"كوباك" تدعم التلاميذ ب "حليب المدرسة"    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية 2025    مقتل 10 اشخاص في حريق بدار للمسنين في شمال شرقي لإسبانيا    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق            الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    ذكرى عودة محمد الخامس من المنفى: مناسبة لاستحضار أمجاد ملحمة بطولية في مسيرة الكفاح الوطني لنيل الاستقلال    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب    التحاق 707 أساتذة متدربين بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بدرعة-تافيلالت    كيوسك الجمعة | المغرب يسجل 8800 إصابة بسرطان الرئة سنويا        زيارة المسؤول الإيراني للمغرب.. هل هي خطوة نحو فتح باب التفاوض لإعادة العلاقات بين البلدين؟    10 قتلى جراء حريق بدار مسنين في إسبانيا        وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    النيابة العامة وتطبيق القانون    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    دراسة حديثة تكشف ارتفاعا كبيرا في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023        "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (8 )
نشر في بيان اليوم يوم 01 - 08 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
- 8 -
لقد ظل في مقدور الحكومة المغربية في السنوات الماضية، أن تجد كفايتَها من القمح والشعير لإطعام الجنود والدواب الداخلين في محلاتها، بفضل ما كانت تقبض من القبائل. وأما في الوقت الحاضر، فلم تعد هذه الحكومة تملك من السلطة على البلاد، ما تستطيع به أن تحصِّل شيئاً من تلك القبائل، وفضلاً عن ذلك، فإن ضعف المحاصيل، وعدمَ اقتناء الحكومة المغربية لما يكفي من القمح والشعير، قد حتم على هذه الأخيرة أن تتحول إلى الاستيراد من البلدان الأجنبية، لتغطية حاجياتها.
وقد كانت تشتري هذه المواد بكميات كبيرة بخاصة من فرنسا، وكان يتم تخزين تلك الحمولات في مدينة العرائش في انتظار نقلها إلى جهات المغرب.
ولقد استمر التفريغ طوال فصل الشتاء من عام 1904-1903، إلى أن أصبحت المخازن تضيق بما فيها، فتُرِكتْ بقية تلك الحمولات في العراء. ولقد كان الافتقار إلى المكان، مما اضطر إلى تكويم تلك المواد، حتى أصبحت، شيئاً فشيئاً، في ارتفاع بيت من أربعة طوابق.
وفصل الشتاء في المغرب فصل مطير، كثير الأمطار في معظم الأحيان، بعكس الصيف الذي يكون فصلاً جافاً على الدوام، لكن لم يرَ المسؤولون ضرورة لتغْطية هذا الركام الضخم من أكياس الطحين والحبوب بغطاء غير منفِذ، فتكفلت الشمس والأمطار بإفساد تلك المؤن الثمينة، فلقد بدأ الطحين في التحلل، حتى إذا انفتقت الأكياس حين نقَلها، انبعثت منها رائحة كريهة. غير أن الحكومة بقيت محتفظة بتلك المؤن، لم تر داعياً لإتلافها، وإنما السلطات في العرائش، على العكس من ذلك، كأنما هي تجهل جهلاً تاماً، بالضرر التي تمثله تلك المواد، فتم تحميلها على السفن إلى مدينة تطوان والحدود، لتكون مؤناً للرجال والدواب! فلم يكن يعني السلطاتِ المغربية أن تكون تلك المؤن قابلة، أو غير قابلة، للاستهلاك، بل كل ما كان يعني تلك السلطات في مدينة العرائش أن تنفِّذ الأوامر بنقل تلك المؤن في وقتها المضروب لها! فكانت تحسب أنها بذلك إنما تقوم بواجبها، ولم يكن ذلك بالأمر المستساغ عندنا، نحن الذين كانت تلك أولَ مرة، في مطلع العام 1904، ننقل فيها تلك الأكياس باتجاه مدينة تطوان وعجرود، فقد أبحرت السفينة تلفها ضبابة من رائحة كريهة، لم تتلاش إلا بعد لاي، بعد إفراغ ما حملت في جوفها من تلك المواد النتنة.
بلغنا إلى الحدود في 9 أبريل بتلك الحمولة الفاسدة، فبدا أن السلطات قد أخذت تتحرك قليلاً.
وكانت جيوش السلطان قد تقدمت حتى ملوية، ونصبت لها معسكراً على إحدى ضفتيه، على بعد حوالي 10 كيلومترات أعْلى النهر.
فقد كانت تبغي اجتياز النهر ومهاجمة أنصار بوحمارة. ولقد تعيَّن على سفينة «التركي» أن تدعم تلك العملية من البحر، بقصف قرى القبائل على الضفة الغربية من نهر مليلية، لإرغام سكان القرى القريبة من المحلة التي تساند الروغي، على العودة إلى بيوتهم لحماية أموالهم.
وباعتباري لست مغربياً و»كافراً»، فلم يكن يجوز لي أن أقتِّل المؤمنين، ولذلك لزِم إرسال أحد القياد إلى ظهر السفينة ليتولى القيادة ويدير أعمالنا الحربية.
ولقد رشَّح الركينة، الذي كان لا يزال يضطلع بالقيادة العليا، برغم ما تم اكتشافه من تجاوزاته، رشَّح القايد الحاج علال للقيام بتلك المهمة، ولقد صعد هذا الأخير إلى ظهر السفينة في يوم 13 أبريل، وأخذ، فور ذلك، في تهييء مكان له فيها.
وقد كنا، من قبل، أعدْنا ما كان بحوزتنا من المدافع إلى مدينة تطوان، ولذلك حملوا إلينا على ظهر السفينة مدفعاً قديماً من نوع «كروپ» ومدفعاً آخر من نوع «شنايدر»، من صنع أقرب عهداً، وعيار من 5،7 سنتيمتر.
ولقد نصبْنا المدفعين على الجانبين من طرف السفينة الأمامي، مثبِّتين العجلات والمراصد. واصطحب القايد معه حوالي عشرين من الرجال، ليقوموا على المدفعين، أو بالأحرى ليقوموا على خدمته الخاصة! ولقد اتخذوا لهم أماكن في الخلفية، فيما كان القايد الحاج علال يهيء له مركزاً له في المقدمة، وقد كان يود أن يقاسمني حجرتي، فكان ردي عليه بالرفض القاطع منذ أول تلميح منه بذلك، بحيث لم يجرؤ بعدئذ، على محادثتي في ذلك الأمر.
بدأْنا المسير، في إطار بعثاتنا الحربية، في يوم 14، على الساعة الرابعة صباحاً، فإذا طلع النهار كنا قد بلغنا مصب نهر ملوية؛ حيث يفرغ النهر مياهه العكرة في البحر، في صبغة بلون أصفر كدر.
لقد كان يوماً ماطراً، تعذرت معه الرؤية إلى الأرض، ثم بدا القايد بعينين ناعستين على سطح السفينة، محاولاً أن يستدل على الاتجاه. غير أنه لم يفلح، ولزمني، أولاً، أن أدله على المنطقة، إذ لم تكن له أي معرفة بأمور الجغرافيا، لقد كان القايد جاهلاً بالقراءة والكتابة، وكانت كل معرفته مقصورة على الحساب؛ لما فيه مصلحته! ولقد دللْته على مصب النهر، ناحية الحدود مع الجزائر، والجانب الذي لايزال تحت سيطرة بوحمارة. فأخذ يجول بعينيه في هذا الجانب، وما إن بدت له بعض المنازل الحمراء، المتوارية خلف الخضرة، حتى بادر بإعطاء أوامره إلى جنود المدفعية، الذين كان نصفهم قد صعد إلى ظهر السفينة، بالاستعداد للقصف، ثم شرعنا، حينئذ، من بُعْد 3000 متر، في قصف المزارع الهادئة القائمة في تلك الناحية.
ولقد اخترقت القذيفة الأولى الجوَّ الهادئ والمعتم، بُّوم! ثم انفجرت، بعض بضع دقائق، مصطدمة بالأرض، وموقظة السكان، على حين غرة، من نومهم، وأُطلِقت قذيفة ثانية، ثم ثالثة. حتى إذا استوفت القذائف عشراً، أمر القايد بوقف «القتال»!
لم يسفر قصفنا عن خسائر كثيرة، فإذا كان أن رمية قائد جنود المدفعية الذي يسددها بنفسه، تكون رميةً سديدة بلا جدال، فإن شروط النجاح كانت غير مساعدة، فالمدافع ذات العجلات كانت مثبتة على السفينة، بحيث لا تتأتى إدارتها إلا بإدارة السفينة كلها! ولا تسمح السفينة، دائماً، بتحريك أكثر من مدفع واحد، وإدارته في يُسر، ولذلك كان جندي المدفعية يخطئ اللحظة الملائمة للرمي، حتى وإن أفلح في تصويب فوهة المدفع نحو ما يبغي من الأهداف، فالسفينة تنحرف قبل أن يتمكن جندي المدفعية من الرمي، فتصدف رميته عن هدفها! وكان رئيس جنود المدفعية، ويُدعى المعلم محمَّد، يجيد إلقام المدافع.
وقد كان أمضى وقتاً طويلاً في ألمانيا، وهناك تعلَّم كيفية تشغيل المدافع.
ثم تلقينا الأمر من «رئيس العمليات» بالرُّسو لبعض الوقت، عند مصب نهر ملوية. وفجأة ظهر من الضفة الموالية لنا، بعض الرجال ملوِّحين بعلم أحمر.
وعندئذ أمر الحاج علال بعلم أحمر، وشرع يلوِّح به، ولقد أوضح لي أن تلك كانت إشارة من رئيس المحلة بالانضمام إلينا، غير أني أعتقد أنه لم تكن له أية معرفة بالإشارات.
فلما غادر الرجال تلك الضفة، انطلقنا نمخر عباب البحر باتجاه الجزر الجعفرية، القريبة جداً، فلما بلغناها ألقينا المرساة فيها، ولبثنا في مأمن بقية يومنا، وفي الصباح الباكر توجهنا إلى ساحل كبدانة، ومن هناك كان في إمكاننا أن نميز بوضوح، القرى المنتثرةَ فوق بسط خُضر من البساتين الممتدة في الجهة الشرقية من رأس الماء، وما إن أصبح الحاج علال على مسافة تسمح له ببلوغ الأهداف، حتى أعطى أوامره بالشروع في القصف.
كان النجاح هذه المرة، أكبر من المرة السابقة، ذلك أن الرجل الذي تسلَّم القيادة على السفينة كان خبيراً، وكان يمكِّن لجندي المدفعية من أن يسدد بأقصى دقة.
وأثناء ذلك كانت القذائف تسقط وسط القرى، كما تؤكد ذلك أعمدةُ الدخان المتصاعد إلى عنان السماء. غير أن الرجال في البر لم يلبثوا مكتوفي الأيدي. فقد فتحوا، من مخابئهم خلف الأدغال والصخور، ناراً كثيفة على سفينتنا، لكن من دون أن يلحِقوا بنا ضرراً كبيراً، إذ لم تكن بنادقهم بالتي يصل مداها إلينا، بحكم بعد المسافة بيننا، غير أني رأيت الرصاص يصل حتى حوالي عشرة أمتار من السفينة، وفور ذلك تملك الهلع جنودَنا الأشداء.
فإذا هم يهرولون فزعين للاختباء وراء المتراس، بين منبطح ومقرفص! وقد بذلت قصارى جهدي عبثاً لأقنعهم بأن لا خوف عليهم من رصاص العدو، لكن شدة خوفهم كانت تغلق أذهانهم عن أي تعقل.
نسيت أن أشير إلى أننا كنا قد حملنا معنا، على متن السفينة، مدفعاً رشاشاً من نوعية قديمة جداً، لا يُعبَّأ آلياً، ويُشغَّل بواسطة مقود. ولقد صوبناه جهة مخابئ المتمردين، وسرعان ما أخرسْنا بنادقهم. وفي نفس الوقت استمر الرمي بالمدفعيْن. وفجأة إذا بمدفع كروپ يتفتت، فلقد انفصلت عنه إحدى عجلاته، فيما كان يطلق النار، وإذا هو يتفكك إلى قطع، ومن حسن الحظ أن لم يُصَبْ أحد من الجنود على متن السفينة.
وعندئذ أمر القايد علال بوقف إطلاق النار. ثم توجهنا ناحية مليلية؛ حيث تمت إصلاح بعض الخسائر التي لحقت مُعدَّاتنا.
استمر قصفنا للساحل خلال الأيام الموالية. فأحرزنا، في ذلك، بعض النجاح، فلقد انضمت قبيلة برج أولاد الحاج، الواقعة في ناحية رأس الماء حتى نهر ملوية، إلى جانب السلطان، غير أن القايد لم يحسن المعاملة لأنصار السلطان الجدد، فقد طالبهم، في بادئ الأمر، ببعض الحملان وبكمية من البيض، غير أن ذلك لم يكفه، ثم عاد يطالبهم بالمزيد، ويهددهم عليه. فكان الأهالي يجأرون بعوزهم، وأنهم ما عادوا يملكون شيئاً، مما أفقد القايد صبره، فأمر باعتقال أربعة رجال من القبيلة كانوا على متن قارب، وحملهم إلى ظهر السفينة، وأعلن أنهم سجناء، وأمر بالاستيلاء على قاربهم. وعبثاً ظل أولئك السجناء، وهم بين 18 و20 سنة، يتوسلون القايدَ لإطلاق سراحهم، ولقد تحتم عليهم أن يمكثوا على ظهر السفينة لبضعة أيام. حتى إذا جاء أهل القبيلة إلى القايد بأكثر مما أعطوهم، أول مرة، من المؤونة، أفرج عن معتقَليه، غير أنه لم يكن قد اكتفى تماماً بتلك الفدية، ولذلك ظل محتفظاً بالقارب المذكور. ولقد صدرت عن صاحب القارب بعض التهديدات، لكنها ظلت من دون جدوى، فلقد سُلِب المسكين قاربه. وبعدئذ، حمل الحاج علال معه ذلك القارب إلى قصبة السعيدية حيث لبث هناك إلى أن نخَر وتلف، إذ لم يهتم به أحد.
وفي واحدة من بعثاتنا، رأينا على الشاطئ سفينة متمردة راسية، قد وعليها حمولة كثيرة. كانت قريبة جداً من الشاطئ. فلما اقتربنا، إذا الركاب الركاب قد أسرعوا بالارتماء في الماء، والاحتماء وراء الكثبان الرملية؛ فقد كانوا يعرفوننا جبداً، نحن وما نريد بهم، لم يبدوا من عداء، وإنما أخذوا، على العكس، يلوحون من مخابئهم بعلم أبيض، علامة استسلام. غير أنه لم يكن ليمنع القايد أن يقصفهم ومركبهم، وإن لم يلحق بهم من أضرار. وقد كان بوسع الحاج علال أن يستولي على مركبهم، لكن كان يلزمه أن يركب إليه قارباً من القوارب التي على السفينة، فقد كان الماء شديد الضحالة، بما لا يلائم السفينة.
ولم يكن بين البحارة من أراد أن يخاطر بحياته، فقد كانوا يخشون، وهم محقون، ألا يسلم أصحاب المركب مركبهم بهدوء، ولا يقصفون الطاقم وهو من غير حماية. فرفضوا الإذعان لأوامر القايد، أو أوامري، وأرعد الحاج علال وأزبد، لكن لم يبدر منهم حركة. وحتى لقد هددهم بأن يبلغ عنهم الوزارة في طنجة، فلم يجده التهديد فتيلاً، وقال أحد الرجال، في مكر : «إن مضيت، مضينا معك». وما كان القايد بالراغب في ذلك فتركنا المركب، وواصلنا مسيرنا.
كان من المنتظر مجيء ملك إسپانيا في فاتح ماي إلى مليلية. فكانت الأشغال على قدم وساق لإقامة أبواب التشريف، وتزيين المدينة. الجميع في حركة وهياج عارمين. ولم يكن القايد علال يرغب في أن يفوت الفرصة لرؤية ألفونس الثالث، بيد أننا ذهبنا، أولاً، إلى عجرود؛ حيث كانت لي محادثات في مرات عدة، مع الأمين ومع السيد ساي أيضاً. كان الاثنان يريان معاً، أن القصف الذي نقوم به لم يكن له جدوى. فلن نفلح به في إخصاع قبائل راس الما. ولم يكون للقصف يقع على أهل كبدانة، فيقوض بعض بيوتهم، أن يمنعهم من البقاء إلى جانب محلة الروغي، متى رأوا أننا لا نقدر على النزول. فقد كان أكثر ما يهم أن لا يجتاز رجال السلطان الوادي، ولا ينفذوا إلى أراضيهم. وكان الأمين يعتقد أن الحاج علال هو المستفيد الوحيد من بعثاتنا الحربية، فقد كان، أثناء مقامه على السفينة، يقبض في كل يوم أجراً زائداً بعشرة دوروات. ولقد أصاب هذا الرجل الجريء، لكن غاب عنه أن يشير إلى أن القايد كان يقوم، زيادة على ذلك، ببعض المعاملات بما بيديه من أجور الرجال. غير أن الموظفين المغاربة كانوا لا يحبون الحديث في هذا الأمر، ففي هذا الباب، لا تجد بينهم من يده نظيفة.
واتفق لي، خلال تلك النهارات، أن التقيت، بالصدفة، لدى السيد ساي رجلاً عربياً من الجزائر، أمدنا بتفاصيل غريبة عن الحالة التي كانت عليها محلة السلطان المعسكرة على ضفاف ملوية. فقد كانت القائمون على المحلة لا يزالون يعزون عدم قدرة الجنود على اجتياز النهر إلى ارتفاع منسوب الماء، وأما الأهالي فيقولون إن الجنود الألفين (2000) كان معهم ما يزيد عن ثمانمائة (800) من البنات، فلذلك هم يمتنعون عن الدخول إلى أراضي العدو!
فلما فرغ القايد من إنجاز مهمته المزعومة، وعاد إلى ركوب السفينة، رحلنا، في عشية الزيارة التي سيقوم بها ملك إسپانيا إلى مليلية، قاصدين مكان الاحتفال. وقد سبق لي أن قلت إن رئيس الرماة كان يقوم بالعناية جيداً بالمدافع. فلما أنزِلت إلى البر، لم تعد تلقى تلك الصيانة، فهذا أفقدها البراغي التي تشد واقية الوجه والمقود في مدافع كروپ. فصرنا كلما سددنا بالمدفع، لزمنا أن نزيل الواقية والمقود، وإلا تراجع المدفع، حين الرمي، فطار في وجه الرامي، وأطار به من على السفينة. وكذلك اتبعنا الحيلة نفسها عدنا نكرر التحية للقرى على ساحل كبدانة ببعض الكرات. فقد سدد المعلم محمد رميته، فيما كان المدفعي يتهيأ لرفع المقود، صاح الرامي بالأمر أن أطلق النار. وعلى الرغم من أن الحسين قد صاح أن انتظر لحظة، فإن الرجل صاح بأعلى صوته : «دابا!» (الآن). وانطلقت الرمية، وسقط الحسين جاثياً على ركبتيه، وقد انخرقت يده. كانت لحظة مخيفة. ففيما عدا الإبهام والسبابة المقطعين، المدميين وعظمة الخنصر، فإن الأصابع الأخرى ولحم راحة اليد قد أطارت بها الطلقة. وعلى رغم الألم الشديد الذي استولى على المسكين،لم يكن يصدح بشكوى، وإنما كان يهمهم : «الحمد لله! الحمد لله!». وقد ضمدنا له يده، وأسرعنا صوب مليلية؛ حيث أدخِل، في مساء ذلك اليوم، المستشفى العسكري. لكن لم يكن يكن بد من بتر ما تبقى من يده، والسلاميات المنسحقة. وقد أصبح اليوم عاجزاً.
وفي حوالي الساعة 9 من صباح اليوم الموالي، دخل ملك إسپانيا ميناء مليلية على متن يخت، تخفره الطرادة كاردينال سيسنيروس. وتلك كانت بداية يوم من الاحتفالات في هذه المدينة العسكرية. الناس ههنا، لا يزالون شديدي الوفاء للملكية، أمرٌ لاشك أن الملك لاحظه، فعندما هم بالرحيل في المساء، في خضم من هتاف الحشود، إذ وقف على السفينة، ولوح بقبعته في غبطة وفرح. وشعر المغاربة ببعض الإهانة، إذ أنه لم يستقبل واحداً منهم، وربما دلنا هذا الأمر على رغبة مليلية في مداراة عبد العزيز والروغي معاً.
كأني بالحاج علال كان يعتقد أن بإمكانه أن يظل يتجول بسفينتنا، مستمتعاً وساعياً وراء الثروة. ولقد انتشلته في هدوء من هذا الحلم، بأن أخبرته أننا سنتوجه، عن قريب، إلى طنجة لنركب هناك مدخنة جديدة، ذلك بأن الأنبوب القديم قد صدأ تماماً، خلال تلك السنوات، ويوشك أن يسقط في أي لحظة. وقد أرسِل في طلب واحد جديد من أنجلترا، وقد كان يومها جاهزاً في طنجة في انتظار أن نركِّبه. فلما أخبرت العجوز، في أواخر شهر ماي، بأن رحلته على متن السفينة ينبغي أن تتوقف، إذا به كأنما جُن جنونه، فلم أكن، ولا الميكانيكي، بقادر على تحمل مسؤولية الأمن على السفينة طالما بقيت المدخنة العتيقة، دون أن تُستبدَل. استولى عليه الحنق، طلبت منه أن يكتب تصريحاً يعلن فيه مسؤوليته عن السفينة، فبدون ذلك لن أستطيع الاستمرار، وحينئذ، اتهمني والميكانيكي بأننا إنما نريد العودة إلى طنجة سعياً وراء مبلغ مالي عظيم نغنمه من المدخونة الجديدة. فرددت عليه قولي إن الحنق من ضياع الدوروات العشرة التي يغنهما في اليوم، هو وحده الذي يمكنه أن يدفعه إلى التفوه بذلك الكلام الشائن.
وانصرفت عنه. ومع ذلك، فتلك الفترة الزاهية على الحاج علال كانت ستنتهي ولو من غير ذلك الشجار، فقد وردت علينا برقية تدعونا إلى التوجه إلى طنجة.
رافقنا الحاج علال إلى طنجة ليطلب إلى الطريس أن يجعل السفينة رهن تصرفه. لكن لم يكتب له الحظ، فقد تلقاه الطريس ببرود شديد، وبدا عليه الاستغراب أن يتخلى عن مهمته كقايد لقصبة السعيدية من غير ترخيص من المخزن.
ولا شك أننا قد انتبهنا في طنجة إلى أن رحلتنا الحربية كانت مكلفة جداً، لكن من غير نتائج ذات بال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.