منذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأ الاهتمام بأحوال المغرب السياسية، هو المنفلت إلى حدود تلك الحقبة من براثن الاستعمار، يعم الأسبوعيات الفرنسية المصورة الموجهة إلى أوساط واسعة من القراء. وقد تزامن هذا الاهتمام مع أطماع الدول العظمى، ومن بينها فرنسا، في اقتسام الكعكة المغربية التي كانت تبدو حينها، لتلك القوى، قابلة للهيمنة والسيطرة. في هذه السلسلة التي نقترحها على قراء «الاتحاد الأسبوعي»، سنقدم كل سبت ترجمة طبق مختار من مقالات تلك الأسبوعيات والملاحق المصورة لأكثر الجرائد الفرنسية انتشارا أيامها، علما أن هذه العناوين كانت تفصح بكل جلاء عن ميولاتها الاستعمارية، وتدافع عن أن تكون الكعكة المغربية من نصيب باريس. ملحق لوبوتي جورنال المصور (18 نونبر 1893 - العدد: 156): مصرع الجنرال الإسباني مارغالو لا نعاني بمفردنا من صعوبات في مستعمراتنا. فإسبانيا، التي تحتل موقعا مهما قبالة جبل طارق في ساحل إفريقيا، تجد نفسها في مواجهة مشاكل جدية. لقد هاجمت القبائل الاستقلالية (الريفية) أراضيها بقوات جد كبيرة وعتاد جد متطور، ما جعل الوضع يتسم بخطورة قصوى على الفور. عم أسى عميق إسبانيا. وكما جرت العادة بذلك، أطلق الجاهلون بحقيقة الأوضاع العنان لألسنتهم لتعبر عن أفكارهم الذاتية. من يكون إذن هؤلاء الأعداء المستحيل القضاء عليهم؟ إنهم مجرد حفنة من المتوحشين تستطيع كتيبة وحيدة أن تشتت شملهم عن طريق ضربات من صفحات سيوفها. إن أكلة اليخنة الإسبانية المرتاحين هؤلاء، الذين يظلون راقدين في هدوء تحت أشعة الشمس بينما يحارب الآخرون، يجهلون أن المتوحشين المعنيين لا يحصون ولا يعدون، وأنهم محاربون شجعان، مسلحون ببنادق ومدافع من آخر طراز حصلوا عليها في ظروف يبدو أنه من السابق لأوانه الإلحاح عليها الآن. وكيفما كان الحال، فقد أثرت أقاويلهم في الجنود الإسبانيين البواسل المكلفين بالدفاع عن شرف علمهم الوطني في الخارج، فأمر القائد العسكري لمليلية (الجنرال خوسي مارغالو) رجاله بالقيام بحملة عسكرية خارج المدينة، حملة غير حذرة أدت إلى مصرعه وسط جنوده. من المؤكد أن الإسبانيين سيهزمون في المدى البعيد أعداءهم القدامى، العرب الذين انتصروا عليهم في الماضي؛ لكن من يستطيع التكهن بالمدة التي ستستغرقها المواجهة، وبتكلفتها البشرية والمالية؟ لا يمكننا إهمال ما يجري في المغرب، إذ تقتضي مصلحتنا إخضاع هذه العصابات التي تغتال مستكشفينا وتزعج حدودنا الجزائرية. أما الإنجليز، فهم لا يرغبون إطلاقا في نفس الأمر. وبما أنهم يسيطرون على جبل طارق، فإن حلولهم محل الإسبانيين في الضفة المقابلة سيجعلهم يغلقون المتوسط في وجه ملاحتنا، وذلك إلى أن نقرر ? أخيرا - حفر قناة تربط بين البحرين. ويتم الحديث كذلك، في نفس الموضوع، عن قوة عظمى أخرى لم تنس بعد نهائيا قضية باخرة كارولين (الولاياتالمتحدةالأمريكية - م). وبالنسبة لنا، وبعد التعبير عن تقديرنا للجنرال مارغالو الذي سقط في ساحة الشرف، فإنه لا يسعنا إلا تمني انتصار سريع وحاسم للجيش الإسباني. (لونيفِر إيلوستري- 23 يونيو 1894) وفاة السلطان الحسن الأول أولت أسبوعية « لونيفِر إيلوستري» الفرنسية اهتماما خاصا بوفاة الحسن الأول وخلافة مولاي عبد العزيز له، فأفردت للحدث حيزا مهما ضمن عددها الصادر في 23 يونيو 1894. وقد ورد في أحد مقالات العدد: «خلفت الوفاة المباغتة لمولاي الحسن، سلطان المغرب، تأثرا عميقا ومشروعا في أوربا. وكيف لا، والقضية المغربية تكتسي أهمية أكثر آنية من قضية الشرق، مثلما هي حبلى باحتمالات أكثر تهديدا من الثانية؟ «ونظرا لكون فرنسا جارة مباشرة للمغرب عبر حدودها الجزائرية، فهي الدولة الأحق بألا تحصل تطورات في البلد بدون موافقتها. ولذا، اتخذت حكومتنا بسرعة عدة إجراءات حاسمة، فبمجرد العلم بوفاة السلطان، غادرت المجموعة البحرية الثانية من الأسطول العامل، التي يقودها الأميرال لو بورجوا (1) تولون، وتوجهت إلى سواحل إفريقيا تحسبا لأية مشاكل. «(...) عقب وفاة السلطان، بايعت قوات الجيش، بسرعة، ابنه المفضل عاهلا على البلاد، وهو يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنة (12 سنة في الواقع- م). والسلطان الشاب الآن تحت الوصاية الفعلية لسيدي غريط (2) الذي يتمتع بنفوذ واسع. «أقيمت البيعة، وهي طقس يعتبر جد مهم بالنسبة لهدوء البلاد، في جامع فاس الأكبر. «لكن لا خبر متوفر، إلى حد الآن، حول الآثار التي خلفتها هذه البيعة في مراكش حيث يقيم مولاي امْحَمد، الابن البكر للسلطان المتوفى فجأة. والحال أن مولاي امْحَمد منافس قوي للعاهل الجديد. «وقد توجهت طرادة إسبانية إلى الرباط حاملة الوثائق التي تعترف بموجبها كل من إسبانيا وفرنساوإنجلترا بعبد العزيز. «ويوجد السلطان الجديد حاليا في الرباط، على الساحل الغربي للمغرب.» * * * - 1 : Le Bourgeois - 2 : الوصي الفعلي كان هو الصدر الأعظم باحماد (أحمد بن موسى)، أما لمفضل غريط فكان وزير الشؤون البرانية (الخارجية) في مخزن الحسن الأول. (ملحق لو بوتي باريزيان - 24 يونيو 1894) مولاي عبد العزيز يخلف والده على العرش احتلت غلاف الملحق الأسبوعي ل»لو بوتي باريزيان» صورة نقل جثمان الحسن الأول إلى الرباط، كما خصصت الجريدة الواسعة الانتشار عدة مقالات للمغرب، يتناول أحدها حدث وفاة السلطان ونتائجه. جاء في هذا المقال الأخير: «فارق سلطان المغرب، مولاي الحسن، الحياة في نواحي مراكش أثناء حملة عسكرية كان يقود خلالها جيوشه بنفسه لفرض أداء الضرائب على بعض القبائل المنتفضة. « السلطان المتوفى يبلغ من العمر تسعا وستين سنة، ويحكم البلاد منذ 1882 (منذ 1873 بالضبط- م). «نقل جثمانه إلى الرباط تحت حراسة عسكرية، وهناك دفن. «ولقد تم تعيين خلفه: مولاي عبد العزيز الذي هو شاب يبلغ من العمر حوالي ست عشرة سنة، والدته شركسية كانت هي الزوجة المفضلة لدى السلطان، ترافقه في كل حملاته. «لكن أفرادا آخرين من العائلة قد يطالبون بحقهم في العرش، من بينهم الابن البكر للسلطان، ومعه وأخ الأخير. «ولن تتولد عن وفاة السلطان صراعات بين الورثة فحسب، بل إنها ستحيي كذلك أطماع إنجلترا التي تحلم بالاستيلاء على المغرب منذ مدة ليست بالقصيرة. «وعلى غرار القوى العظمى الأخرى، أسرعت الحكومة الفرنسية إلى إرسال بواخر حربية إلى طنجة. هكذا، وفي حالة ما إذا فرض تطور الأوضاع الإنزال البري، فإن بحارينا سيشاركون في هذه العملية العسكرية. «وبالإضافة لذلك، ستتابع حكومتنا، باهتمام كبير، الأحداث التي سيكون المغرب مسرحا لها، نظرا لحدودنا الجزائرية المشتركة مع إمبراطورية السلطان، علما أن العاهل الجديد يعلم علم اليقين أن ما يجري فوق أراضيه يؤثر بسرعة على إقليمنا الوهراني وعلى بقية أقاليم الجزائر برمتها، كما أنه لا شيء يمنع هذا التأثير من أن يصبح جد خطير. ومن جهة أخرى، فوضعنا كقوة بحرية ومتوسطية عظمى يجعل من مصلحتنا الحيوية ألا يحدث أي تغيير خارج مراقبتنا الصارمة، وألا يطال الأوضاع القائمة أدنى تحول بدون الاتفاق معنا، وذلك على طول الشريط الساحلي المترامي الأطراف الذي يبدأ من تخوم الجزائر، ويحاذي مضيق جبل طارق ليمتد بعيدا في المحيط الأطلسي، وعلى امتداد هذه الشواطئ التي يتنافس حولها الكثيرون (...).» لوموند إيلوستري ( 4 غشت 1894) السلطان الجديد يحل بفاس ولج السلطان الجديد مدينة فاس عبر بابها الرئيسي. ويسمى هذا الباب باب الساگمة، وهو مزخرف على النمط العربي بألوان فاقعة ومزين بفسيفساء متلألئة، يطوقه برجان عاليان. كان السلطان الشاب محاطا بحرسه المكون من زنوج عمالقة، زنوج يزوده بهم السودان كتعويض عن أداء الضرائب له. كان أحد هؤلاء الحراس يمسك جواد العاهل الأبيض من اللجام، بينما آخر يلوح في الهواء بمنديل من الحرير الأبيض قصد التخلص من الهواء الفاسد وطرد الحشرات. أجمل خيول الإمبراطورية تتقدم عبد العزيز، وعلى طول مسار الموكب، كان الحاجز بينه وبين الناس مشكلا من فرسان يحملون رايات مختلفة اللون. كما كان الموسيقيون ذوو القفاطين البراقة يؤدون لحن السلاطين العسكري أو النشيد الوطني، وهو لحن بطيء وحزين كانت تعزفه آلات نحاسية ومزامير وطبلات صغيرة. حماس الحشود غير قابل للوصف، وكل واحد يبذل قصارى جهده لنيل شرف الاقتراب من ابن مولاي الحسن وخليفته على العرش، وتقبيل أسفل ملبسه ونيل بركة النبي محمد جراء ذلك. وكان من نتائج هذا التزمت الديني حدوث تدافع دموي وعدة شجارات عنيفة. ولقد واصل الموكب الظافر طريقه وسط هتافات ظلت تتردد دون انقطاع: «الله يحفظ مولانا وسيدنا!... سبحان الله والحمد لله!...» جريدة الرحلات والمغامرات في البر والبحر (فاتح يوليوز 1894) التبوريدة في جبال الريف لا تحظى القرى الواقعة في الريف بأهمية كبرى، وهي تحمل عموما أسماء الجبال التي تحتضنها، كما أن سكانها لا يمتلكون أي شعور فعلي إزاء الوطن المشترك. وحين نسأل هؤلاء البرابرة أو الريفيين عن وطنهم، فإنهم يجيبون دائما تقريبا: «أنا مسلم». لم يسبق لسلطان المغرب أن توصل البتة بقرش واحد من طرفهم كضريبة، وهو لا ينال قليلا من المال من طرف شيوخهم إلا لما يقول لهم: «الدين في خطر!». تتكون قرى الريف من منازل صغيرة طولها ثمانية أمتار وعرضها أربعة، وكل قرية منها عبارة عن تجمع سكني يضم حوالي أربعين من هذه البيوت. يتوفر كل منزل على جدران سميكة، لكنها تفتقد جميعها لكل فتحة على الخارج، باستثناء باب يلج الهواء والنور عبره، أما هيكل سقفها، فإنه من مصنوع من خشب الألوة المجفف بأشعة الشمس. وتقطن الأسر جنبا إلى جنب مع قطيع ماشيتها الذي يضم بعض الماعز، بالإضافة أحيانا لغنم أتان. ويتسرب دخان المطبخ إلى الخارج، بعد أن يكون قد غمر غرفة المنزل اليتيمة، عبر سقف القش أو الأسل. تتوفر كل قرية على مسجد أو «جامع» توجد أمامه، دائما، ساحة كبيرة، ذات أرضية سوية ومطروقة، تقام فيها الصلوات المفروضة على المسلمين. أما داخل «جامع» القرى، فهو مؤثث بحصائر ويشتمل على مشكاة للصلاة (قبلة) يسرد داخلها «الطالب» آيات قرآنية يرددها الحاضرون بعده. (...) الريفي محارب بامتياز، ولذا فهو عاشق ل»التبوريدة» إلى حد الهوس، يمارسها بحماس راجلا أو ممتطيا صهوة جواده. وسواء تعلق الأمر بمناسبات عمومية أو خاصة، بتسلم قائد أو باشا لمهامه، بذهاب أو عودة زعيم حملة عسكرية، فإن «جاب البارود» (لعبة البارود) عنصر أساسي في توابل الاحتفالات. إثر عدو الأحصنة أو ركضها بسرعة كبيرة، يرفع الفرسان بنادقهم فوق رؤوسهم مطلقين صرخات شبيهة بصوت الطاووس، ثم يجعلون الجياد تصل إلى أقصى سرعتها وهم يضعون عقب أسلحتهم على الصدر أو الجبين، ليطلقوا النار جميعا في نفس اللحظة مصاحبين ذلك بصيحات جديدة. ويحدث أحيانا ألا ينجح بعض الفرسان في إطلاق النار، أما الطريقة التي يتم بها تلقيم البنادق فهي كالتالي: قبل انطلاق عدو الجياد، يقوم خدم أو أقارب للفارس بسحب حفنة من البارود من «الشكارة» التي لا تفارق المغربي، فقيرا كان أم باشا، ويضعونها مباشرة في أستون البندقية. وقد ينفجر الأستون في بعض المرات ليحتفظ الفارس بعقب بندقيته فقط، لكن هذا ليس مهما، إذ الأهم هو إحداث صوت مدو! أما الحشوة، فالريفيون يستعملون مكانها ورقا وأعشابا مجففة وقطعة من قشور الليمون. وبعد إطلاق البارود، يتراجع الفارس إلى الخلف ليوقف جواده برجة رائعة، ثم يعود إلى حيث انطلق تاركا المكان ل «سربة» أخرى، وهكذا دواليك إلى غروب الشمس. ويحصل أحيانا أن يفتعل بعض الفرسان معارك بينهم فتتعاقب السباقات السريعة بينهم، سباقات تنتهي دائما بإطلاق البارود مع رمي عقب البنادق في الهواء. ومع غروب الشمس، يذهب الفرسان والمتفرجون إلى حال سبيلهم، ويكون اللون الأسود قد كسا حينها الخيالة بسبب آثار تساقط البارود على أجسامهم، كما أن الواحد منهم يعبر لزملائه عن تقديره لهم، مقبلا إياهم في الكتف أو الجبين أو واضعا يده على قلبه. ويذهب الريفيون يوم «العيد الكبير» (عيد الأضحى) إلى طنجة لتقديم عروض الفروسية. ويشخص الرسم المرفق بهذا المقال بدقة هذا الفصل من حياة سكان الجبال المغاربة الذين لم يسبق لأي سلطان من سلاطين البلاد إخضاعهم بشكل تام لسيطرته.