يوم السبت، سادس أبريل (2013)، استقللتُ القطار من محطة الرباطالمدينة متوجهاً إلى الدارالبيضاء. لاحظتُ بأنّ أغلبنا على متنه يقصد معرض الكِتاب. وبعد سبعين دقيقة، انتهت رحلتنا في محطة الدارالبيضاء الميناء. تركتُ المقصورة ونزلتُ ثم صعدتُ إلى سيارة أجرة. يقف أصحاب التاكسيات الصغيرة خارج المحطة وهم يصيحون بوجهتهم ويُرشدون الزبائن إلى رقم سيارتهم في انتظار اكتمال المبتغى. والمبتغى هو ثلاثة مسافرين يتقاسمون الرحلة بتكلفة بنزين واحدة ولكن دون تقاسُم ثمن الرحلة، حيث يجني السائق الثمن المستحَق ثلاث مرات بدل مرة واحدة. بل إنه لا يستحيي من فرض جبْر لا يُجبَر: 8 دراهم و20 سنتيماً في العَدّاد هذه المرة حسِبها صاحبُنا 9 بدل 8 دراهم. أيْ أن على كل زبون أن يتخلى عن 80 سنتيماً بدل أن يتخلى السائق عن عشرين، مع أنه رابح أصلا بتلقيه ثمن الرحلة ثلاث مرات. إنها الشَطارة عند الركوب والشْطارة عند الوصول. كانت الساعة تشير إلى العاشرة وخمسين دقيقة عندما وصلتُ إلى مكان المعرض المعتاد، الواقع غير بعيد عن مسجد الحسن الثاني. الدارالبيضاء مدينة صاخبة، وفي محيط المعرض الهرجُ والمرجُ هما سيّدا المكان في كل سنة. ربما يكون هناك سعيٌ من المسئولين إلى تنظيم السير والولوج والخروج والرأب، ولكن الملاحَظ أنّ عقليتنا المغربية لا ترتاح للانضباط واحترام الغير إلا نادراً. نحن شَعب نرتاح بالفوضى وللفوضى؛ وهو استنتاج له، بدون شك، مناصرون ومعارضون. يقوم المَعرض في بناية كبيرة مسقَفة، في حجم بساط لكرة القدم تقريباً. وتكملةً لهذه البنية القارة نُصبت خيام ضخمة عبارة عن قاعات للعرض أو الجلسات واللقاءات الثقافية، كما رُفعت مَقاهٍ ودكاكين للمشروبات والحلويات. والكل مَحيطٌ بسياج وقائي لضبط الحركة وضمان السلامة لآلاف الزوار، القادمين غالباً من العاصمتين الإدارية والاقتصادية. بالطبع، يحز في النفس ألا يتمتع بهذا العرس إلا هؤلاء، وألا يُنظَم المعرض في فترة عطلة حتى يتسنى لمن لهم الاستطاعة ولكنهم يسكنون بعيداً، من مدرسين وطلبة وباحثين، أن يزوروا المعرض. وقد فسر لي أحد المسئولين بأن التوقيت تفرضه الجدولة الزمنية لمعارض الكتاب في الشرق الأوسط والمغارب وأوروبا. بمعنى أنهم يبرمجون معرض الدارالبيضاء وفي ذهنهم فسح المجال للناشرين/العارضين لكي يحضروه دون أن يتغيبوا عن معارض أخرى. كانت تفصلني ساعة عن مائدة مستديرة في موضوع "الرواية الإسبانية بين السياسة والسخرية" بمعية الكاتب الإسباني العالمي المقيم بمراكش خوان غويتيصولو (برثلونة، 1931). فرُحتُ أجولُ بين الأروقة وأنا أستقصي العناوين أكثر مما أتصفح الكتب. في مثل هذه المَعارض، تبحث عيني عن الكتب المتعلقة بالدراسات الترجمية والتاريخية والثقافية. ولكن خلال جولتي السريعة لم أجد سوى روايات أو مؤلفات نقدية مترجَمة عن لغاتٍ أُتقِنها، وأمهات كتبٍ دينية وأدبية وتاريخية متوفرة في المكتبات طوال السنة، وكتبِ حقوق وقانون لا تهمني في شيء، وقواميس من النوع الرديء أو المتجاوَز، ومنشورات ومطبوعات طائلة للأطفال. كان الأطفال يشكلون الأغلبية فعلت أصواتهم في سماء المعرض. كانوا مصحوبين بالأبوين أو بمسئولين عن المؤسسات التعليمية التي يدرسون فيها، ويتنزهون أكثر مما يشترون. الكتب غالية والقدرة الشرائية ضعيفة، ولكن مثل هذه الزيارات منذ الصغر والاحتكاك مع الكِتاب تُعدّ عادة صحية. فالتنزه وسط الكتب ليس كالتنزه في الفراغ. والتربيةُ بالكِتاب (الاجتهاد) أجدرُ من التربية على "المُكْتابْ" (الكسل). ولا أنسى أبداً بأن حُبي للكُتب في كِبري بدأ في صِغري. كان أبي أمياً ولكنه كان يعامل الكتب بتبجيلٍ كبير، تقديراً للمعرفة وأصحابها. فكان يأتي بالكتب التي يطرحها الإسبان (أطباء، مهندسون، مدرسون، إلخ) عندما يُغيرون سَكنهم أو مكتبتهم ويحتفظ بها كالكنز المكنون. وهذا السلوك المتحضر حببَ إلي الكتابَ وأنا صبي، ولا زال حبي له مستمر إلى اليوم. دقائق قبل منتصف النهار، قصدتُ قاعة الندوة، التي أُطلِق عليها اسم إدريس بن علي، اعترافاً بهذا المحلل الاقتصادي المقتدر الذي رحل عن دُنيانا أخيراً. كانت هناك جلسة جارية خاصة بأعمال القاص الأستاذ أحمد بوزفور، الذي أتبادل معه احتراماً حقيقياً. إنه قصاص بمعنى الكلمة وشخص لا يُشترى ولا يُكترى. دعتني موظفة بمعهد ثربانطيس البيضاء للالتحاق بالمشاركين في رواق المعهد بالقاعة المسقَفة ففعلتُ. سلمتُ على خوان غويتيصولو، الذي أعتز بصداقته، وعلى الشاعر مانويل بيلاس والروائي خوان فرنثيسكو فيرّي والدبلوماسي والكاتب خوصي ماريا ريضاو. انتظرنا وانتظرنا إلى أن تأتّى لنا "اقتحام" قاعة ادريس بن علي، بعد انتهاء نشاط بوزفور. التحقنا الخمسة بالمنصة فافتتحت لاوْرا، عن معهد ثربانطيس البيضاء، النشاطَ في الساعة الواحدة إلا دقائق قليلة. كانت كراسينا جلدية بيضاء اللون، وعند أقدامنا طاولات صغيرة عليها قنينات صغيرة من الماء وميكروفونات سلكية، وأمامنا جمهور مختلط من الأخصائيين والمهتمين والفضوليين. من طبيعة الحال، الاستماع إلى غويتيصولو بالمباشر فرصة لا تُعوَض. أخذ خوانْ غويتيصولو الكلمة فتحدث عن التمرد في الأدب وعن أخلاقيات الكاتب الذي وجب عليه أن يقرأ التاريخ الأدبي، ويُساءل دوماً الواقع والوقائع وألا يخشى الجهر بالحقيقة والوقوف إلى جانب المظلومين والمضطهَدين. وعليه، وجب التمييز بين النص الأدبي والمنتوج التجاري، الطاغي اليوم في الأدب الإسباني لأن الكُتاب، في رأيه، باتوا يسعون وراء الربح والشهرة. لذلك رحبَ غويتيصولو بالاستثناء الذي يشكله كل من بيلاس وفيرّي في الأدب الإسباني المعاصر. كما ذكرَ تحيز الغرب ضد الشرق ثقافياً وعقدياً. بعدئذ، أخذ الكلمة الدبلوماسيُ السابق والكاتب الملتزم خوصي ماريا ريضاوْ الذي ركز، بأسلوب تحليلي خال من أي دبلوماسية، على أخلاقيات الكاتب والمفكر ودوره في التنديد بالظلم وتجريد الإنسان من بشريته. ثم أخذ الميكرفون الشاعرُ مانويل بيلاس، الذي يتبنى في شِعره وكتاباته مواقف غويتيصولو بخصوص علاقة الكاتب بزمانه وإشكالاته، مع الحِرص على رفض الواقع القائم والإعراب عن استيائه من مظاهر الانحطاط السياسي والدوغمائية. وبعد بيلاسْ، تدخلَ الروائيُ فيرّي، المتحمس لمقاربة غويتيصولو للأدب ولدور الأديب في الحياة. وقد شكر لهذا الأخير تواضعَه حيال الأجيال الصاعدة من المؤلِفين الإسبان وتشجيعه لهم حتى يشقوا طريقهم في عالم النشر والأدب، خاصة أولئك الذين ينحرفون عن المألوف ويكتبون عن أمور غير مألوفة (بسبب جرأتها) بطرق غير مألوفة لدى القراء. كما ذكر فيرّي بأن الشعب الإسباني أصبح اليوم يمارس السياسة أكثر فأكثر ليدافع عن نفسه مِن فساد السياسيين وإجحاف المنظومة السياسية والاقتصادية المعمول بها. وفي الأخير، أخذ الكلمة عبد ربه وذكر فضل خوان غويتيصولو عليه وعلى كثير من الجامعيين المغاربة على مستوى التعامل مع تاريخ إسبانيا في علاقته بالأندلس والموريسكيين، وعلاقة الأدب الإسباني والكطلاني بالعنصر المدجن، بعين نقدية تُساءل الحقائق الجاهزة وتعيد قراءة الماضي لفهم الحاضر. من خلال قراءة أعمال غويتيصولو الروائية والنقدية تعلمتُ، بالفعل، التمييز بين الأدب الرسمي والأدب غير الرسمي (المهمَش/ الساخر)، واكتشفتُ مدى تأثر الأدب الإسباني بالعنصر الإسلامي والعِبري، وأدركتُ هول تداعيات طرد الموريسكيين من أرضهم، إسبانيا، والدور الحاسم للكنيسة الكاثوليكية في تشكيل العقلية الإسبانية المعاصرة ومواقف الإسبان الاستعلائية إزاء "المورو"، وتحسنَ في المُجمَل فهمي للعلاقة الحضارية والسياسية بين الشرق والغرب. وفي الجولة الثانية من المداخلات خلال هذا اللقاء، جاء التركيز تخصيصاً على الوضع المتأزم في إسبانيا اليوم، ومسئولية البنوك والمصارف والنظام الرأسمالي، وانهيار منظومة القيم وانتشار عقلية الوصولية، إلخ، وعلى أن دور المثقف/الكاتب في هذا السياق هو التنديد بما يجري دون السقوط في الإنشائية الإيديولوجية، والتزام الانسجام في الموقف لدى التنقل بين الإبداع والتصريحات. أنصتتِ القاعة بإمعانٍ، ولما فُتِح باب النقاش جاءتْ مداخلات الحاضرين، على قلتها بسبب ضيق الوقت، توكيداً للتوجه الذي يؤمن به خوان غويتيصولو ولانفراده بكونه مفكراً نزيهاً في زمن رديء بكل المقاييس، ومناضلا لا تهمه الجوائز أو المكافآت بقدر ما تهمه كرامة الإنسان، بغض النظر عن العِرق أو المُعتقَد. وهكذا مرّت علينا أكثر من ساعة ونصف دون أن نشعر. ولكن الاستفادة كانت كبيرة. انفضَّ جمعُنا على الساعة الثانية وأربعين دقيقة بعد الزوال. لم أتناول غدائي بعدُ. وعلى البطن أن ينتظر لأن في انتظاري موعدٌ ثانٍ على الساعة الثالثة. هذه المرة، سوف أقوم بدور المُيسِر وأحاور المستعرب الألماني شتيفانْ فايْدنَرْ، مدير مجلة "فكر وفن"، التي يُمولها ويوزعها بالمَجان معهد غوته الألماني. جاء الضيف في الموعد وتجاذبتُ معه أطراف الحديث قبل إطلاق المقابلة بشكل رسمي، دائماً في قاعة إدريس بن علي. كانت المقابلة عبارة عن دردشة صحفية فكرية، بحضور جمهور متنوع تخلله بعض طلبة اللغة الألمانية، وتمحورت حول مفردات مفتاحية من قبيل: الاستشراق، الترجمة، الدراسات الشرقية في الجامعة الألمانية، المثاقفة والتدين، الإسلاموفوبيا، الهجرة والاندماج، العلاقات بين الشرق والغرب، وما إلى ذلك. وتلا سلسلةَ الأسئلة والأجوبة في المنصة أربع تدخُلات من القاعة حول الموضوعات المطروقة أجاب عنها الضيفُ بعربية فصيحة سليمة. وبعدما يقرب من الساعة، رُفعت الجلسة على تصفيقات الحاضرين. ولم أترك فايدنر يغادر دون أن يوقع لي نسخة كان أهداني إياها من الكِتاب الذي نشره عام 2007 بعنوان "الأسئلة المخفية: محاولة للاقتراب من الإسلام". أتعبني الجلوس المُطوَل وشعرتُ بالجوع يُغرغِر في أمعائي ولكن الفرَجَ لم يكن بقريب. قررتُ أنْ أسير بين أروقة الكتب بغرض الشراء هذه المرة. وفي نهاية رحلتي، غنمتُ كتابين اثنين؛ أحدُهما حول "الترجمة في الأندلس" والآخر حول "الجنس قبل التاريخ". وحتى يُكونَ القارئ الذي لم يحظ بزيارة المعرض فكرةً حول الأسعار، أحيطه عِلماً بأنني أديتُ مائة درهمٍ عن كل كِتاب. غادرتُ فضاء المَعرض وصعدتُ إلى تاكسي صغير (أحمر) وجدته بصعوبة، فوصلتُ إلى المحطة ومعي محفظتي وكتابيَ في كيس بلاستيكي وقنينة ماء صغيرة. اصطففتُ مع الناس لشراء التذكرة. وبعد التذكرة، اشتريتُ بسكويتاً ومشروباً بالحليب أخفف به غرغرة أمعائي في القطار. كان قطارُ السادسة في انتظارنا فوقفنا أمامه كالمتعبدين ننتظر أن يفتح لنا أبوابه. جربْنا الضغط على الزر، بل حتى التلفظ مزاحاً بصيغة "اِفتح يا سِمسِمْ"، ولكن الأبواب ظلت موصَدة في وجهنا لما يقارب النصف ساعة. لم تشفق على كبير وصغير السن، ولا على المريض، ولا على... المُغرغِرة بُطونهم. وفي النهاية، وبعد سُيولٍ من تعليقات المسافرين على ما جرى وما تلاه من تأخُرٍ، انطلق القطار متوجهاً إلى الرباط، وعملتُ على تهدئة بطني بالبسكويت والمشروب واعداً إياه بأكلة ساخنة حالَما ألجُ البيت. ومحطةً تلو المحطة، كان القطار يقلص المسافات ويُقربنا من العاصمة. مساء يوم السبت، المسافرون عادة ما يقصدون زيارة الأهل والمعارف، أو الالتحاق بالزوج/ة أو بالحبيب/ة. ولكن هذا السبت، زاحمناهم نحن زوار معرض الدارالبيضاء للكِتاب. وصل القطار ونزل المسافرون مهرولين فهرولتُ بدوري إلى بيتي... وقد تغذى عقلي ولم يتغذَّ بعدُ بطني. * أكاديمي ومترجم