في وضعه كأديب استثنائي، وكمتعلم كتابة حسب التعبير الذي تحدث به عن نفسه وهو يلقي خطاب تلقيه جائزة سيرفانتيس في بحر الأسبوع الماضي، ذات الشهرة الأدبية العالمية، جعلنا الكاتب أمام حقائق باهرة، ليس أقلها أن الأدب الحقيقي لا يشغله عدم الاعتراف الآني، مثلما لا تعنيه شهرة الإعلام العابر للزيف. هو واحد من القلة التي تنتمي إلى الأدباء العالميين الذين لا تصنعهم الشهرة التجارية، هؤلاء الذين يتركون المركز كي يجابهوه بالهامش للهامش، ويناوئونه بالمستضعفين للمستضعفين. يعتنقون قضية عادلة أو قضايا عادلة، وينجحون بوحدانيتهم في جعل الدولة أو الدول جميعها تطأطئ الرأس بعد طول تَمَنُع. نحن المغاربة ، نعرف عنه هذا ليس لأنه يعيش بين ظهرانينا، بل لأن نصوصه اخترقتنا قبل مجيئه إلينا. قراناه مترجما إلى الفرنسية، ومثقفونا الذين يقرأون بلغته الاسبانية كانوا كلما تحدثوا لنا عن آثار أدبه فيهم، تحدثوا لنا عن إبداعاته اللغوية، وسحر أسلوبه الملتوي بعناية مقصودة، وتعدد الآفاق في نصوصه الأدبية الصرفة ، بل وحتى في روبورتاجاته. وهي ويا للمصادفة جزء من حيثيات منحه الجائزة المتمنعة، تلك الجائزة التي استحقها منذ عقود طويلة سابقة، دون أن يثنيه ذلك عن خياراته التي كانت تبهرنا على الدوام. كيف وقد تَمَلَكَنَا ليس من خلال لغتنا وحسب، ولكن وبالأساس لأنه فهم الغرب الذي هو واحد من ضمائره فَهْماً مغايرا لذات هذا الغرب الذي لم يدرك من نقده له سوى طابع العقوق. لم يدرك أنه يكشف فيه عن النقيض. وحيثما راح غويتيصولو، سواء وهو يعايش الأدب الفرنسي أو يُدَرِسُ الأدب في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو يسافر بكل معاني السفر إلى الشرق التركيبي والذي انبرى دائما للدفاع عن حقوقه الحضارية، حقوق هَضَمَها الغرب بعشق يسكنه العداء، بل قُلْ بعداء يسكنه العشق فإنه ظل هو نفسه، خوان غويتيصولو الذي خَبَر الديكتاتورية في بلاده قبل أن يَخْبِرَها في هذا الشرق المُعَذِب والمُعَذَب. ديكتاتورية فرانكو التي ناضل ضدها و((ناضلت)) ضده، منعت كتبه، ومنعها هو من ان تقترب من كيانه تاركا لها كل الباقي الذي لم يشغله أبدا حتى وهو في بداياته، بدايات ستمتد كي تسكن الكتابة والفعل معا: تعرف هذا كل القضايا العادلة في العالم كما نقول في قواميسنا المسكوكة ومنها شؤون العالم العربي برمتها ، وتعرفه القضية الفلسطينية كعنوان من عناوينها الذي لا يشبهه أي عنوان، ويعرفه النص الفائض لتاريخ الجريمة ضد الإنسانية، ليس أوحدها جرائم صبرا وشاتيلا. الحائز على جائزة سيرفانتيس لهذا العام 2015، خوان غويتيصولو كاتب من القلة القليلة التي تنبذ النبذ إلى درجة يصح معها القول إن نبذ النبذ هو فلسفته في الحياة والفعل والكتابة. وهو ما تصدق عليه تجربته الفريدة التي فرضت رغم كل التأخر المقصود على لجنة الجائزة أن تلتفت إليهم جميعا، إليه كإنسان يُعْلِي الموقف، وإلى كتابته ولغته وأسلوبه ألغرائبي، وإلى قضيته: نبذ النبذ: كل تربة تقوده أقداره المختارة إليها حظيت وتحظى بنصوصه ذات الطريقة المتفردة في الكتابة لغة وأسلوبا وحبكة وشخوصا: لا نقط ولا فواصل ولا علامات تعجب ولا علامات استفهام وشخوص يستحيل فصلها عمن يتابعها في النص قارئا. في كل خلقه الإبداعي يجد القارئ نفسه واحدا من شخوصه. يعرف هذا من قرأ ((المقبرة )) حيث يتمدد مغرب الهوامش. وقارىء (( مَنْفِيُ الْهُنَا والْهُنَاك)) حيث يتمدد المحلي في إسبانبا الأعماق. شكرا غويتيصولو لكونك قبلت ان تحتفي بك جائزةُ كاتبِ رواية استثنائية.