ستقر على لون ثابت، مولع بخلخلة قوالب البنية الموسيقية التقليدية، النمطية. هاجسه أن يخرج بتركيب جديد في صياغة أنغام الموسيقى العربية. والجديد عنده إبداع في وضع الألحان، ثم اقتباس مدروس برؤية فنية دقيقة، وأخيرا وليس آخرا توظيف آلات موسيقية غربية تستطيع أو يستطيع بها أن يقدم إضافة تحديثية في الموسيقى الشرقية. بهذا التمثل والاستيعاب والقيمة المضافة تبوأ الحركة التجديدية كموسيقار الأجيال في مصر والعالم العربي. أسلوبه التجديدي الحداثي جر عليه الكثير من النقد، ليس من بعض المحافظين من كبار المطربين والموسيقيين فقط، بل أيضا من أساطين كتاب الأدب في مدرسة (الديوان) بخاصة، كالعقاد والمازني، وكأن نقد هذين الأخيرين الشديد لشعر شوقي لم يشف الغليل فأمدوا ذلك إلى، من رعاه شوقي في الموسيقى، حتى. ولو أنه ابن القاهرة. تختلف الروايات ويكتنف الغموض تاريخ ميلاده شأنه شأن أم كلثوم، ما بين 1901 و 1904 و 1910. بيد أن التاريخ الثاني هو الذي اعتمد للاحتفاء بمائوية ميلاده بدار الأوبرا بالقاهرة وبسينما « ريالطو» بالدار البيضاء، حيث انتدبت الفرقة المغربية للموسيقى العربية المطرب والمؤلف الموسيقي السوري الكبير» صفوان بهلوان « للاحتفاء بالذكرى. هو إذن محمد عبد الوهاب عيسى الشعراني، ولد يوم 13 مارس سنة 1904 بباب الشعرية بالقاهرة في حارة « برجوان « التي بناها المماليك الفاطميون، الذين تعود أصولهم للمغرب. هو واحد من خمسة أبناء، أشرف على تربيته شقيقه الشيخ حسن بعد وفاة أبيه. وقد أرادوا له أن يخلف الوالد في مشيخة الجامع وأن يتجه لدراسة الفقه والتخصص فيه. إلا أن للصبي ميولا أخرى وبخاصة لما بدأ يرتاد شارع عماد الدين، مركز النشاط الفني حيث أغرم بالغناء، واستمر مأخوذا بما اشتهر آنذاك من شيوخه الكبار ك : سيد الصفتي وسيد درويش وسلامة حجازي وغيرهم. عمل مع إحدى الفرق المسرحية ليغني ما بين فصول المسرحيات، وفي إحداها كان أمير الشعراء شوقي حاضرا، وما أن رأى الصبي يغني حتى ثارت ثائرته لأن الطفل عبد الوهاب ما زال صغيرا ولا يقوى في نظره على تحمل السهر، فطرده من المسرح، بل استصدر قرارا من « حكمدار « القاهرة بمنعه من الغناء. سنة 1920 دخل عبد الوهاب نادي الموسيقى العربية فأشبع نهمه بالصقل العلمي للدراسة. وما هي إلا سنوات قليلة حتى انتدبه المعهد ليحيي حفله السنوي كما جرى التقليد. وحدث أن كان أمير الشعراء يحضر الحفل، فتمايل هذه المرة طربا وهو يستمع لليافع عبد الوهاب، الذي غنى غناء منفردا بعد أن نضجت حبال صوته ورقت أوتاره وصقلت موهبته. وما أن أنهى الوصلة الأخيرة حتى هب شوقي ليصافحه ويهنيه، ومن هنا نشأت صداقة روحية بين الاثنين سنة 1924 اعتبرها النقاد بمقام الميلاد الثاني لعبد الوهاب. درس على يد « القصبجي « في المعهد وهو الذي علمه أصول العزف على العود. ولما تعرف إليه سيد درويش أدمجه للعمل معه في المسرح الغنائي، فمثل وغنى في مسرحياته مثل (شهرزاد و كيلوباترا) حيث أسند له محاورة « منيرة المهدية « سلطانة زمانها غنائيا. تشكلت ينابيع شخصية عبد الوهاب الموسيقية من مكونات متعددة : أولا : دراسته النظرية على الشيخ درويش الحريري، ثم أستاذه بالمعهد الموسيقار « القصبجي « التطبيقية إذ علمه أصول التجديد وإتقان العزف على العود وهو الدارس الجيد والملم بتدوين النوطة وأول من استبدل « التخت « بالأوركسترا. ثانيا :علاقته ب سيد درويش رائد التجديد، الذي عمل معه كمغن وممثل في فرقته فكان تأثيره كبيرا عليه وبخاصة في أغاني المسرح الغنائي المبسطة وكذلك في الأدوار الصعبة حيث أعاد غناء دور سيد درويش (أنا هويت .. وانتهيت) بروعة فائقة. ثالثا : سفره للشام في جولة مع فرقة مسرحية، ولما انبهر بألوان أخرى من الطرب كالقدود والموشحات أثار عدم العودة مع الفرقة لإتمام الدراسة والتعلم في حلب أساسا، حيث أجازه شيوخها، بمعنى بصموا له على الكفاءة في الغناء. رابعا : سفرياته و شوقي الذي كان يصطحبه معه للخارج مكنته من الانفتاح على الموسيقى العالمية والتعرف على أسرارها وبخاصة الكلاسيكية منها. هكذا بدأ عمله التجديدي في الموسيقى بالصياغة التعبيرية التي وجدت تجسيدها في (الليل لما خلي)التي كتبها شوقي بالعامية خصيصا له مع أغاني أخرى من بينها (النيل نجاشي، اللي يحب الجمال، علموه كيف يجفو ... وغيرها). فضلا عن فاعلية التجديد في اللحن الذي صاغ به أساسا (جفنه علم الغزل) على إيقاع موسيقى « الرومبا « الراقص. ثم قام بوضع المقدمات الموسيقية وهو شيء جديد ورقاه إلى مستوى أكثر في الأعمال الكبرى (كالجندول، الكرنك، كيلو باترا، دعاء الشرق و ليالي الشرق أو الروابي الخضر ...) وكان أول من أخضع « الموال « للحن عوض الارتجال ووضعه في صلب القصائد المطولة في غاية الجمال (أنا هايمنو) كما في قصيدة الكرنك للشاعر أحمد فتحي .. وفي مقطع « ياحبيبي ياحبيبي أكلما ضمنا للهوى مكان» في «جفنه علم الغزل» للشاعر بشارة الخوري ... وإذا كان قد غنى « الدويتو « أو « الديالوغ « مع عدد من المطربات كنجاة علي أو اسمهان في رائعة « مجنون ليلى « أو ليلى مراد التي اعتبرها أفضل المطربات في الغناء السينمائي، منذ أن بدأ التمثيل في عدد من الأفلام سنة 1933، فإنه من ناحية أخرى صاغ حنكته وطول باعه في التأليف الموسيقي البحث، فزاد عن القوالب التركية والغربية مقطوعات موسيقية بهوية عربية يميزها التصوير والتأليف التعبيري كمقطوعات : (حبي، قمر 14، المماليك، موكب النور، غزل البنات وغيرها ...). كما أن إدخاله لآلات موسيقية جديدة جعله بنفس القدر يبتكر استخداما جديدا للآلات التقليدية. صحيح أنه ظهرت ألحانا غربية في موسيقى عبد الوهاب وأغانيه، لكن أيضا هناك من الموسيقيين الأوربيين من وجد في ألحان عبد الوهاب ما يمكن أن يكون أوربيا بنكهة شرقية. وهذه إشكالية تحتاج لدراسة معمقة من المختصين ! شيء آخر ينضاف إلى عبقرية عبد الوهاب وهو تخصيصه لأغان بالعود فقط ، وهي روائع من نمط عالم آخر في هذا السياق نذكر أغان مثل (أغار من قلبي، لإن طال عمري ورائعتي لا تكذبي ونجوى)، هذه التحفة الرائعة التي،اخذ مقاطع من مطلعها: تجري وأحلامي في غيها تمضي إلى حيث البعيد البعيد أنت مجد سالك دربه يدفعه الشوق إلى ما يريد ولي خيال، سارح بالمنى يسوقني حينا وحينا يجيد هل مر على الشط من شاعر له غرام، كل يوم جديد مع أن زيارته للمغرب تأخرت نسبيا إلى غاية 1970، فإنه مع ذلك ارتبط عه ، وأخذ يتردد عليه كلما سنحت الظروف، وبخاصة في المناسبات و الأعياد الوطنية. وفي حفل خاص أقامه العاهل الراحل الحسن الثاني و استقطب له كبار نجوم الطرب من مصر. وما أن بدأت السهرة بمقدمة عزف للفرقة الماسية، وهمت المطربة فايزة أحمد للغناء، حتى قفز الملك من مقعده وأوقف الفرقة أمام اندهاش الجميع، منبها أعضاء منها بأصبعه الواحد تلوى الآخر من عازفي الكمان أن آلاتهم الموسيقية غير متساوية، فهب عبد الوهاب مبهورا وقد فهم بحنكته قصد الملك، ليأخذ على عاتقه مهمة تسيير الفرقة كمايسترو يضبط آلات العازفين على إيقاع التسوية النغمية السليمة. وهكذا تقاسم الملك مع موسيقار الأجيال الذوق الفني في أعلى مستوى تجلياته..