عرفت الشقيقة تونس على امتداد خمسة أيام، عرسا نضاليا دوليا من العيار الكبير ممثلا في التئام فعاليات المنتدى الاجتماعي العالمي، الذي عرف هذه المرة مشاركة مكثفة لمختلف تعبيرات المجتمع المدني، من آسيا وإفريقيا وأوربا والأمريكيتين. ولا شك أن اختيار تونس الشقيقة احتضان الفعاليات، كان تعبيرا من طرف المنظمين عن التعاطف الكبير، الذي تحظى به تجربة الانتقال الديمقراطي في هذا البلد العربي الإفريقي الأصيل، بعدما تعثرت مسيرة الربيع العربي في عدد من الأقطار وتحولت إلى ما يشبه الخريف. لقد أثبتت الشقيقة تونس للمرة الثانية على التوالي، حيث احتضنت منتدى 2013، أنها جديرة حقا بهذا النوع من اللقاءات الكبرى وأنها بتعبيرنا الدارجي (حمرت وجوهنا) كعرب وكمسلمين وكأفارقة، وأثبتت أنها فعلا رغم الصعاب، ورغم المحاولات الارهابية اليائسة، ورغم ظروف البلد الاجتماعية والاقتصادية ،أنها بلد من البلدان العربية القليلة،( التي بقيت أمينة لروح "بورتو أليغري" ولروح الربيع العربي) تعطي مرة أخرى الدليل والأمل على إمكانيات انبعاث روح الربيع العربي من الرماد، بعد أن دمرتها انتكاسات متتالية كادت أن تفقد الأمل في قدرة شعوبنا العربية على إحداث التغييرات الديمقراطية المنشودة. فمن النقط والإنجازات الأساسية التي يمكن أن تحسب على المنتدى الاجتماعي العالمي بتونس، أن اللقاءات المبرمجة كلها بمختلف أشكالها: اللقاءات المفتوحة، أوراش النقاش المختلفة، الأوراش المسيرة ذاتيا. كلها لامست المشاكل الكبرى لعصرنا: ( مشاكل الفقر، قضايا الأمن والسلم والتضامن بين الشعوب، اللامساواة واتساع الفوارق بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، العولمة المتوحشة وانعكاساتها السلبية على حياة الأفراد والأمم في مختلف القارات، الإرهاب ومخاطره المتصاعدة على الاستقرار في مختلف مناطق العالم، قضايا المساواة بين الجنسين، تصاعد اليمين المتطرف، وانعكاسات السياسات الهجروية على حياة ملايين البشر، قضايا الشباب ومخاطر الأصوليات الدينية والعقائدية من كل نوع، مختلف أجيال حقوق الإنسان والمحن التي تعرفها ممارسة الحقوق والحريات في مختلف المناطق، مشكلة الاختناقات التي تعرفها الديمقراطية التمثيلية والحاجة إلى جرعات قوية من الديمقراطية التشاركية، التنمية المستدامة ومستلزماتها وشروطها، قضايا البيئة والتنمية، مشاكل الجريمة المنظمة واتساع رقعتها، قضايا العدالة الانتقالية في مختلف البلدان والمناطق التي تشهد قضايا الانتقال الديمقراطي، قضايا اللاجئين، مناطق وبؤر التوتر والحروب الإقليمية التي تصاعدت والحسابات الاستراتيجية للقوى الكبرى وأثرها على بعض الصراعات الدولية، خاصة في الشرق الأوسط حيث حظيت القضية الفلسطينية والحرب في سوريا والعراق بمناقشات مستفيضة، سباق التسلح ومخاطره...) وغيرها من القضايا الشمولية التي استأثرت باهتمام منظمات المجتمع المدني وشخصيات مرموقة، قدمت من مختلف مناطق المعمور، وشباب متقد إلى العطاء والمعرفة والبذل بسخاء من أجل تقدم قضايا الشعوب والأمم، وتجديد الفكر التقدمي الإنساني في أبعاده الكونية. أمام هذا الزخم الفكري والمدني والحقوقي والاجتماعي، بدت بعض المحاولات الطائشة لبعض الأطراف المسخرة من طرف حكومات تحكمها أحزاب وحيدة، أو منظمات امتهنت الابتزاز باسم حق تقرير المصير، بدت تلك المحاولات تافهة وسابحة ضد التيار العام، تيار طرح الأسئلة الحقيقية التي يحبل بها عصرنا، والتي تعاني منها المجتمعات في عالمنا المرتبك والمثقل بالهموم والقضايا الشائكة. كان هناك أيضا اتفاق على عدم رفع الشارات المبرزة لهوية الدول، اعتبارا لكون المنتدى هو عالمي يتجاوز الحساسيات القطرية، هذا لم يحترم للأسف الشديد فإن الذين خرقوا هذا المبدأ المتفق عليه من البلدان العربية تتقدمهم الوفود الجزائرية، كان من المفروض طبقا لوظيفة المنتدى وأهدافه وتاريخه مند "بورتو أليغري" أول لقاء في البرازيل، أن تكون للمنظمات غير الحكومية وللمجتمع المدني وللنقابات ولكل المؤسسات غير المرتبطة مباشرة بالحكومات، أن تكون لها الكلمة الأولى في المنتدى، للأسف تبين أن بعض البلدان العربية الإسلامية كالجزائر وإيران لم تحترم هذا المقتضى التنظيمي، وللأسف الشديد فإن خرق هذا المبدأ العام الذي صنع هوية المنتدى، لم يأت من أمريكا اللاتينية، لم يأت من إفريقيا جنوب الصحراء، ولم يأت من جنوب شرق آسيا، ولكنه جاء من بلدان عربية إسلامية. لكن رغم ذلك، يحق لأرض تونس الطيبة الشقيقة، أن تفتخر حقا وللمرة الثانية على التوالي باحتضان تظاهرة دولية من هذا الحجم، أرض تونس المعطاء، والتي أثبتت لممثلي المجتمع المدني العالمي، أنها تستحق كل الدعم لديمقراطيتها الفتية، وكل التشجيع لمجتمعها المدني المتحرك، وكل الثناء على الصبر والمكابدة التي أبرزتها في مواجهة أحداث جسام، كان آخرها ذلك الحدث الإرهابي الذي حاول أن يرجع عقارب الساعة إلى الوراء، مبرزا مرة أخرى أن القوى الظلامية لا يمكنها أن تفت إطلاقا في عضد إرادة شعب قرر المضي قدما في مسلسل انتقاله الديمقراطي، بكل جرأة، وبكل تصميم، وبكل إرادة على مراكمة المنجزات، وتحقيق المكتسبات، وهزم المتخاذلين الطائشين. فتحية صادقة للإخوة في تونس، وتحية لجنود الخفاء، الذين كان لهم الفضل الأكبر في جعل المنتدى الاجتماعي، عرسا نضاليا، مدنيا، فكريا، دوليا، من الحجم الكبير.