من أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي المشهور بأبي العلاء المعري إلى حضرة الأديب أحمد بوزفور السلام عليك و رحمة الله تعالى، وبعد مرحباً بكتابك الذي جاءني على غير موعد وأنْهَلَني من خير مورد. وإني لأقول لك- بعد أن قُرئَ عليّ - ما قلتُهُ في زمن مضى للشيخ أبي القاسم المغربي، وكان قد أنفذَ إليّ « إصلاح المنطق « مختصَراً: « السلام عليكِ أيتها الحكمة المغربية والألفاظ العربية، أيّ هواء رَقَاك وأي غيث سقاك ! « و أذكرُ أنّ أحدَ أخوالي كانَ سافرَ إلى المغرب فأطال الغيبة، فأرسلتُ إليه قصيدة طويلة على الوافر، أقول في مطلعها :( تُفَدّيكَ النفوسُ و لا تُفادى? / فأدْنِ الوصْلَ أو أطِلِ البعادا) وفيها أعاتبه على سفره : وقيل : أفادَ بالأسفار مالاً فقلنا: هل أفادَ بها فؤادا ؟ وخالي هذا هو أبو القاسم علي بن محمد، وكان رجلا كثير الأسفار، مثل أنداده من التجار. وهو من بني سَبيكة ، الذين أفتخر بهم في قصيدتي هذه بقولي :( كأنّ بَني سبيكة َفوق طيرٍ / يجُوبون الغوائرَ و النّجادا .) وقد أشرتَ، رعاك الله - في كتابك إلَيّ - إلى ما لمستَه في شعري من اعتداد بالنفس ومن زهو وطموح. والحق أني لم أكن أخلو من ذلك في غضارة شبابي. وكيف أخلو منه وقد نشأتُ في بيت مُعرق في العلم والفضل؟ إذ كان جدي القاضي أبو الحسن سليمان بن محمد محدثا فاضلا شاعرا. ومن جميل شعره قصيدة في الناعورة ، يقول في مطلعها: وباكيةٍ على النهرِ تئنُّ و دمْعها يجري و أخوالي من بيت معروف من بيوتات حلب.بل إن والدي عبدالله نفسه كان شاعرا و عالما باللغة ، أخذَ العربية عن ابن خالويه . وأخي الأكبر- أبو المجد - كان شاعرا، لكنه كان في ذلك دون الأخ الأصغر عبدالواحد أبي الهيثم ، صاحب البيت المشهور: مَنازل قومٍ حدثتْنا حديثَهمْ فلمْ أرَ أجلى منْ حديثِ المَنازلِ ولهذا البيت قصة لا تخفى عليك . فقد مرّ أبو الهيثم برَجُل يَقلع حجارةً من أطلال « سياث» ( المعرة القديمة ) فساءه ذلك و راعه ما يسمع من زجَل الأحجار تحت المعاول ، فنظم في ذلك قصيدة لامية بديعة منها البيت المذكور. وقد مات أبو الهيثم ولما يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر. وتحتفظ له كتب الأدب كذلك برائية بديعة بعثها إليّ أيام كنتُ في بغداد، يناشدني فيها أن أعود إلى معرة النعمان . وكان ابنُ عمتي ورفيق صباي أبو صالح محمد بن المهذب - وهو من ذوي الفضل والعلم - شاعرا مجيدا. وإنما أذكره الآن لأن له نونية بديعة على الطويل، يصف فيها عزلتي بعد رجوعي من بغداد ثم يستشفع بأخي أبي الهيثم كي أفتح له بابي الموصد. وذلك بعد أنْ أجمعتُ على انفرادٍ يَجعلني كالظبي في الكناس و يَقطع ما بيني وبين الناس. ومن أبيات هذه النونية: نأى ما نأى و الموت دون فراقه فما عذره في النأي إذْ هو دانِ ؟ نعم أيها الشيخ الأديب - حفظك الله - لقد افتخرتُ في سقط الزند بأسرتي - وأنا في حداثة سني - وافتخرتُ كذلك بنفسي. بل إن هناك قصائد كثيرة في سقط الزند أسرفُ فيها في الفخر إسرافاً. ولكنني أزعم أن هذا الفخر بالنفس لم يكن مبنيا على الزهو والاعتداد وعدم التواضع - كما هو الشأن عند أبي الطيب المتنبي- وإنما كان مكابرة مني ، بسبب آفة العمى - أو بفضل هذه الآفة - التي ابتُليتُ بها وأنا في سنتي الرابعة، بعد أن أصابتني علة الجدري، فنشأتُ لا أعرف من الألوان إلا الأحمر، لأني أُلْبسْتُ في الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر، فلم أعقلْ غيره: وإظلامُ عينٍ بعده ظلمة ُ الثرى فقُلْ في ظلامٍ زيدَ فوق ظلامِ ثم إن الشامتين و الحساد كانوا يزيدونني اعتدادا وإصرارا ومكابرة : وقد نبحُوني و ما هجْتهمْ كما نبحَ الكلبُ ضوءَ القمرْ ويشهد الله أني لقيت منهم عنتا كبيرا، خاصة حين كنت في مدينة السلام. فأنتَ تعرف أن أبا الحسن علي بن عيسى الربعي - إمام النحو ببغداد - قال يوماً لمن معه كي يدعوني للدخول: « فليصعد الإصطبْل « ، والإصطبل هو الأعمى بلغة أهل الشام. فكيف لا أفتخر- أيها الأديب الأريب - بعلمي وحسبي على الربعي و أمثاله؟ وأما عن إعجابي بشعر أبي الطيب فلذلك قصة طويلة، بدأتْ وأنا طفل صغير حين ذهبَ بي والدي إلى حلَب ، و فيها أخوالي بنو سبيكة . و هناك كنتُ أتلقى النحو على ابن سعد النحوي. وأنت تعرف أن ابن سعد هذا كان راوية المتنبي. وكان يوماً يروي قصائده على مسمع مني ، فأنكرتُ روايته لبيت من دالية أبي الطيب، التي مطلعها :(أزائرٌ يا خيال أم عائدْ / أم عند مولاك أنني راقدْ؟ ) والبيت كما رواه ابن سعد هو: (أو مَوضعاً في فناء ناحيةٍ/ تَحْملُ في التاج هامة العاقدْ.) فقلت له مصححا: « أو مُوضعاً في فتان ناجيةٍ .» والمُوضع - كما لا يخفى عليك - هو المسرع في سيره، والفتان غشاء من أدم يوضع فوق الرحل، والناجية هي الناقة السريعة. وبهذه الرواية يستقيم المعنى ويتضح. والسلام عليك و رحمة الله.