مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (6)
نشر في بيان اليوم يوم 29 - 07 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
- 6 -
لم يقتصر الأمر في تلك الفترة على تمرد بوحمارة، وما كان يخلق من مصاعب للمخزن، بل انضاف إليه تمرد الريسوني، الذي ظهر، هو الآخر، في صورة مثيرة للقلق.
وتلك من خاصيات الضعف الذي كانت تعاني منه الحكومة المغربية، في عجزها عن نشر الهدوء والأمن في الشمال الشرقي من المملكة، على مقربة من مدينة طنجة.
والمدعو (الريسوني) أو الريسولي الذي أصبح ذائع الصيت، رجل كأنما خُلِق للصوصية وقطع الطرق.
وقد كان سبق له في سنوات تسعينيات القرن التاسع عشر أن عاش الحياة الحرة للمهرِّب في الشمال الشرقي من المغرب، إلى أن أمكن لعامل مدينة طنجة النشيط عبد الرحمان ولد الصدوق، أن يلقي القبض عليه، ويرسله إلى سجن مدينة الصويرة.
ولم يكن في الإمكان قتله بسبب ما اقترف من الجرائم، بحكم انحداره من أسرة جليلة القدر، كان الأهالي يعتبرونها فوق العقاب.
ولقد مكث الريسوني في السجن مدة سنتين تقريباً، ثم أُخليَ سبيله، ولقد كان ذلك خطأً جسيماً. فلقد تدخَّل العجوز الطريس، الذي ينحدر، هو نفسه، من نفس بلاد الريسوني، تطوان، لدى السلطان لصالحه، وهو خطأ سيندم عنه الطريس بعدئذ، شديد الندم.
استقل الريسولي في عام 1901 سفينة «التركي» متوجهاً من مدينة الصويرة إلى مدينة طنجة.
ولقد مكث يومين كاملين رفقتي، ولم يترك لديَّ الانطباع، يومئذ، بأنه رئيس لقطَّاع الطرق، فلقد كان ذا وجه صبوح، وكان يُعرف بالاستقامة، ذا سحنة صافية، وشعر رأسه ولحيته بالغ السواد. وكان ذا هيأة طويلة ونحيلة، وقد كان البحارة يعتبرونه شريفاً من الشرفاء، فكانوا يخشونه أيما خشية، ولو لم يكن بعضهم قد حدثني عن الإنجازات الإجرامية لهذا اللص، لما كان ليخطر ببالي أنني كنت إزاء رجل من هذه الطينة.
فلما بلغنا مدينة طنجة، توجه الريسوني إلى الجبال، ولم يكد يمضي وقت يسير حتى أصبح اسمه على كل لسان.
فقد كانت عصابته في تنام وازدياد، وكانت نجاحاته تزيده جرأة فوق جرأة، حتى لقد انتهى الأمر بجميع قبائل مثلث طنجة - تطوان - العرائش تقريباً، إلى الانضمام إلى صفوفه، مما استحالت معه طرق القوافل كلها إلى مسارات خطِرة، ينعدم فيها الأمن.
وفي الأيام الأخيرة من شهر أبريل من عام 1903، قام الريسوني بمحاصرة مدينة أرْصيلا، وهي مدينة صغيرة تقوم وسطاً بين رأس سپارطيل والعرائش.
ولقد أثار هناك من الذعر حداً بلغ إلى إرسال سفينة شراعية صغيرة إلى مدينة طنجة لطلب العون والنجدة.
ولقد كان اليهود أكثر المستهدَفين في مدينة أصيلة بتعديات الريسوني.
ولقد أرسلوا يتوسلون إلى أبناء جلدتهم من الطنجيين يلتمسون منهم التعجيل بإرسال المساعدة.
بيد أن السلطات المغربية بقيت جامدة، لم تحرك ساكناً، ووحدها ضغوط اليهود مكنت من التسريع بالأمور.
وكان العائق الأول أن الجنود الموجهين لتحرير مدينة أصيلة رفضوا أن يبدأوا في المسير إلا أن يقبضوا مؤخرات رواتبهم.
ولقد أعطاهم اليهود تقدمات من تلك المؤخرات. ومن سوء الحظ أن ساءت أحوال المناخ، مما حال دون تحرير المدينة المهددة من طريق البحر.
لم يتسن لنا أن ننطلق إلى مدينة أصيلة إلا في 2 ماي، محملين من المؤن والعتاد الحربي، وفي نفس الوقت وصلت الجيوش من طريق البر. وفي حوالي الزوال اقتربوا من المدينة، فكنا نستدل على تقدمهم من الدخان الذي كان يعلو من القرى التي كانوا ينهبونها في طريقهم، ويحولونها إلى رماد.
وسرعان ما رأيناهم يخترقون السهول، ويقتحمون المدينة، ولقد ذهلت مدينة أصيلة لذلك، وبرغم كل جهودي، فإنني لم أر أثراً للعدو، فمن المحتمل أن يكون فر قبل وصولِنا ووصول الجنود.
في تلك الأثناء وصلتنا أصداء مقلِقة من مدينة تطوان، فقد أصبحت المدينة واقعة تحت تهديدات الريسوني، ورفاقه من أنجرة وبن إيدر، ولقد سبق لي أن قلت إن مدينة تطوان هي مسقط رأس الوزير الطريس، ولذلك فقد خُصَّت بمساعدات سخية في تلك الأوقات العصيبة.
ولقد سلمنا الحبوب والأموال والذخيرة في 10 ماي، إلى الجنود المرابطين في المدينة، فكان الرجال يخرجون من القوارب الصغيرة مسلحين تسليحاً قوياً، مما يوحي بخطورة الوضع في المدينة.
ولقد تعزز لدي هذا الانطباع بمجيء مولاي عرفة من نمور إلى تطوان لمساعدة حامية المدينة بجنوده، ثم لم يلبث أن اندس في السفينة، للالتجاء إلى مدينة طنجة.
ولقد بداً عليلاً، قد اشتد عليه المرض، وانسحب متعللاً بأسباب صحية، ثم كانت وفاته بعد ذلك بقليل.
وفي طريق مغادرتنا إلى مدينة طنجة، إذ رأينا تصاعد الدخان من نواحي المدينة، وسمعنا طلقات رصاص متفرقة. ويبدو أن المتمردين بدأوا هجومهم على المدينة.
ولقد حملنا من طنجة، في اليوم الموالي، حوالي 200 من الرجال للاستبدال.
ولقد حكوا لنا عن معركة وحشية، تم فيها القضاء على المتمردين بعد أن دمروا كل شيء في المدينة، وأتلفوا البساتين الجميلة حول المدينة.
وقد كان هذا القول، كذلك، من المبالغات التي انشرت كبير الانتشار في المغرب. والحال أنني أمكنني فور ذلك، أن أقف على الواقع بنفسي، فكانت المناطق الخضراء لا تزال على تألقها، إلا من أشجار البرتقال التي تعرضت للإحراق.
تواصلت إمداداتنا لمدينة تطوان، وكانت تلك الإمدادات تتكون، في معظمها، من العتاد الحربي، والأموال، والذخيرة والمؤن.
كما كنا نحمل إلى المدينة، في كل رحلة تقريباً، ما بين 100 و200 من الرجال ودوابهم.
ولقد أوكِلتْ قيادة الجنود إلى القايد البشير، الذي تم طرده من فرخانة، وإلى رفيقه السابق في النكبة مولاي الأمراني. ولقد أمكن بوصولهما، في منتصف شهر ماي، أن يستتب الهدوء والأمن داخل المدينة وفي نواحيها القريبة.
وعلى الرغم من أن تطوان معدودة بين مراسي المغرب، فهي لا تقوم على البحر مباشرة، بل تبعد عنه بحوالي 10 كيلومترات ومرسى مارتيل، الذي تمر من خلاله التجارة البحرية، يقع على بعد 30 كيلومتراً إلى الجنوب من المستعمرة الإسپانية سبتة وتجارة السفن مع البر تجرى هنا على نحو ما هي في سائر المدن الساحلية المغربية، بواسطة القوارب التي تعود إلى الحكومة، والتي يمكنها الإبحار في مصب الوادي.
المنطقة التي بين تطوان ومارتيل أرض منبسطة تماماً، وفي خلفيتها تنتصب الجبال مشكلة ما يشبه نصف دائرة، وعندد سفوحها يمتد سهل شديد الخصوبة، لكن لا يعرف نشاطاً فلاحياً ذا بال، بسبب إهمال السكان.
ومدينة تطوان، التي تُرى أسوارها البيضاء واضحة للعيان من الشاطئ، هي من أجمل الأماكن في المغرب. والمدينة تقوم فوق ربوة هينة السفوح، تقوم في سفوحها بساتين خصبة ممرعة، تتخللها بيوت صغيرة بيضاء وتحف بها من جوانب ثلاثة جبال عالية تصعد في البداية بهدوء، وتنتهي في الأعلى بجرُف وعرة وقرعاء.
وكثيراً ما سنحت لي الفرصة لزيارة هذه المدينة، فكنت أغتنمها اغتناماً سعد بها كثيراً. ويكون رفيقي دائماً الترجمان الحاج محمد بومغيث، فكنا نركب جوادين ضامرين عجوزين، يبدو أنهما لا يعرفان غير السير، فنمضي ساعات غير قليلة نقطع خلالها مسافة 10 كيلومترات، للوصول إلى تطوان.
وفي كل مرة أزور المدينة، تأخذ بجماع نفسي.
فما اقتربت منها إلا ازدادت جمالاً في ناظري. على جانبي الطريق تمتد بساتين من ورود بيوت صغيرة، إلى أن نبلغ باب المدينة، ثم ندخلها. ونسير نسلك دروباً ضيقة، إلى أن نأتي إلى السوق، وهو ساحة فسيحة تقوم وسط المدينة. وهناك نعيد دوابنا إلى أصحابها، لكي تقوى على حملنا حين الرجوع، وثم أمر يستثيرني كلما نزلت بهذه المدينة، فهي وإن تكن غنية، وبين ساكنتها موظفون سامون لدى السلطان، إلا أنها توجد في حال سيئة حقاً، فطرقاتها تفتقر إلى النظافة، وهي ضيقة تعمها الفوضى، وقليلة جداً، وبينها السيئة التبليط.
البيوت متنافرة الأشكال، من غير أن تصبغ بالجير. بل إنك لترى القصور المغربية الأكثر تميزاً، تلك القصور التي تذكرنا، من وجوه عدة، بقصر الحمراء في غرناطة، بهيئتها الموريسكية الغنية، تلوح، في مظهرها الخارجي، قبيحة وسخة ويمثل الحي، الملاح اليهودي استثناء صارخاً.
لكن لا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن اليهود لا يمكنهم أن يسكنوا في غير الملاح، فإن لهم، ههنا، كما في سائر المدن الساحلية، في ما خلا الرباط وسلا، أن يشتروا ويبتنوا لهم مساكن حيثما شاءوا من المدينة، وفي خارج القصبة.
وفي المدينة حي صناعي خاص، قد جعِل للصناعة البيتية بطبيعة الحال.
وقد جعِل لكل حرفة زقاقها الخاص بها، فمن الأزقة ما هو مخصص لصناعة البلغ وحدها، ومنها المقتصر بها على صناعة الجلد، تليها المخصصة للدباغة، والحدادة، وصناعة البنادق، وسواها.
ويؤوي كل صانع إلى دكان صغير، ذي باب وحيدة تطل على الزقاق، مفتوحة على الدوام. ومن هناك يمكننا رؤيتهم وهم يعملون. ومعظم هذه الأزقة مغطى بأشجار العنب، لتقيها أشعة الشمس، فهذا مما يشعر المتجول فيها بالمتعة والنداوة ومن عجيب أن هذا الحي، وما يعج به من حرف، يكون، هادئاً، فيجتذبني إليه اجتذاباً.
ولا ينبغي أن تفوتنا الإشارة، كذلك، إلى القصبة، التي، كشأنها في سائر المدن المغربية المشيدة فوق هضاب، تقوم شامخة تعلو على ما سواها. وإن كثيراً من تلك الحوائط البيضاء المتينة يلوح للمرء من أسفل، منذراً متوعداً، بيد أنه إنذار ليس له من أساس، فليس للقصبة من دور عسكري. وعدا ذلك، فالحوائط ليست بالمتينة جداً، في ما عدا بعض المدافع البالية قد نصبت إلى بعض الكوى، والتي أصبح معظمها غير قابل للاستعمال، ولو أريدَ تعبئة لقم تلك المدافع، فإن مخاطرها على الرماة ستكون أكثر منها على العدو.
وقد كنت في كل زيارة لي إلى هذه الناحية، أذهب لزيارة القايد البشير ومولاي الأمراني، إن كلاً منهما يسكن بيتاً من أجمل البيوت، وقد كنت أتبادل والقايد البشير الحديث في شأن الوضع السياسي، فكانت تصدر عنه بعض الأحكام التي أستنتج منها عدم رضاه عن السلطان ومستشاريه. في منتصف شهر ماي من عام 1903، تناهى إلى علمنا أن مراسل صحيفة «التايمز»، هاريس، قد تعرض للاختطاف من لدن الريسولي، وأن هذا الأخير أطلق سراحه، مقابل الإفراج عن جميع أتباعه.
وكان الناس يتهامسون أنهم شاهدوا هاريس والريسوني متدثِّرين بغطاء.
وقد كان البشير يأسف لهذا الحادث لما يخشى من أن يُغري المتمردين باختطاف المسيحيين، لتحرير رفاقهم السجناء، وهذا مما سيمدُّ من عمر التمرد. كما كان يشغله أن المتمردين كانوا أفضل تسليحاً من جنود السلطان، ذلك أنه تم القبض على أحد الرجال من قبيلة أنجرة فوجِدتْ معه بندقية عصرية، من قبيل ما يستعمله المشاة الألمانيون، من نوعية 88، وقد أراني إياها القايد.
وأما جنود السلطان فلم يكونوا يملكون غير بنادق قديمة من نوعية شاسپو تعود إلى سنة 1873، كان معظمها في حالة سيئة.
وعلمت بهذه المناسبة، أن البنادق العصرية التي كان يستعملها المتمردون كانت تمر إليهم بطريق التهريب من الإسپان.
يقدر عدد الجنود الذين قمنا بحملهم، في مجموعات كبيرة نسبياً، من طنجة إلى تطوان، بما بين 12000 و 15000 رجل، ولولا أنهم صعدوا إلى السفينة بصفة الجنود، لكان من الصعب علينا أن نعرف أنهم كذلك، فلم يكن لهم «زي» يميزهم، غير الطربوش الأحمر المدبب المعتاد لدى الجنود المغاربة.
وفيما عدا ذلك، كانوا يلبسون حسبما يشتهون، أو حسبما تسعفهم إمكانياتهم، ولم نصادف غير مجموعة واحدة ارتقت السفينة في أزياء حقيقية. فقد كان أفرادها يرتدون بذلاً حمراء، غير ملائمة، ذات ثنيات صفراء وأزرار مذهبة، وسراوييل زرقاء واسعة تنتهي عند ركبهم.
وكان هؤلاء الرجال، كسائر الجنود المغاربة، يجعلون على الدوام، فوق ثيابهم جلباباً بيضاء حائلة، فلا ترى أزياؤهم.
ولا نميز لدى هؤلاء الجنود من قادة، فكأن الرؤساء ليس لهم من سلطان عليهم، إذ كان يقع على بحارتي حفظ النظام على متن السفينة.
فكنا كلما ركبوا وإيانا نجردهم من أسلحتهم، ونجعلها في صناديق خاصة أو في الرزم. وكانوا سرعان ما يتخذون أماكنهم على ظهر السفينة. فندرك على الفور أننا بإزاء شعب رحال، حيثما جُعل شعر كأنه في بيته.
وكانوا إذ هم على السطح، يتجمعون في مجموعات صغيرة بين الصناديق والرزم، المكومة، بجوار جيادهم.
وكانوا يمدون حصراً يتمددون عليها، أو يجلسون متربعين، ثم يأخذون في تسخين الماء لإعداد الشاي على مجامير صغيرة يحملونها وإياهم.
فقد كان الشاي والزيتون والخبز تكاد تكون هي طعامهم الوحيد طوال الرحلة.
والذين على الجسر يتقون الشمس والمطر بأن يجعلوا عليهم ثياباً بالية، أو خياماً وأقمشة، يصير بها الجسر أشبه ما يكون بمخيم.
كان الرؤساء يطالبون بأماكن جيدة، فنهيئها لهم على السطح الخلفي.
وقد أسمح، أحياناً، لبعض الموظفين الكبار بالجلوس في مقصورتي.
وأما من سواهم فيكون عليهم أن يبحثوا عن مكان فوق الجسر.
وكذلك كان الرؤساء سريعاً ما يتخذوا هناك أماكنهم، فيجعلون من يخدمهم من الرجال، غير عابئين بشيء.
فلم يكن يتميزهم شيءٌ عن رجالهم، إلا سنهم المتقدمة وجلابة أكثر نظافة، وكذا بخناجير صغيرة معقوفة في أغماد من فضة، يعلقونها إلى أعناقهم بخيوط طويلة من الحرير.
كان أولئك المقاتلون رجالاً من شتى الأعمار، أصغرهم لا يكادون يبلغون الرابعة عشرة، وأكبرهم في الخمسين، ومن شتى ألوان البشرة. ويبدو أن المسؤولين لم يولوا وقت تجنيدهم من اهتمام إلى القوة الجسمانية، لأن كثيرين بينهم كانوا في حالة مزرية.
ومع أن الجنود لم يكن لهم أي علم بالنظام، فلم يكن من الصعب اقتيادهم، وقليلاً ما كانت تحدث مشاجرات لرفضهم الإذعان لقانون السفينة، وقد كانوا في عمومهم قذرين جداً، وكانوا مبتلين بالهوام، فكنت كثيراً ما أرى رجلاً قد انزوى في ركن، وجعل يفلي القمل، أو أرى أحدهم قد جعل رأسه بين ركبتي صاحبه، ليفيله له.
وكان يُدفع إلينا في بعض الأحيان، إذ نحن في تطوان أو طنجة، بسجناء الحرب. فيكونون مكبلين بحلقة حدديدية تُثبت في العراقيب وبين القدمين يُجعل قضيب حديدي بطول حوالي 30 ستنتمترا. فبذلك لا يكون وسع أولئك التعساء أن يقوموا بغير خطوات دائرية صغيرة، وبين أولئك السحناء الذين يُقال لنا، دائماً، إنهم متمردون، كنا نرى تعساء مساكين، فكنت أشك في أن الرؤساء إنما يقبضون على رجال مسالمين تماماً لمجرد التباهي أمام السلطة، ولكي يثبتوا حماستهم للسلطان. وعموماً، فإن أولئك المساكين يكونون ملفوفين في جلابيب، بعد أن يكون الجنود المرافقون لهم قد جرّدوهم من كل ثياب، وما معهم من متاع.
اضطُرَّت هذه الاضطرابات أعداداً كبيرة من التطوانيين إلى مغادرة المدينة، وكانت سفينتنا تكاد تمتلئ في كل رحلة من هؤلاء اللاجئين، فقد كانت السلطات تأذن لهم باستعمال هذه السفينة، ومن عجيب أن أعداد المهاجرين منهم للمدينة لم تتناقص حتى عندما أخذت الأوضاع بها في التحسن، وإنما على العكس من ذلك، فقد تزايدت أعداد الفارين من المدينة للنجاة بأنفسهم.
وكانوا، فضلاً عن ذلك، يحملون معهم أهم أغراضهم، وقد أكثرهم يحملون معهم على ظهر السفينة صناديق يزعمو أنها تخص الطريس أو أسرته، ويطلبون منا الاعتناء بها. وسرعان ما تبيَّنت أن أولئك المسافرين لم يكونوا باللاجئين، وإنما هم مجرد تجار يستعماون سفينة «التركي» وسيلة للنقل زهيدة السعر في ما يقومون به من تجارة مربحة ما بين مدينة طنجة.
كما أن الصناديق والعلب التي كانت تُحمَّل في السفينة باسم الطريس إنما كانت تعود إلى خواص يزعمون أنها لطريس ليضمنوا لها المعاملة الحسنة. وحيث كانت بعض البواخر الخاصة التي كانت تقوم برحلاتها ما بين مدينتي طنجة وتطوان، فلم يكن من داع لحمل تلك السلع على متن سفينة حكومية، قد كنا نحرم تلك السفن الخاصة بعض مداخيلها، غير أن الطريس رجل تطواني، وهذا يكفي، فالمغرب بلد المحسوبية. وكل شخص متنفذ يسعى ليخص بالامتيازات أقرباءه، ثم أصدقاءه ومعارفه، وفي الأخير أهل مدينته. وكل بائس أو مسكين يرى من الطبيعي أن يفيد من أقربائه المتنفِّذين، وأصدقائه والفلاحين الأقرب إليه.
وقبل أن نعود إلى استئناف رحلاتنا الاعتيادية باتجاه مدينة تطوان، كنا شهوداً على واقعة «حربية» مميزة للحروب المغربية.
فقد حدث أن أرسل بوحمارة بأحد خلفائه إلى ناحية تطوان ليبث الفتنة ويؤلب سكان تلك النواحي ويجمعهم على الروغي.
وفي 11 يوليوز، سمعت الحديث، لأول مرة، عن وجود هذا الخليفة الذي قيل إنه نصب خيمته في أحد الأودية على ساحل البحر، يبعد بمسير ساعتين تقريباً إلى الجنوب من مدينة تطوان. ولقد حكى لنا بحارة تطوان، على سبيل التهويل، في اليوم الموالي، أن قبائل جنوب تطوان قد انحازت إلى جانب بوحمارة، وإن المدينة تبدو في وضع سيء. وحتى العلاقة بين تطوان ومرتيل كان يُقال إنها أصبحت مهددة. والواقع أن المتمردين لم يحرِّكوا ساكنا.
لذلك قرر مولاي الأمراني أن يخرج في طلب العدو.
وفي 15 يوليوز، نحو العاشرة صباحاً، رأينا إلى الجنوب من مكان رسوِّنا دخاناً يتعالى من القرى المحرَّقة، وتناهى إلى أسماعنا بعض طلقات الرصاص.
وفي الزوال جاءنا الأمر بالتوجه ناحية الجنوب وقنبلته.
كان الوادي الواقع إلى الجنوب من رأس مازارين، حيث يوجد ما يمكن أن نسميه معسكراً، يوحي بالأمن.
وتمتد من وراء ذلك الوادي قرية كبيرة تحيط بها حقول خضراء يانعة الخضرة.
وفي منخفض مجاورة للشاطئ، غيضة مزهرة. فلم نجد بداً من العودة، في حوالي الساعة الثالثة، إلى مارتيل.
وأثناء ذلك كان الجنود ممعنين في قنبلة الناحية الجنوبية.
وأصبحت أعمدة الدخان المتصاعدة إلى عنان السماء أكثر فأكثر ضخامة، لكن توقفت طقطقات الرصاص، مما يوحي بأن الجنود شرعوا، حينئذ، في نهب بيوت تلك الناحية.
وسرعان ما رأيناهم يقتادون قطعاناً كبيرة من الماعز والأبقار، على طول الشاطئ، باتجاه مرتيل، لجعلها في مأمن على الضفة الأخرى من الوادي.
وهذا يعني أن هذا اليوم كان يوماً مثمراً على الجنود، ولم نفلح في ثنْي رجالنا عن الإسراع بالنزول إلى البر ليحوزوا نصيباً من تلك الغنيمة. لكن حتى أولئك منهم الذين لم يجشموا أنفسهم ذلك العناء توصلوا بنصيبهم من تلك الغنيمة. ففي مساء ذلك اليوم أرسل إلينا القايد على متن السفينة بخروفين و11دجاجة، 100 بيضة، 12 قالباً من السكر، و3علب من الشاي، و10 علب من الشمع، وكيس من الخبز.
مرت تلك «الحملة» من غير إراقة كبيرة للدماء، وبدا أنها إنما كان الهدف منها استكمال الإمدادات وتشجيع الجنود. وبعد ذلك علِمت أن سكان القرى التي تعرضت للنهب والإحراق كانوا عزلاً تماماً من أية حماية، وأنهم بقوا على ولائهم للسلطان. والواقع أن خليفة بوحمارة كان قد علِم، في الوقت المناسب، بما كان مولاي الأمراني يدبِّر للسطو على أمواله، ولذلك لاذ بالفرار. ولقد بلغ الحنق بالأمير لفشلان مخطَّطه، أن أمر بنهب القرى، متهماً السكان بالتجسس لفائدة ذلك الخليفة، وإيوائهم له.
ولم يكن معظم «الحروب» في المغرب، يخرج عن مثل هذه المناوشات. فقد كان الجنود قلة، وغالباً ما كانوا يتلقَّون رواتبهم بصورة غير منتظمة. وكان السلطان يعاني كثيراً في سبيل إيجاد جنود، إن هو لم يرخِّص لهم، في بعض الأحيان، بغنم كل ما ينهبون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.