المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
نشر في بيان اليوم يوم 24 - 07 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
- 2 -
لزمنا في صيف عام 1900، أن ننقل من مدينة الجديدة إلى عجرود جنوداً موجَّهين إلى محلة وجدة. وقد أخبرونا أن علينا نقل 1500 رجل في رحلة واحدة على متن السفينة الصغيرة ! فاحتججت على الأمر لدى القائد، فكان رده، بواسطة ترجمانه، أن في إمكاني أن أكوِّمهم كيفما اتفق، فما هم غير دهماء من القراء والمعتوهين! ومن حسن الحظ أنه لم يكد يمضي وقت يسر حتى فرَّ أكثرهم، ولم يتبقَّ من ال 1500 غير 600، وبذلك أمكننا أن ننقلهم على متن السفينة. ولم تكن بالحمولة المريحة، فالرجال كانوا قليلي نظافة، وكانت تنبعث منهم روائح كريهة. ولكم سعدنا أن أنزلنا أولئك المقاتلين في المكان الذي كانوا يقصدونه. وقد كانت السفينة بعدهم في حالة مريعة ، لكن المضخة البخارية القوية أتت على تلك القذارة.
وفي خريف العام نفسه تلقيت الأمر بالعودة إلى مدينة الصويرة لحمل المؤونة إلى مدينة طرفاية. وقد مر، يومئذ، نحو عام، على وفاة الصدر الأعظم باحماد، الذي ظل، حتى وفاته، يتحكم في زمام الأمور في المغرب بيد من حديد. وأصبح يحكم البلادَ يومذاك السلطان الشاب مولاي عبد العزيز، الذي لم يكن قد أتمَّ بعدُ، العشرين، وقد كان غراً عديم الخبرة والتجربة. فسرعان ما اختل النظام الذي ظل سائداً أرجاء المغرب على عهد سلفه. وقد كنتُ، إلى ذلك الحين، قليل الاهتمام بشؤون السياسة، لكن كان يرغِّبني فيها ما صرت أسمع منذئذ من حديث الناس عن السقوط الوشيك للبلاد. وقد كان السلطان يقيم في مدينة مراكش. وكان وحكومته عاجزين، وكان رعاياه أنفسهم، يؤكدون أن ما يجري في العاصمة كان شيئاً من قبيل الغرابات. وبدأتْ تصل الأصداء المقلقة عن تقدم الفرنسيين. وقيل إنهم بدأوا يزحفون على تافيلالت. وقد كان خرج أربعة فرنسيين من السينغال في حراسة من بعض الأهالي، يقصدون المغرب لتحديد نطاق المصالح الفرنسية، فتم أسرهم، فيما كانوا يهمون باختراق التراب المغربي. ولقد تم قتل مرافقيهم. وكان ذلك الحادث مثارَ الكثير من الجدال. ولقد تم في المقام الأول، تدارس مسألة التقسيم، وهو مشروع لم يجد الإقبال، رغم أنه قد أصبح من العسير القيام بالأعمال بفعل ما أصبح يسود المغربَ من انعدام الأمن. وأخذت الآراء تتباين في شأن مستقبل البلاد. ففيما كان البعض يعتقد أن الأحوال ستظل على ما هي عليه كان آخرون يعتقدون بحتمية وقوع انهيار شامل في المستقبل القريب. لكن الجميع كانوا متفقين على أمر واحد : أن القوى الأجنبية لن تقبل بأن تكون الهيمنة في المغرب لفرنسا، وأنها ستضع مع الزمن، حداً لأطماعها التوسعية في المغرب. وقد كان يُستنتَج من كل ذلك أن الأحوال كانت سيئة في المغرب. ومع ذلك فقد بقي المغاربة على معاملتهم الودية للأوروپيين.
كان فصل الشتاء يقترب، وهذا ينذر بأن ميناء الصويرة سيصير خطيراً في الأوقات الماطرة. فكنت أحرص على الانتهاء من عملي فيه بأسرع ما في الإمكان، لكي أستطيع العودة إلى الشمال. فلما أشعرت الأمين الأعلى، بعد وصولي، قال لي بهدوء شديد إن السفينة قد عملت كثيراً في تلك الآونة الأخيرة، وأننا لا بد مجهدون. وعليه، فقد كان يلزمنا، أولاً، أن نخلد إلى الراحة، ونستعيد قوانا، استعداداً للرحلة المقبلة. لم يكن في الأمر ما يدعو إلى الاستعجال، فالمغربي لا يتعجل قط. ف»العجلة من الشيطان»، يقول المثل العربي. وإذا كان الأوروپي لا يمتلك الهدوء اللازم في مثل تلك الظروف. ومن حسن حظي أني كنت هادئاً وصبوراً معاً.
وعليه، فقد لبثنا منتظرين طيلة أسابيع، إذ لم يكن قد تم بعْدُ، إعداد الحمولة التي يتعيَّن علينا نقلها. ولم يكن كل محتوى تلك الحمولة من المؤن الموجهة إلى الحامية الصغيرة المرابطة في طرفاية، بل اشتملت تلك الحمولة، كذلك، على كمية كبيرة من الأموال كانت موجَّهة إلى الأمير الصحراوي الشيخ ماء العينين. وقد كان هذا الأخير رئيساً جليل القدر، لم تكن منطقته بالبعيدة جداً عن طرفاية، وهو يشكل أقرب جوار للمغرب مع الجنوب. وقد كان سلاطين المغرب يطرون الشيخ ماء العينين لكبير نفوذه. وكان الشيخ يقوم على رأس كل سنتين برحلة، على حساب المغرب، إلى بلاطي مراكش وفاس، وكان يعود إلى موطنه محملاً بوافر الهدايا. وقد كانت هذه الرحلة تستغرق وقتاً طويلاً، إذ كان الشيخ لايسافر إلا براً، مما يجعل سفره يستغرق أحياناً، ستة شهور. كما أن زيارته للبلاط المغربي كانت تستغرق شهراً على أقل تقدير، بما يعني أنه لايقضي غير خمسة شهور من كل عام في منطقته. وقد كان السلاطين من جانبهم يفيدون من علاقتهم بالشيخ في حذق ومهارة. ولذلك فقد أصبحوا أصدقاء للأمراء المتنفذين على حدود مملكتهم. فقد كانوا يعتمدون على مساعداتهم في حماية مملكتهم من الهجومات الخارجية وفي القضاء على الفتن والتمردات.
كانت الهدايا المقدمة إلى الشيخ ماء العينين تتكوَّن ، في عمومها، من المواد التي تغلها الأرض، وهي تتكون، في معظمها، من الشعير الذي يُتَّخَذ في الصحراء طعاماً للماشية، كما يُتَّخذ منه الخبز. كما كان الشيخ يتلقى، فضلاً عن ذلك، بعض الحلاوي المغربية، وبعض الأدوات والزرابي. وكان يم تعليب هذه الهدايا، وتُجعَل على ظهور الدواب.
ولا مراء في أن الشيخ أخبر، في زيارته الأخيرة، السلطانَ وهو يستقبله في قصره، بنيته في بناء قصر جديد له هو الآخر في واحته. ولذلك قدِّمت له، في هذه المرة، جميع أنواع مواد البناء : من أخشاب، وألواح الزجاج، وجبص وجير، إلخ، وبعد أسابيع كثيرة أمضاها في ضيافة السلطان، تم إرسال كل تلك المواد إليه على متن سفينة «التركي».
استقل السفينة معنا، حوالي 100 رجل من رجال الشيخ، وهم الذين رافقوا الشيخ في رحلته في المغرب، فكانوا يتولوَّن، على ظهر السفينة، حراسة تلك الهدايا.
كان رجال الشيخ ماء العينين، شأنهم شأن سائر أبناء الصحراء، الذين يعيشون في مدينة طرفاية، كل لباسهم من الأُزر الزرق، يلفون بها أجسادهم، على نحو غريب، وكأنما هم يشتركون في نفس الخوف من الماء. وتبدو جلودهم، هم الآخرين، ضاربةَ اللون إلى الزرقة.
كان أولئك «الرجال الزرق» يمارسون حياتهم على متن السفينة، في صورة أشبه بالمغاربة. فهم، كذلك، مسلمون، فكانوا يطيعون الفروض نفسها، ما تعلق بالوضوء قبل الصلاة. ومن المعروف أن في الصحراء يندر الماء كثيراً. فلكي لا يخلوا الوضوء الذي يأمر به القرآن، يتناولون حجراً صغيراً أملس أشبه ما يكون بقطعة صابون؛ فيمررونه على أذرعهم، وأعناقهم ورقابهم. وضوء رمزي؛ ولا يبدو أن الله يرفضه. وقد كان هؤلاء القذرون من شدة خشيتهم للماء، أن كانوا يقتصرون على ذلك الوضوء الجاف، وقد توفر لهم ما يكفي من الماء، وجعِل رهن تصرفهم. لقد كانوا كارهين للنظافة، إذ كان بحارتي إذا أكرهوهم على التغوط رأساً في البحر، بدل أن يلوثوا السطح كله، كانوا يقابلونه بغضب شديد، ويثورون عليهم، ما اضطُر الضابط الأول أن يظل يتنقل إلى نهاية تلك الرحلة بمسدس معبإ لا يفارقه. غير أنه لم يكد يستعمل ذلك السلاح. فالرجال الزرق إذا ترثكوا لقذارتهم في سلام، لا تراهم إلا هادئين جداً، وفي قرارة أنفسهم مسالمين، برغم المظهر المقلق الذي يسبغه عليهم اللثام يخفي جباههم وأفواههم. لقد كانوا شديدي إهمال للنظافة، حتى إنهم لا يتورعون أن يقبلوا على الأكل في الآنية النحاسية التي يكونون قد بالوا وتغوطوا فيها.
وقد أنزلناهم في كاپ جوبي.
كان الجير معبأً في «سيرونات». وهي أكياس تُتَّخذ من الخيط. ثم شرع بعض العمَّال في إنزاله إلى البر، يحملونه فوق ظهورهم. ثم اتفق أن ابتلت تلك الأكياس بفعل ما نالها من رشاش البحر، وبلغ الماء إلى الجير، فإذا هو قد أخذ يحرق ظهور الرجال، فأخذوا يُسقِطونه في الماء، صارخين من الألم. وعلى هذا النحو ذاب الجير كله. وأشك في أنه سينفع الشيخَ في شيء مما إراده به، وهو على حالته تلك. وكانت ألواح الخشب بطول 14 قدماً، فتم تقطيعها، حتى يتسنى حملها على ظهور الجمال، بحيث ما عاد ذلك الخشب صالحاً لغير الحرق، ولم يعد ممكناً أن تُشيَّد منه غير حجرات للكلاب!
ولقد بقينا نعمل في فصل الشتاء في تحميل المؤن إلى مدينة طرفاية وعَرابينِ الصداقة إلى الشيخ ماء العينين. وفي شهور الصيف نحمل التموينات إلى المحلة المرابطة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وحده تمرد بوحمارة الذي انفجر بعدئذ، أعاق رحلتَنا المعتادة إلى مدينة طرفاية، وجعل على كواهلنا الكثير من العمل في المناطق المتمردة.
وأود، قبل مغادرتي لمدينة طرفاية، أن أذكر لكم رجلاً يعتبَر مثالاً واضحاً عن قلة الاهتمام الذي يوليه المغاربة للتكوين الثقافي والعقلي. وأريد بكلامي هذا، رجلاً يُدعى سيدي الحسين. فلقد درس سيدي الحسين، ورفيقين اثنين له، في ألمانيا، طيلة سنوات، وتلقى تكويناً في الهندسة. وبدلاً من أن يُعهَد إليه بمنصب يناسب معارفه، إذا هو يُرسَل إلى مدينة طرفاية، ليعمل هناك ترجماناً. ولم أفهم، أبداً ماذا عسى هذا الرجل أن يفعل في تلك المنطقة. فقد كان لبواخر الحكومة ترجماناتها الخاصون بها. ولو اتفق أن رمت الأقدار بسفينة من السفن إلى هذه المنطقة، فلن يكون لسيدي الحسين من فائدة إلا أن تكون تلك السفينة ألمانية. وكان الرجل المسكين يتلقى أجراً قوامه 15 دورو في الشهر، ويكون، بذلك، قد حُكِم عليه بأن يظل متبطلاً لايفعل شيئاً في تلك المنطقة الأشد فراغاً وإمحالاً من بلاده. فكان الرجل يتعايش مع مصيره، بتلك القدرية التي جُبِل عليها المسلمون، ويحيا تلك الحياة التعيسة التي لم تبذِّل من بشاشته أو تفسد مزاجه الأميل إلى الدعابة. ولقد كان يبذل ما في وسعه لأجل أن يجعل إقامتنا في تلك المنطقة إقامة سائغة. وكان ذلك شغله الوحيد طوال السنة.
تلقيت الأمر، في خريف عام 1901، أثناء رحلة عودتي من الصويرة باتجاه مدينة طنجة، بالتعريج على مدينة الجديدة لأنقل من هناك حمولة إلى مدينة العرائش. وقد كنت خلال إقامتي السابقة في مدينة الجديدة رأيت سفينة بخارية أنجليزية تُنزِل في قارب محلي صندوقاً كبيراً. ولقد بقي ذلك الصندوق رابضاً هناك. وكنت كثيراً ما أراه. وعندما وصلت إلى مدينة الجديدة علِمت أن ذلك الصندوق، فضلاً عن نقَّالة بخارية، هي الحمولة التي عليَّ أن أنقلها إلى مدينة العرائش. وقد كان ذلك الصندوق الكبير يحتوي على درَّاسة تزن 5000 كيوغرام، فيما تزن النقالة البخارية 4000 كيلوغرام. وحملنا على متن السفنة، كذلك، عدداً من الصناديق الصغيرة. وجميع هذه البضائع طلبها ماك لين؛ وهو ضابط أنجليزي في خدمة السلطان. وهي تتألف من معدات كهربائية، ومغاطس من الرخام، وبيانات، وآلات تصوير، إلخ.
كانت هذه الحمولة أول دليل ملموس لدي على التأثير الذي كان يقع على السلطان الغر عديم التجربة من مستشاريه الدهاة الماكرين. فبدلاً من يعتنوا بإعداده ليجعلوا منه سلطاناً محنكاً وعصرياً، وهو أمر لم يكن بالمتعذر، لأن كل من عاشر مولاي عبد العزيز يشهد له بالذكاء والتعطش إلى المعرفة والتعلم، بدلاً من ذلك كانوا يجعلونه يصرف وقته في اللعب بمجسَّم آلة من الآلات العصرية. وكان المكلفون، من بين مستخدمي السلطان، باقتناء هذه الأشياء يفيدون من ذلك أكبرَ الفوائد، وإذا هم قد أصبحوا من ذوي الثراء الفاحش. وكان الوزراء غير مهتمين بغير مصالحهم ومصالح أقربائهم، غير آبهين لمصير البلاد. وكانت المحسوبية أمراً متفشياً في المغرب، فكان أسوأ الأوغاد يبلغون إلى أعلى المناصب إذا كانوا ممن يجيدون التملق لكبار موظفي الدولة، أو كانوا من أقربائهم. ومن أمثلة ما نقول الوزير الجبار السابق المنبهي الذي كان مجرد سائس، وسرعان ما ارتقى إلى منصب وزير الحربية، وقد كان له صديق كان يعمل مجرد سائس، وسرعان ما سما به إلى منصب عامل لمدينة الصويرة. وقد كان هذا العامل يرفع من مداخيله بما كان يفرض من الضرائب على الدعارة. فقد كان يأخذ عن الفتيات الجميلات 5 دوروات في الأسبوع، وعن الأقل جمالاً منهن دورو ونصفاً. وبذلك كان يحصِّل مدخولاً يصل إلى حوالي 500 دورو في الشهر الواحد. وقد كان السجن على عهده ممتلئاً في معظم الأحيان، كما كانت الدية عن المعتقلين الجدد مبلغاً لا يُستهان به.
لم يكن الشعب بالغافل عن هذا السير السيء للأمور في المغرب. وسرعان ما أخذ يغمغم بذلك. فقد أخذ يلوم السلطان بإنفاقه للبمالغ الطائلة على لهوه بتلك الآلة العصرية، وبكرهه للمؤمنين، وبعدم انشغاله بصالح البلاد. لكن كان أعظم الشرور في نظر الشعب، أن السلطان كان يقبِل على التصوُّر، وتمثيل الإنسان أمر يمنعه القرآن منعاً باتاً، وكون السلطان نفسه يقبل على التصوير، يحمل على نعته بالمسيحي.
والمرجَّح أن السطان لم يُبلَّغ بما كان من نقمة الشعب عليه، وإلا لكان ذلك قد حمله ذلك، بما كان يتصف به من الذكاء، على التحول عن سيرته تلك.
ولقد حملْنا تلك اللعبة إلى مدينة العرائش، وأنزلناها على رصيف المرسى. ولايزال ذلك الصندوق والدرَّاسة جاثمين هناك إلى يومنا هذا! فقد كانت حمولة ثقيلة جداً، بما يتعذر نقلها إلى مدينة فاس. ولقد تم وضع القاطرة على عجلات تجرها البغال والثيران إلى داخل البلاد. بيد أن الموكب لم يمض بعيداً في طريقه، إذ كثير التوقف بسبب من مصالح الجمارك.
وعلاوة على ذلك كان يوم يشهد موت بعض ثيران الجر. ولم تكن ميتاتها بالطبيعية، وإنما كانت ميتات عنيفة. فقد كان السائقون يقتلونها، ويَطعَمون لحمها، ويبيعون منه ما يفيض عن حاجتهم. وكانوا، بعدئذ، يطلبون تزويدهم بثيران جديدة. وشيئاً فشيئاً أخذ نقل تلك اللعبة يصبح مكلفاً جداً، بحيث تم التخلي عنه، وتم ترك تلك الآلة على بعد ساعات من المسير من مدينة العرائش. ثم جاءت قبائل تلك الناحية، فاستولت على كل ما يمكن تفكيكه وحمله من أجزاء النقالة البخارية؛ كالصنابير الصفر، وأنابيب النحاس، وأبواب المواقد، إلخ. بينما تم نقل الصناديق المحتوية على الأشياء الصغيرة إلى مدينة فاس، ولا تزال ترقد هناك، قد أُهمِل جلها، وتُرِك عرضة للتلف.
وأما سفينتنا فلم تعد يجدي فيها شيئاً عمليات التنظيف التي كانت تخضع لها في مدينة العرائش. وأصبحت في حاجة ماسة إلى الترميم. غير أن كل طلباتنا إلى المخزن في هذا الشأن بقيت من غير مفعول. ولذلك طلبْت إلى الوزير الألماني، البارون مينتسينغن، أن يتدخل لدى البلاط الألماني، من أجل الالتفات إلى تلك السفينة، لإرسالها إلى أوروپا لإخضاعها للترميم اللاَّزم. فكان جواب الوزير أن الترميم يقع على الحكومة المغربية وحدها، ولذلك فهو لايعنيه من قريب ولا من بعيد. ولقد أوضحْت له أن في بقاء السفينة على حالها تهديداً لأرواح جميع المواطنين الألمان العاملين على متنها. ولذلك قبِل، في نهاية الأمر، أن يتكفل بترميم سفينة «التركي». ولأجل ذلك كان خروجنا إلى جبل طارق، ولقد استغرقت أعمال الترميم أربعة أشهر كاملة، بسبب بطء العمل في المشغل البحري لجبل طارق.
ولقد ازداد امتعاض المغاربة من السلطان لما كان مستمراً فيه من اقتناء شتى أنواع اللعب النادرة. بل لقد بلغ منه الأمر أن كان يجيز للنساء من حريمه أن يركبن الدراجات الهوائية. وكان آخر تجاوزات السلطان ما بدر منه حين مقتل الراهب الأنجليزي كووپر في شتاء 1903-1902. فلقد اقتص مولاي عبد العزيز للأنجليزيين من القاتل على وجه السرعة. وطفح، بذلك، الكيل. فقد سرت الشائعات في أوساط الشعب أن السلطان أمر بالبحث عن القاتل، ولو داخل أكبر مكان مقدس في مدينة فاس؛ ذلك هو مسجد مولاي ادريس، وهو مكان يحظى فيه جميع المؤمنين بالحماية، حتى أكثرهم إجراماً. ولقداعتُبِر اقتحام ذلك المكان عملاً شنيعاً حتى من السطان نفسه. ولقد علِمت، بعدئذ، أن هذه الصيغة من الحكاية لم تكن موافقة للحقيقة، غير أن الشعب صدَّقها. فقد كان يعتبر السلطان مسيحياً قادراً على كل شيء.
وفي تلك الأجواء اندلع تمرد بوحمارة. ولقد اجتمع لديَّ بعض التواريخ في شأن شخصية المدعو بوحمارة وأصله، من دون أن يكون في مقدوري أن أتثبَّت من صحة هذه وتلك، لأن الأهالي قليلاً ما يتفقون في تقدير الزمن، وكذلك يكون شأنهم في تقدير المسافات والأرقام. ويكاد لايوجد بين المغاربة من يعرف السن الذي كان فيه بوحمارة.
الاسم الحقيقي لبوحمارة هو الجيلالي بن عبد السلام الزرهوني (نسبة إلى زرهون). كان مولده في قبيلة أولاد يوسف، في جبال زرهون، وهناك تلقى تعليمه. ودخل، في شبابه، في خدمة مولاي علي الكومي؛ رئيس موسيقيِّي السلطان. ثم أصبح مخزنياً لدى مولاي محمد، في زمن كان فيه هذا الأخير خليفةً لوالده؛ السلطان مولاي الحسن. ثم كان تعرضه للحبس من أبي محمد؛ الخليفة السابق على مدينة طنجة. وأُطلِق سراحه، بعدئذ، فالتحق بالعمل لدى المنبهي. وعلى أَثَر وفاة باحماد تم تسريح الجيلالي الزرهوني من جديد، مما ملأ قلبه غلاً ومرارة. وفي ذلك الوقت كان السلطان الشاب مولاي عبد العزيز يقيم في بلاطه مدينة مراكش.
ويُحكى أن الجيلالي الزرهوني تقدم إلى الجمارك في مدينة الجديدة برسالة مزورة يزعم أنها من السطان، بها أمرٌ بتسليم حاملها 400 دورو. حتى إذا تسلَّم ذلك المبلغ، فرَّ إلى تلمسان في الجزائر. لكن تلك السرقة لم تمنعه من العودة إلى فاس، والتوجه منها إلى وهران، مروراً بمدينة طنجة.
وفي شتاء عام 1902، خرج الزرهوني (بوحمارة) متوجهاً إلى مدينة فاس؛ حيث كان السلطان قد نفَّذ، في تلك الأثناء، حكم الإعدام في قاتل الراهب الإسپاني. ولم يخطر ببال أحد أن الزرهوني كانت له، قبلئذ، مشاريع طموحة، والأمر الوحيد المؤكد أنه كان يغذي حقداً دفيناً على السلطان ومستشاريه الخُرْق. ولقد بلغ به ذلك الحقد إلى الإتيان بمشروع مغامر للاستيلاء على العرش. ولقد مس الشعب في نقطة حساسة؛ مشاعره الدينية. ثم صار الزرهوني يتنقل ممتطياً حمارته «كانيسة»، ملقياً الخطابات عن صداقة السلطان للأجانب، وعن قدرة القوى المسيحية في البلاط المغربي، وعجز الموظفين. ولكي يزيد من الأهمية لنفسه، فقد زعم للشعب أنه هو مولاي محمد، شقيق السلطان، وأنه إنما جاء لوضع حد للحالة المحزنة التي أصبحت عليها البلاد. ولكي يخفي اسمه الأصلي، تكنَّى باسم بوحمارة، لأنه كان يستعمل هذا الحيوان مطية له. ولايزال يعيش بنفس الاسم في التقاليد الشعبية. ولقد اجتمعت له حشود من الأتباع، مؤمنين به إيماناً أعمى. وهكذا بدأ ذلك التمرد الرهيب، الذي أدى، بالإضافة إلى دسائس الفرنسيين، إلى نسف البلاد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.