من المستبعد أن يوجد بيننا مغربي ذو مشاعر إنسانية رفيعة وشغوف بوطنه، يقبل باستمرار ضريح "بويا عمر" بضواحي مدينة قلعة السراغنة، ملاذا للمختلين عقليا وضحايا الإدمان على المخدرات. تتوافد عليه عشرات الأسر من مختلف ربوع المملكة، بحثا عن كرامات وعلاجات وهمية في ظروف مأساوية، حيث يكبل المرضى بسلاسل حديدية في كهوف العار، منهم من لفظتهم مستشفيات عمومية، لافتقارها إلى التجهيزات الكافية والأخصاء النفسانيين والمشرفين الاجتماعيين الضروريين... قد نوافق وزير الصحة الحسين الوردي الرأي في إغلاق الضريح، لما بات يشكله من وصمة عار، تسيء إلى حقوق الإنسان وصورة المغرب. لاسيما أنه صاح من داخل البرلمان: "يا أنا يا بويا عمر"، وأطلق ما أسماه "قافلة كرامة" لتحرير نزلائه وتوزيعهم على مستشفيات الأمراض العقلية. ودون الخوض في ما أحدثه قراره من ردود أفعال متباينة، ومعارضة شديدة من قبل أسر المرضى وحفدة الوالي الصالح وشرفائه، واللوبيات المستفيدة مما يضخه عليها هذا الوضع الشاذ، من مبالغ مالية خيالية في أرصدتها البنكية، يحق لنا التساؤل عما أعدته وزارته التي تشكو من نقائص عدة، لاستقبال هؤلاء البؤساء وغيرهم من الهائمين على وجوههم في الأضرحة والشوارع، والمسجونين في بيوتهم خوفا من الفضيحة، والمرشحين مستقبلا للمرض النفسي وهم كثر في مجتمعنا. وعن جدوى إعدام هذا "المنفى"، إذا كان المستشفى العمومي لا يقل عنه فظاعة من حيث الإهمال وقلة التجهيزات ورداءة الخدمات ؟ فأن يتم التفكير في وضع حد لهذا العبث، الذي عمر أكثر من أربعين سنة، تحت هيمنة الفكر الخرافي، وما يتعرض إليه الضحايا من معاملات قاسية واستغلال بشع، لعمري تلكم فكرة تستحق كل التنويه، لو أن الوزير اتخذ ما يلزم من إجراءات مسبقة، وأشرك الأطر الطبية والتمريضية والإدارية بمراكز الاحتضان، تفاديا لتكرار تجربة نظام "راميد"، الذي دخل حيز التنفيذ دون توفير الشروط المواتية، على مستوى البنية التحتية والموارد البشرية. فالمتتبعون للشأن الصحي، يجمعون على أن منظومتنا الصحية تئن من فرط اختلالات عديدة ومتنوعة. وأن السياسات الحكومية، مازالت عاجزة عن الاستجابة لانتظارات الشعب وتحقيق الإنصاف في ولوج العلاج، الذي بات يكلف المواطن أداء ما يعادل 60% من فاتورة الأدوية، فضلا عن تردي الخدمات وتراجع المؤشرات الاستشفائية، والنقص في التجهيزات والموارد البشرية، خاصة في مجال الاضطرابات العقلية والسلوكية. إذ ليس بتزويد الفئات الفقيرة والأكثر هشاشة ببطاقة "راميد"، وتخفيض أثمان بعض الأدوية، ومحاولة إغلاق ضريح "بويا عمر"، يتم استغفال الجماهير الشعبية وجرها إلى الاعتقاد الواهم، بأن الحكومة ماضية في اتجاه التغيير المنشود وخدمة المواطنين. وإنما يتعين عليها القيام بما هو جدي وأعمق، من خلال تأمين الحق في التطبيب المجاني وحسن الإيواء، والاستفادة من مختلف العمليات والتحاليل والدواء... إذ لا يعقل الاتجار بآلام الناس وتوظيف نظام المساعدة الطبية، والنقص من أسعار بعض الأدوية، في الدعاية الانتخابية المجانية والمبكرة لفائدة حكومة بنكيران، وحزبه تحديدا. فما الذي استفاده حاملو البطاقة/المهزلة، غير المزيد من السخط والاستياء ؟ وعلاوة على معاناة المسحوقين وذوي الدخل المحدود من الغلاء الصاروخي المتواصل، فإن ما يزيد في تأجيج نيران الغضب المشتعلة بصدورهم، هو لجوء الوزارة الوصية إلى إحراق أطنان من الأدوية سنويا، جراء انتهاء مدة صلاحيتها داخل صيدليات المستشفيات، في وقت يوجد آلاف المرضى لا يستطيعون الوصول إليها أمام ضيق ذات اليد، مما يطرح تساؤلا عريضا حول الطرق المعتمدة في عقد صفقات اقتناء الأدوية واللقاحات الطبية؟ فالعديد من الأسئلة، توجه إلى وزير الصحة بمجلسي النواب والمستشارين عن نهب وتبديد المال العام والفساد وسوء التدبير، إلا أن ردوده غالبا ما تأتي على شكل وعود عرقوبية. ففي خبر تداولته منابر إعلامية خلال ماي 2015، وكشفت عنه "المنظمة الديمقراطية للصحة"، أشار إلى أن إدارة مستشفى مولا يوسف بالرباط، تخلصت من أدوية منتهية الصلاحية، تقدر كلفتها المالية بحوالي 700 مليون سنتيم، لكن الوزارة كعادتها سارعت إلى إصدار بلاغ "عاجل" لتكذيب الأمر. فما يحدث من غياب الحكامة الصحية واستهتار بالمسؤوليات، يمس في العمق ربط المسؤولية بالمحاسبة كمبدأ دستوري، ويفند مزاعم حكومة بنكيران حول محاربة الفساد، ويفرض على الوزير التحلي بالواقعية، والانكباب المباشر على التشخيص الجاد والمسؤول لمعرفة مكامن الخلل، التي أدت إلى تدهور أوضاع المستشفيات وحدوث اختلالات مالية وإدارية أضرت كثيرا بالقطاع، وتعيين الإجراءات القمينة بتجاوز المعوقات الحاصلة. فالتحدي الأكبر، ليس هو انطلاق "قافلة كرامة" صوب إغلاق "بويا عمر" وترحيل مرضاه وحسب، بل هو توفر الإرادة السياسية القوية لرفع التحديات، وإعداد الشروط المناسبة للاستقبال والعلاج، وتحصين المواطنين من كافة أنواع الأمراض والأوبئة، التي تفتك بصحتهم وتستنزف جيوبهم... فليتحمس وزير الصحة بالشكل الذي يراه مناسبا، ويبادر إلى تكسير سلاسل "بويا عمر" في أقرب الآجال. لكن، شريطة ألا تتحول حملة "كرامة" إلى "كراطة" لتنظيف محيط الضريح وتذويب النزلاء في المستشفيات، وأن تواكب حماسه قوة العزيمة، لإصلاح أوضاع المستشفيات وتحسين ظروف العمل. فالقطاع الصحي، وحسب ما ورد في التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، يعاني من تجاوزات ونقائص في التسيير والتجهيزات. ويفتقر إلى خريطة صحية وفق ما ينص عليه القانون، وغياب مشاريع استشفائية، وسياسة خاصة بالأدوية والصيانة، لضمان جودة الخدمات العمومية العادية والمستعجلة. وإذا كانت الوزارة تسعى فعلا إلى إحداث طفرة نوعية، فإنها مدعوة إلى تطهير مؤسساتها الصحية، بوضع استراتيجية واضحة المعالم. مادام الوزير نفسه يقر بتفاقم المشاكل، بعدما سبق له تقديم تقرير صادم عن الوضع القائم، والتأكيد على وجود مركز صحي واحد لكل 42 ألف مواطن، وأقل من سرير لألف مغربي وطبيب واحد لكل 1630 مواطن. وتجدر الإشارة كذلك، إلى ضعف البنيات التحتية والشبكة الوقائية الاستشفائية وأقسام المستعجلات، ونقص الأدوية والمعدات والوسائل اللوجيستيكية، وعدم تكافؤ الفرص في توزيع الخدمات على صعيد التراب الوطني وبين الطبقات الشعبية، وهو ما يؤثر سلبا على سلة العلاج، ويحول دون تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية. إن الاستمرار في تهريب الحديث عن الواقع المأساوي للمنظومة الصحية، دون الانخراط الجدي والفعال في إنقاذها من الإفلاس، لن يعمل سوى على هدر المزيد من الوقت، والمساهمة في تعميق الأزمة وانعكاساتها على أداء العاملين وصحة المواطنين. لذا يقتضي الواجب، تنفيذ إصلاحات هيكلية عاجلة، وإضفاء المصداقية على المستشفى العمومي، انطلاقا من التصدي للصفقات العمومية المشبوهة، محاربة التبذير وسوء التدبير، الحد من ظاهرة الرشوة وكافة أشكال الفساد والابتزاز والمساومات... وتحويله إلى مؤسسة صحية "مواطنة"، تتوفر فيها التجهيزات اللازمة وظروف العمل المثمر، وتقوية الثقة لدى المواطن، عبر حسن الاستقبال وجودة الخدمات وحفظ كرامته الإنسانية...