تناسلت مؤخرا العديد من المعطيات والتفاصيل حول قصة عودة المناضل اليساري المغربي الكبير إبراهام السرفاتي إلى وطنه المغرب. وهي المعطيات التي تترك الباب مفتوحا أمام الفضول الصحفي لمعرفة الحقيقة كاملة حول قصة العودة تلك. ومنذ دفن السرفاتي في مقبرة اليهود الكبرى بالدارالبيضاء، منذ أكثر من شهر، في جنازة مهيبة ضخمة ترجمت مكانة الراحل، مثلما أكدت خصوصية اللحمة الوطنية للمغاربة، عادت سيرة الرجل لتحتل المشهد الإعلامي، من زوايا نظر مختلفة ومتعددة. ما يهمنا هنا، هو إنصاف الحقيقة حول عدد من التفاصيل المرتبطة بتجربة المنفى التي دفع إليها الراحل، بقرار من وزير الداخلية الأسبق، المرحوم إدريس البصري، تحت مبرر غريب هو «نفي الجنسية المغربية عن السرفاتي»، وهي تخريجة غاية في الإيلام لكل من يسكنه هم الوطن عميقا، والذي يكون قد أدى الثمن غاليا من جسده، لقاء أفكاره السياسية التي يؤمن بها من أجل تقدم وعزة ذلك البلد.. ثم تفاصيل قصة عودته إلى بلده والموت فيه والنوم نومته الأبدية في ترابه، وهي القصة التي كنا نعرف بعض تفاصيلها، دون أن تجد الطريق إلى النشر من قبل.. في قلب هذه التفاصيل، كان اسم المناضل الإتحادي مبارك عباس بودرقة يرد دائما كشاهد مركزي، كونه كان من صناع تلك العودة، وممن أطروا حركة التضامن المطلبية مع كل المنفيين السياسيين المغاربة بالخارج. كونه واحدا منهم، هو الذي اكتوى لسنوات بتجربة المنفى بعيدا عن سماء البلاد، وعن أهله وذويه، هو الذي كان قد قطع على نفسه وعدا أمام الراحل السرفاتي أن لا يعود قط إلى المغرب قبل عودته هو، وكذلك كان، فقد عاد بودرقة بعد عودة السرفاتي بسنة ونصف.. حملنا إليه أسئلتنا، بغاية استنهاض ذاكرته الغنية بالعديد من التفاصيل غير المعروفة حتى الآن، فقبل مشكورا أن يقدم لنا أدق التفاصيل كما سعينا للحصول عليها منه. فكانت القصة تكتمل مثيرة، مع توالي الأسئلة والأجوبة، وهي القصة التي ننقلها للقراء، في هذه الحلقات من هذا الحوار الطويل، المعزز بعدد من الوثائق والصور التي تنشر لأول مرة.. في هذا الحوار، سنقف عند مكر السلطة، كما مارسه الراحل إدريس البصري لتأبيد الموقف الغاضب للملك الراحل الحسن الثاني من الراحل إبراهام السرفاتي، وكيف كان حريصا على أن يغدي دوما نار ذلك الغضب الملكي بوقود مفيد من هنا وهناك.. سنقف عند الدور الحاسم الذي قام به الأستاذ محمد بوستة في عودة المنفيين، بعد أن عرض الأمر على جلالة الملك الحسن الثاني بإيفران، وتكليف جلالته السفير الجعايدي بحل المشكل.. سنقف، عند تفاصيل الحرب المفتوحة والصامتة بين الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وهو وزير أول ووزير الدولة في الداخلية إدريس البصري، حول ملف حقوق الإنسان وفي القلب منه ملف السرفاتي.. سنقف عند رسالة اعتذار زوجة السرفاتي، المفعمة بالعاطفة الصادقة، إلى الأستاذ اليوسفي.. سنقف عند الدور الذي حاول الأستاذ عباس الفاسي لعبه وهو سفير بباريس لحل مشكلة المنفيين.. سنقف عند قصة العودة كاملة، وكيف تمت بسرية كبيرة، بين 5 أفراد، هم جلالة الملك محمد السادس ومستشاره الملكي أندري أزولاي، والوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، والأخ عباس بودرقة والسفير المغربي بباريس حسن أبو أيوب، ودور الوساطة الذي قام به الفنان التشكيلي المهدي قطبي.. هذه التفاصيل كلها، وأخرى كثيرة، هي التي تعطي لهذا الحوار قوة الشهادة التاريخية. لنعد للقائك بالسيدة كريستين السرفاتي في مقهى «أوديون» بباريس، بعد أن وصلك الجواب الإيجابي من الفنان التشكيلي المهدي قطبي.. ما الذي جرى في ذلك اللقاء بالتحديد؟!.. هل وضعتها في الصورة كاملة، أم أنك فقط أخبرتها بالنتيجة والتطورات الجديدة؟!. لقد أخبرتها، أساسا، أن سبب دعوتي للقاءها ليس موضوع تصريحها ليومية «لوموند»، بعد أن سلمتني رسالة الإعتذار التي تود توجيهها إلى الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، بل، أمرا آخر أكثر أهمية. قلت لها بالحرف: إنني أود أن أطرح عليك سؤالين محددين، أريد عنهما جوابا واضحا. الأول: هل إبراهام له رغبة فعلية للعودة إلى المغرب؟!. فأجابتني على الفور، أنه متحرق لذلك، ولا يمكن تخيل شوقه إلى أرض بلده وأجداده. وليس له من حلم سوى الموت هناك وأن يدفن جوار عائلته. سؤالي الثاني، لها، كان: هل أنت تريدين إبراهام أن يدخل أم لا؟!. أجابت بقوة أن نعم. فهو مقعد الآن، وهناك سنجد الكثير من المساعدة من العائلة والأصدقاء، أما هنا فأنا أقاوم معه وحدي، بينما في المغرب لن نكون وحدنا. قلت لها، إن هناك إمكانية واعدة عبر قناة لا علاقة لها بالمجال السياسي وبعيدة عنه. لكن تمة شروط واجبة لإنجاح المبادرة، وأساسا لتفادي كل المكائد والشراك التي سيتم نصبها لإفشال هذه المبادرة. أولها: هي السرية المطلقة وأن لا يعرف إبراهام نفسه أنني وراءها. ثانيا: تعرفين ان الذين يصطادون في المياه العكرة يطاردون ابراهام ويستفزونه لانتزاع تصريحات صاخبة في موضوعين هما الملكية والوحدة الترابية. فأرجو الإحتياط في هذا الباب. واتفقنا ان نلتقي مرة أخرى. لكنها في مساء نفس اليوم، سوف تجدد بي الإتصال وأخبرتني هاتفيا عن سعادة أبراهام وموافقته الكاملة عن كل الشروط. فقررنا الإلتقاء مجددا، أنا وهي فقط، في نفس المقهى. وكان أول ما سلمتني هي رسالتها الثانية إلى سي عبد الرحمان اليوسفي [ رسالة اعتذار منها إليه.. أنظر أجزاء منها جانبه].. ما هو مضمون تلك الرسالة بالتحديد؟! مما تقوله فيها: « إني أُكن تقديرا عميقا سواء لك كشخص أو لما تقوم به. وسأعطيك مثالا واحدا: عندما التقيت بك لأول مرة، وهذا منذ سنوات بالأمم المتحدة بجنيف، وحدثتني عن الصحراء بتعابير وكلمات غيرت موقفي و وقلبت بشكل عميق قناعتي في هذه القضية. لا أحد غيرك ا ستطاع أن يفعل ذلك .اعتقد اليوم انك بمثابة فرصة فريدة لهذا المغرب الذي أحبه كموطني الثاني وأنت تدرك هذا. وإني آسفة جدا إذا كنت سببا في إزعاجك أو إيذائك ولم اقصد ذلك بتاتا».. وذكرت أنها لم ُتبلغ بعدم المجيء نتيجة الاضرابات وهذا صحيح لأن ابراهام السرفاتي حسن اتصلت به هاتفيا كما سبق وحكيت لك من قبل، لم يتمكن من الإتصال بها، لأنه لم يكن يتوفر على رقم هاتف صديقتها التي باتت عندها في باريس قبل سفرها إلى المغرب. وأيضا أنها لم تكن تعلم ان آلزخ اليوسفي يوجد خارج الوطن....الخ. ماذا كان رد السرفاتي على الشرطين المتعلقين بالملكية والوحدة الترابية الذين أبلغت بهما زوجته؟! لقد سلمتني السيدة كريستين مختصرات لمواقف سابقة ومعروفة، موقعة رسميا من قبل أبراهام. [أنظر نص الوثيقة جانبه]. مثلا، ما سبق وعبر عنه في مقدمة كتابه «المغرب من السواد إلى الرمادي» حيث يقول لا يمكن مواجهة المخاطر المحدقة اليوم بالمغرب إلا بمعركة من أجل ملكية حديثة وديموقراطية. وفيما يخص القضية الوطنية هناك مختصرات من الرسالة التي بعث بها أبراهام للراحل الحسن الثاني عبر «بيير موروا»، أول وزير أول في عهد متيران يوم 30 يونيو 1998، ردا على الاستغلال المغرض لتصريحه الموجه إلى مجلة إسبانية، وتم تسريبه إلى يومية «النهار» اللبنانية بتدخل شخصي ومباشر من الراحل إدريس البصري، كما سبق ان أشرنا إليه. وبانه يتعهد بعدم الإدلاء بأي تصريح من شأنه ان يُزعج الدبلوماسية المغربية، بمجرد ان تطأ قدماه أرض المغرب كمواطن حر، ومادام السيد عبدالرحمان اليوسفي وزيرا أول. إتفقت مع كريستين أن هذه المرحلة تتطلب المزيد من الحذر والحيطة. واتفقنا على الإحتياط أكثر، وفي المقام الأول، أن لا يدلي إبراهام بأي تصريح صحفي لأي كان، في هذه المرحلة. والاحتياط الثاني أن لا يتصل أو يلتقي بأي مغربي في هذه الظروف حتى نتفق، أنا وهي، على ذلك. بعد يومين بالضبط، اتصل بي الأخ إبراهيم أوشلح من المغرب، وأخبرنى أن الوزير الأول سي عبد الرحمان اليوسفي، يريد رقم تلفون إبراهام السرفاتي الجديد بفرنسا، كي يسلمه إلى المستشار الملكي أندري أزولاي.. قلت للأخ أوشلح، جيد، ها هو رقم التلفون، ولكن يجب التزام الصمت المطلق، وعدم إثارة هذا الموضوع مع أي كان. ففهم بفطنته هو الرسالة. بعد أيام قليلة، اتصلت بي السيدة كريستين مجددا، وأخبرتني أن المستشار الملكي أزولاي قد اتصل هاتفيا بزوجها أبراهام السرفاتي وطلب لقاءه. وسألتني: هل يمكن أن يلتقيه أم لا ؟!. أجبتها بالإيجاب. لأنه واضح أن يكون المتصل هو أزولاي وليس فؤاد عالي الهمة، كما سبق وأخبرني المهدي قطبي من قبل، لأسباب مفهومة ومنطقية. فعلا حضر الأستاذ أندري أزولاي إلي فرنسا، وتم اللقاء الأول في باريس. حينها مباشرة، أخبرتني السيدة كريستين بالتفاصيل، التي مضمونها هو تأكيد القرار الملكي بعودة السرفاتي إلى وطنه. ثم عقد لقاء ثان بعد مدة، تم فيه الإتفاق على الخطوط العريضة للبيان الذي سيصدر بعد إقلاع الطائرة من باريس ( صدر ذلك البيان، في ما بعد، باسم الديوان الملكي) الذي سينشر بالمغرب بعد أن تقلع طائرة العودة من باريس بساعة واحدة. في اللقاء الأول إلتقى المستشار أندري أزولاي بابراهام السرفاتي على إنفراد، بينما في اللقاء الثاني تم بحضور زوجته كريستين.