في فاتح فبراير 1979، حينما كان شيخ وقور ناهز الخامسة و السبعين من العمر يهبط سلم الطائرة في مطار مهرأباد بطهران، كانت مرحلة من تاريخ إيران قد شرعت في التبدد و الاندثار فيما طفقت حقبة جديدة في تاريخ البلاد و في تاريخ العالم الإسلامي و العالم أجمع، تخُط أولى صفحاتها. فلأول مرة ? منذ الدولة الصفوية في القرن السادس عشر? سيعلن عن قيام دولة شيعية إمامية مبنية على المذهب الإثناعشري. و ابتداء من ذلك التاريخ تغيرت المعطيات الجيوسياسية بالمنطقة، و شرعت الدولة الجديدة في استخدام و تصدير سلاحها المذهبي، عبر العالم، في البداية إلى المناطق القريبة التي تحتضن شيعة إثناعشرية و بعدها إلى المناطق الشيعية حيثما وُجدت ثم إلى العالم الإسلامي كاملا و أخيرا إلى العالم أجمع و أينما وجد المسلمون. في هذه السلسلة من المقالات، نتابع الكيفية التي تقوم بها إيران بنشر التشيع، و المذهب الإثنا عشري تحديدا، عبر العالم خدمة لمصالحها السياسية كدولة صاعدة ترنو إلى الهيمنة على محيطها القريب و السيطرة على دُوله، و ذلك من خلال التمكن من عقول مُواطني هذه الدول. و من أجل فهم أفضل، لا بد من وضع الشيعة و أصولها الفكرية و فرقها المختلفة في سياقها التاريخي القديم و الحديث، و هو الأمر الذي من شأنه أن يسهل فهم توزيعها الجغرافي الراهن و بالتالي استيعاب مخطط الجمهورية الإسلامية الإيرانية و وضعه في سياق الصراع الدولي الجاري. بعد العمليات الانتحارية الثلاث التي استهدفت قوات "المارينز" الأمريكية و المظليين الفرنسيين ببيروت (أبريل 1983 و أكتوبر من نفس السنة) تردد أن الإيرانيين هم الذين حرضوا وشجعوا على هذه العمليات أو أنهم هم الذين رتبوا لها. لكن كيفما كان الحال، وكائنا من كان المنفذ (أعلنت حركة الجهاد الاسلامي مسؤوليتها عن هذه العمليات ضمن عدد آخر من المنظمات) فإن المستفيد الأول منها هو إيران. فما أن سقط هذا العدد الهائل من قوات المارينز الأمريكيين وأفراد المظليين الفرنسيين، حتى هرعت القوات متعددة الجنسية إلى الرحيل و حزمت حقائبها تاركة بيروت لفراغ أمني كبير. وفي ظل هذا الفراغ الأمني ولدت ظاهرة جديدة هي ظاهرة اختطاف الرهائن الغربيين، إذ تم اختطاف حوالي ثمانين غربيا في الفترة ما بين 1984 و1989 من طرف حركات ومنظمات تحت مسميات مختلفة، ولعل الاختطاف الذي ألحق ضررا كبيرا بالولايات المتحدة ومخابراتها هو اختطاف "ويليام باكلي" الجاسوس الامريكي ببيروت. و هي العمليات والاختطافات التي لا يمكن الجزم بربطها بحزب لله كما لا يمكن نفي ارتباطه بها. فمن المحقق أن "حزب لله" لم يكن قد رأى النور آنذاك، لذلك من غير المعقول نسبة الأمر إلى كيان لم يولد بعدُ. فحزب لله لم يظهر بشكل رسمي إلا في 16 فبراير 1985، و ذلك عقب البيان أو الإعلان الذي تلاه ابراهيم أمين في الذكرى الأولى لاستشهاد أحد قادة الحركة و هو راغب حرب، و هو الإعلان الذي جاء عبارة عن رسالة مفتوحة إلى المستضعفين في لبنان و العالم. و هكذا يمكن القول أن الإرهاصات الأولى لميلاد "حزب لله" كانت قد ظهرت في الأيام الأولى من ثمانينات القرن الماضي، عقب انتصار الثورة الإسلامية الشيعية بإيران. وحول هذه الفترة يقول علي أكبر محتشمي السفير الإيراني لدى سوريا في تصريح لجريدة "شرق" الإيرانية و هو التصريح الذي نشرته جريدة "الشرق الاوسط" بتاريخ 5 غشت 2006 و الذي قال فيه: "بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 تراجع الإمام الخميني عن فكرة إيفاد قوات ضخمة إلى لبنانوسوريا ، فبعد أن حطت الطائرة الايرانية الخامسة في دمشق التي نقلت وحدات من الحرس الثوري (باسداران) والميليشيا الخاصة (باسيدج) ولواء ذو الفقار الخاص (فرقة الخالدون في عهد الشاه) عارض الإمام الخميني إرسال مزيد من القوات، وكنت الكلام دائما لمحتشمي وقتذاك سفيرا لإيران في سوريا، وأعيش قلقا حقيقيا حيال مصير لبنانوسوريا، ولهذا ذهبت إلى طهران، وقابلت الإمام الخميني فيما كنت متأثرا ومتحمسا لفكرة إرسال القوات إلى سورياولبنان". ويتابع محتشمي كاشفا أسرار لقائه مع الإمام عام 1982 قائلا: "بدأت بالحديث عن مسؤولياتنا وما يدور في لبنان إلا أن الإمام هدَّأ من حماسي قائلا: إن القوات التي قد نرسلها إلى سورياولبنان، لابد أن يكون لها دعم لوجستي كبير، والمشكلة أن طرق الإسناد والدعم تمر عبر العراقوتركيا ، والأول في حرب شرسة معنا... والثانية أي تركيا عضو في الحلف الأطلسي ومتحالفة مع أمريكا. إن الطريق الوحيد يتابع الإمام الخميني حسب رواية محتشمي هو تعبئة الشبان اللبنانيين وتدريبهم. و بدأت مرحلة جديدة بعد ذلك، بحيث تم تدريب الشبان الشيعة، ووُلد حزب لله ورأينا أنه بعد 18 سنة من احتلال الجنوب تمكنت المقاومة من إخراج إسرائيل من الجنوب" . يتبين من خلال هذه الشهادة الحديثة لعلي أكبر محتشمي الذي استبدل تشدده اعتدالا أن فكرة إنشاء حزب لله كانت من أفكار الإمام الخميني نفسه. و هي الشهادة التي أكدها السفير الإيراني محمد حسن أختري في دمشق التي حل بها، مكان السفير السابق محتشمي. واصفا هذا الأخير بأنه "الأب الروحي لحزب لله" بينما وصف نفسه في حوار مع جريدة "الشرق الأوسط" (ماي 2008) بأنه "الأب الميداني لهذا التنظيم". و في المقابل يروي لنا أحد مؤسسي "حزب لله"، و هو الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام الحالي للحزب، في كتابه "حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل" خلفيات وكواليس إنشاء "حزب لله" كالتالي: "ناقش الإسلاميون داخل أطرهم، و مع بعضهم البعض، كيفية النهوض، ومواكبة متطلبات المرحلة في لبنان، والاستفادة من التجربة والإشعاع الإيراني الجديد، فوجدوا أن التشكيلات التنظيمية التي يعملون فيها، لا تلبي الأهداف و الطموحات التي يسعون إليها، و هي لا تحمل قابلية ذاتية في التعديل والتطوير و التغيير، و لا إمكانية لإيجاد صيغة جامعة بينها إذا حافظت على خصوصياتها، لأنها ستكون صيغة تجميع لا صيغة تنظيم متماسك، و عندها لا يتحقق المطلوب أثناء هذا النقاش الذي واكبه تواصل مع أركان الدولة الجديدة للتعارف و الاطلاع و قراءة ما أُنجز في إيران، حصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فشاركت مجموعات من المؤمنين في التصدي له، على مشارف العاصمة بيروت في منطقة خلدة، مساهمة مع الجيش السوري، و بعض المقاومين من الفلسطينيين و الأحزاب اللبنانية، في إعاقة التقدم الإسرائيلي نحو بيروت، لكن لم يكن أي تشكيل حزبي إسلامي مهيأ لمثل هذه المهمة الكبيرة، فقوي الاهتمام بضرورة تشكيل إسلامي موحد يتمحور حول ثلاثة أهداف مركزية: 1 - الإسلام هو المنهج الكامل الشامل لحياة أفضل، و هو القاعدة الفكرية و العقائدية و الإيمانية و العملية التي يُبنى عليها التشكيل. 2 - مقاومة الاحتلال الإسرائيلي كخطر على الحاضر و المستقبل، و له أولوية المواجهة، لما له من أثر على لبنان و المنطقة، و هذا يستلزم إيجاد بنية جهادية تُسخر لها كل الإمكانات للقيام بهذا الواجب. 3 - القيادة الشرعية للولي الفقيه كخليفة للنبي (ص) و الأئمة (عم)، و هو الذي يرسم الخطوط العريضة للعمل في الأمة، و أمره و نهيه نافذان. من أجل تحقيق هذه الأهداف، تابع ممثلون عن المجموعات الإسلامية الرئيسية، مناقشة أفكار عديدة حول رؤيتهم للعمل الإسلامي في لبنان، تمت صياغتها في ورقة نهائية، ثم انتدبوا تسعة أفراد كممثلين عنهم: ثلاثة عن التجمع العلمائي في البقاع، و ثلاثة عن اللجان الإسلامية، و ثلاثة عن حركة أمل الإسلامية، فحمل التسعة الورقة النهائية التي عُرفت ب "وثيقة التسعة"، و التي تضمنت الأهداف المذكورة، ثم رفعوا هذه الوثيقة للإمام الخميني (قدس سره) فوافق عليها فاكتسبت شرعية تبني الولي الفقيه لها. عندها قررت المجموعات الإسلامية الموافقة على الوثيقة، و حل تشكيلاتها التنظيمية القائمة، و أُنشئ تشكيل واحد جديد سُمي لاحقا باسم "حزب الله"..." وتؤكد هاتين الروايتين اللتين لا تتعارضان رواية ثالثة ذكرها أحمد الموسوي في مقال له بمجلة الشراع ذكر فيه أنه على هامش مؤتمر لعلماء ودعاة الشيعة بطهران، تذاكر صبحي الطفيلي (أول أمين عام لحزب لله) وممثل حركة أمل في طهران ابراهيم أمين وآخرون حول إنشاء حزب للمستضعفين بلبنان، وبعد عودة الوفد إلى لبنان كثف أعضاؤه اتصالاتهم وتكررت لقاءاتهم ثم التقوا بالإمام الخميني ووضعوا وإياه الخطوط العريضة للحزب وعرضوا عليه هيأته القيادية المكونة من 12 عضوا (عباس الموسوي صبيحي الطفيلي حسين موسوي محمد يزبك نعيم قاسم علي كوراني محمد رعد محمد الموسوي حسن نصر لله حسن خليل ابراهيم أمين وراغب حرب). ويقدم حازم صاغية في سلسلته "فصول من قصة حزب لله اللبناني" التي نشرها بجريدة الحياة في غضون سنة 2004، رواية ، من زاوية أخرى، عن ميلاد حزب لله قائلا: "عندما تشكلت هيأة الإنقاذ أواخر عهد إلياس سركيس وافق رئيس أمل نبيه بري على الانضواء فيها ممثلا للشيعة جنبا إلى جنب مع بشير الجميل ممثلا للموارنة. لكنهم يضيف حازم صاغية واحتجاجا منهم على هذا الموقف، غادر أمليون كحسين الموسوي حركتهم إلى ما بات يعرف بحزب لله. وكان واضحا من المغادرين وفي عدادهم إبراهيم الأمين السيد وحسين خليل وعلي عمار وحسن نصر لله أنهم أكثر الأمليين تشددا في مقاتلة البعث العراقي وأشدهم تعاطفا مع الفلسطينيين، وأوثق صلة بإيران، ثم إنهم في كثرتهم الغالبة، جاؤوا من فئات اجتماعية أدنى ومن قرى وبلدات أصغر ومن تعليم أقل، كما فتحوا أعينهم على الشأن العام مع الخراب الذي خلفته الحرب الاهلية في 1975". ورغم أن القطيعة قد وصلت إلى تمامها بين المنسحبين وحركة أمل، إلا أن تنظيم حزب لله لم يعلن عن نفسه إلا بعد ذلك بثلاث سنوات. ففي الذكرى الأولى لاستشهاد راغب حرب أي يوم 16 فبراير 1985 قرأ إبراهيم الأمين رسالة مفتوحة إلى المستضعفين في لبنان والعالم تضمنت بيانا سياسيا موضحا لمواقف من معظم القضايا الوطنية والدولية، ووقعته في النهاية ب حزب لله. لذلك فإن التاريخ الرسمي لميلاد حزب الله يكون هو 16 فبراير 1985. و من جهته يقول هاني فحص (و هو صحفي لبناني رافق الخميني أثناء عودته إلى طهران، و مكث في إيران ثلاث سنوات ملحقا صحفيا بسفارة لبنان في إيران) عن هذه المرحلة : "لقد بدا بعد الثورة و حتى الاجتياح الإسرائيلي و الاحتلال عام 1982، و كأن حركة أمل هي مشروع إيران الشيعي في لبنان. و لكنه مشروع معقد و يحتاج إلى صبر و جَلَد طويلين، بفعل التكوين القريب من النهج الليبرالي الذي رعاه الإمام الصدر و أكد عليه في حركة أمل، من دون أن يمنع من نمو تيار ديني بلا مشروع سياسي ديني في حركة أمل...لكن هذا التيار الديني و مع الثورة الإيرانية و غياب موسى الصدر، أصبح أكثر قناعة بالمشروع السياسي الديني. و عندما لم يجد في حركة أمل مجالا لتنفيذ رؤيته شرع في توثيق علاقته بإيران و التفاهم العميق معها على علاقة عفوية. و قد تجلى ذلك في حركة سفر دؤوبة إلى طهرانوبيروت و في سعي إيران إلى احتضان الحوزات الدينية التي نشأت في لبنان بعد زعزعة النجف (سنرى ذلك عند الحديث عن شيعة العراق) و تحول عدد من المشايخ من حركة أمل مثل الشيخ الطفيلي و الشيخ عباس الموسوي و بعض المرتبطين بحزب الدعوة العراقي إلى السياق الإيراني فيما بقي آخرون مثل الشيخ نعيم قاسم داخل حركة أمل. فالاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان سنة 1982 وخروج المقاومة المسلحة الفلسطينية من بيروت وتغلغل الحرس الثوري الإيراني في البلاد ( قدر عددهم بحوالي 1500 فرد قاموا بتدريب 100 ألف من المقاتلين في دورات منتظمة) و تكفله بتدريب المقاتلين اللبنانيين لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي مع عجز حركة أمل عن بلورة مشروع سياسي ديني يواكب المرحلة و يستقطب الشباب الشيعي ، كل هاته العوامل دفعت بعض أبناء الحركة من الشباب (من بينهم عباس الموسوي و صبحي الطفيلي و ناشطون من أبناء الحركة كانوا على علاقة بحزب الدعوة العراقي الشيعي) إلى التفكير في بديل تحت إسم "حزب لله". هكذا يبدو من خلال الروايات السابقة أن حزب الله كفكرة قبل أن يرى النور التنظيمي قد نبت في أدمغة لبنانية شابة متمردة تسعى إلى الخلاص وفي نفس الوقت في أدمغة إيرانية تريده ورقة من أوراقها على طاولة اللعب الشرق أوسطية. كما يتبين أن "حزب لله" كتنظيم قد وُلد في بيئة طائفية من داخل طائفة تعاني الحرمان و ترنو إلى حصة أكبر من الكعكة المُقتسمة بين الطوائف، بيد أن هذا المخاض الداخلي ما كان سيؤدي إلى ميلاد ناجح لولا تدخل قابلة خارجية حضرت لحظة الميلاد الصعب و أشرفت عليه ... واحتفظت بالوليد بعيدا عن أمه. الحلقة المقبلة: انتصار الخمينية داخل حزب لله