في عجرود، ما يشبه المشهد الفاصل في المسرحيات، مع بن الطاهر، بدا على ضابط الصف الطنجي أنه لم يكن يرى حاجة لأن يؤدي لهم أجرهم، ولربما كان يريد كذلك أن يأخذ معه إلى البر أجر الأيام الآتية للاستحواذ عليه. وباختصار فقد حدث هرج كبير. وفي الأخير أظهر ضابط الصف كيساً صغيراً مليئاً بالنقوذ، تناوله منه العجوز وهو يضحك في برود، ثم وضعه في جيبه! ثم كان نزول الجماعة إلى البر، ولم يلبث على متن السفينة غير 20 من الرماة، ولقد تم تنظيف قعر السفينة، ولم نعد نجد مُدافعةً في مدينة مليلية لاستئناف التجارة مع هذه المدينة. ولقد حقق نشاطنا القصير نجاحات لا يمكن إنكارها، على كثير من الأصعدة، ولاسيما منها التهريب الذي كان يشتغل به الفرنسيون في مار تشيكا؛ فلقد نجحنا في القضاء عملياً، على هذا التهريب، كما أصبحنا مصدر خوف كبير للمتمردين. ويمكن لوقف مفاجي لغاراتنا أن تنسف بسرعة ما حققنا من نجاح عابر، غير أن احتياطينا من الفحم كان في تناقص، مما حتَّم علينا التوجه إلى مدينة طنجة في طلب تموينات جديدة، ما دام أن جميع طلباتنا المكتوبة لكي يُرِسلوا إلينا بالفحم من هناك، بقيت بدون جواب. ولقد أبدى بن الطاهر، في البداية، بعض المقاومة لقراري، لكنه لم يلبث أن أذعن، عندما قمت بكتابة إقرار يعفيه من كل مسؤولية في هذا الأمر. تلا علينا بينير، ممثل الطريس، الذي كان وقتئذ، في الخزيرات، عندما كنا نهِم بالمغادرة، خطاباً من السلطان، يعبِّر لنا فيه عن امتنانه لما قمنا به من أعمال.