وأنا أهُم بمغادرة المقهى الأدبي محمد بلقاس (التابع لدار الثقافة بالداوديات بمراكش) في بحر شهر أكتوبر من السنة الجارية (2010)، لفت انتباهي على سبورة الإعلانات ملصق إعلامي يحمل إلى رواد المقهى الثقافي وخزانة بن يوسف ومسرح دار الثقافة، خبر تنظيم عرض مسرحي من تمثيل وإخراج الفنانة المغربية لطيفة أحرار؛ وهو عمل مستوحى من تجربتها الذاتية والواقعية التي تعيشها، وهي تستلهم بعض أحداث هذا العمل من قصائد الشاعر المغربي ياسين عدنان عن ديوانه «رصيف القيامة» (الصادر في طبعته الأولى عن دار المدى بدمشق سنة 2003)؛ والذي اشتغلت من خلاله على مقاطع شعرية في عمل مسرحي «مونولوجي» متميز، والذي كَثُرَ عنه الحديث بالقيل والقال دون الرجوع إلى صاحبة العرض الذي أخذ «كفر ناعوم» عنوانا له. ما يدفعني إلى الكتابة الآن عن هذا العرض، هو ما قيل وحُكي عنه دون أن يتم التوجه بالسؤال إلى المعنيين بالأمر، باستثناء بعض الحوارات والاستجوابات المقتضبة التي نشرت فيما بعد في بعض الجرائد الوطنية. وإنصافا للفن والفنانيْن، أكتب هذه الأسطر دفاعا عن ثنائية الجسد والروح. الأول ممثل في تعبيرات الحركة والفعل المنسوج من خلال فكرة العرض، والذي تم فيه نوع من «العري الجسدي» الذي أثار زوبعة من الكلام الفارغ وغير المؤهل بتاتا، لا من وجهة نظر الهاوي ولا من وجهة نظر المحترف للخوض في الإشكالات البعدية للجسد كفن. وهو ما أسال الكثير من الأفكار الدالة على امتلاك ثقافة متحجرة بعيدة كل البعد عن فكرة النموذج والعبرة التي تميز الفكر المنفتح والمتنور عن الفكر المنغلق والمتخلف. إن التمييز ما بين الفن كإبداع وجرأة من جهة وبين كل ما يدخل في خانة الطابو والمحرم و»حشومة» من جهة أخرى، هو الأساس الذي ينبغي من خلاله السمو بالجسد الفني عن كل الشبهات المبخسة له باعتباره قيمة جمالية وفنية. أما الثاني، وهو الروح، فيستمد وجوده من العري ذاته. فحينما تفارق الروح الجسد يتجرد هذا الأخير من كل لبوساته الخيالية والواقعية، فيتعرى ليغتسل من بياض الكفن الناصع مستسلما أمره لمثواه الأخير. هكذا تربط الفنانة لطيفة أحرار هذه المجيدة، بواقعة رحيل والدها في يونيو 2009 عن عالم الأجساد إلى عالم الأرواح. ورغم ذلك، فالروح لم تنسلخ عن فكرة الجسد. تقول أحرار في استجوابها مع نجاة أبو الحبيب من أسبوعية «الأيام» (في عددها رقم 447 بتاريخ 20-26 أكتوبر 2010 بالصفحتين 26) : «هذا الرحيل حرك داخلي صورة الروح والجسد. وهذا الإحساس كان حاضرا في مسرحية «كفر ناعوم» أيضا، وكان المزج بين الروح والجسد على الخشبة فنيا، واشتغالا فلسفيا، لكنه نابع من تجربة ذاتية، وهذا ما جعل العمل صادقا». إن الاستئثار بالرأي الواحد دون العودة إلى مسائلة ومناقشة المصدر الأول للفعل أو القول المثير للسؤال والحيرة، يثير دائما جدلا فارغا تنتفي مقومات إثارته كلما تم إقصاء الطرف المصدر وتم الاعتماد على الطرف الفرع. وما دامت حلقات النقاش الموجهة ما زالت مستبعدة ومقصية عن كل عرض مسرحي أو أي عمل فني كيفما كان بعد انتهائه، فستبقى تأويلات المتلقي تخطئ هنا وتصيب هناك، وليس العيب في الخطأ، بل العيب في ترك الأمور لذوي عدم الاختصاص يجترون في الكلام مرة يمينا ومرة يسارا، دون أدنى علم لا بالأسباب والدواعي ولا بالأهداف والأدوار. فهل المرتادين باللباس الداخلي للشواطئ البحرية مثلا، يعد عُريا !؟ نعم، يعد تعريا ! لكن.. إذا قصد نية من ورائه التشجيع على الفساد.. نعم، يعد تعريا ! لكن.. إذا قصد نية إثارة غرائز الحساد.. نعم، يعد تعريا ! لكن.. إذا قصد نية في مكان مقدس يقصي شرعا عري الأجساد.. أما المسرح فهو الجسد بحد ذاته. والممثل هو الروح الذي يحرك ذلك الجسد. والمسرح بدون ممثل كالجسد بدون روح. وماذا لو أن الذي تعرى ممثلا ذكرا وليس أنثى؟ هل كان لكل هذه الزوابع أن تثار في فنجان كأس يحتمل على الأقل تأويلين: تأويل الجزء المملوء وتأويل الجزء الفارغ !؟ إنهم لا يرون إلا ذلك الجزء الفارغ من الكأس، أولائك الذين يرفضون الفن باسم عباءات عديدة مسخرة، كل حسب مصلحته. الإشكال إذا، لا يكمن في شخص المتلقي الحاضر يومها للعرض، ولكن يكمن الإشكال الكبير على مستوى الثقافة التي يحملها فكر ومتخيل هذا المتلقي وغيره. تلك الثقافة التي ألفها وكبر منها وفيها. تلك الثقافة التي ألفها إلى حد المسلمات، بل إلى درجة المقدسات. فكيف نريد لجمهور متلقي، لا يحمل في ذهنه وفكره ومتخيله سوى ثقافة تردد على مسامعه ومنذ نعومة أظافره: «الرقص، الغناء، الرسم، المسرح، السينما، الشعر، التمثيل... كل ما يسمى الفن عموما، فهو حرام، يرتكب صاحبه الآثام، فيقذف به إلى نار جهنم» !!!، فما بالك والتوظيفات المتعددة لمفهوم وصورة «التعري» في أي عمل من الأعمال الملقبة فنية !؟ إنه يصعب -وإن لم يتطور الأمر إلى درجة الاستحالة في نظري- عند الإنسان العربي، أن ينظر إلى الجسد الفني بصفة عامة، نظرة جمالية محايدة. نقصد بذلك النظر إلى الجسد حسب موقعه وحسب سياقات توظيفه. فالجسد المتعري على خشبة المسرح، أو الجسد المتعري للزوجة أمام زوجها، أو الجسد المتعري أمام الملأ في الحمامات العمومية، أو الجسد المتعري للطفلة الصغيرة أو المراهقة أمام أبويها... ليس بتاتا وأبدا كالجسد الذي يوظف فيما ينعت بأفلام «البورنو» !؟ وأي وجه للمقارنة يمكن أن نصيغه بين الجسد كمادة فلسفية، جمالية وفنية (كما في حالتنا) والجسد كمادة تسويقية مشبوهة دون أدنى حد من المسؤولية الأخلاقية والأدبية تحت ذريعة «حرية الجسد» في التصرف في الجسد!!!؟؟؟؟ الفرق كبير جدا، وإن في نظرنا لا مجال للمقارنة أبدا. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وليس فقط النظر من دون بُعد النظر، كالنعامة التي تحشر رأسها في الرمل متصورة انفلاتها من تعقب الصيادين لها. هناك فرق كبير، ومساحة كبيرة يجب علينا من خلالها أن نبني لأنفسنا قناطر للتكوين العمومي في مجال الفن عامة. أن نأخذ بيد المواطن المتلقي إلى أبعد الحدود، في أعمال درامية وفكاهية تثير فيهم الإشكالات الرئيسية والحقيقية لثنائية الجسد والروح بعيدا عن كل اختلال مفاهيمي قد يولد المزيد من الثقافة الفكرية المنغلقة والتي لا ترى من الكأس ولا تتشبث سوى بالجزء الفارغ منه. سأستطرد مزيدا من الأمثلة لعلي أنصف مفهوم «التعري» من أجل التعري عن المسكوت عنه حسب قول لطيفة أحرار، وليس التعري من أجل تسويق الجسد وتمييعه... سأستحضر مقطعا من حدث واقعي لرسام عربي، ليس سوى بطل رواية أحلام مستغانمي الشهيرة «ذاكرة الجسد»، والذي عاش تجربة عري تامة أمام أنظاره. ولدلالات ذلك التعري، أستحضر المقطع المطول أسفله لإظهار الفرق الشاسع في القدرة التي نبحث عنها والقدرة التي نمتلكها في التعبير عن الجسد كفن وفلسفة جمالية. بين التمييز عن الجسد في كل حالة على حدة، والحيادية في النظر إلى الجسد في كل الحالات. تقول الروائية أحلام مستغانمي على لسان بطلها: «ورحت أقص لأول مرة قصة تلك اللوحة التي رسمتها ذات يوم، بعدما حضرت مرة، كما أفعل بين الحين والآخر، إحدى جلسات الرسم في مدرسة الفنون الجميلة، حيث يدعوني هناك بعض أصدقائي الأساتذة، كما يفعلون عادة مع بعض الرسامين، لألتقي بالطلبة والرسامين الهواة. كان الموضوع ذلك اليوم هو رسم موديل نسائي عار. وبينما كان جميع الطلبة متفرغين لرسم ذلك الجسد من زواياه المختلف، كنت أنا أفكر مدهوشا في قدرة هؤلاء على رسم جسد امرأة بحياد جنسي، وبنظرة جمالية لا غير، وكأنهم يرسمون منظرا طبيعيا أو مزهرية على طاولة، أو تمثالا في ساحة. من الواضح، أنني كنت الوحيد المرتبك في تلك الجلسة. فقد كنت أرى، لأول مرة، امرأة عارية هكذا تحت الضوء تغير أوضاعها، تعرض جسدها بتلقائية، ودون حرج أمام عشرات العيون؛ وربما في محاولة لإخفاء ارتباكي رحت أرسم أيضا. ولكن ريشتي التي تحمل رواسب عقد رجل من جيلي، رفضت أن ترسم ذلك الجسد، خجلا أو كبرياء لا أدري، بل راحت ترسم شيئا آخر، لم يكن في النهاية سوى وجه تلك الفتاة كما يبدو من زاويتي.. وعندما انتهت تلك الجلسة، وارتدت تلك الفتاة التي لم تكن سوى إحدى الطالبات ثيابها، وقامت بجولة كما هي العادة لترى كيف رسمها كل واحد، فوجئت وهي تقف أمام لوحتي، بأنني لم أرسم سوى وجهها. قالت بلهجة فيها شيء من العتاب وكأنها ترى في تلك اللوحة إهانة لأنوثتها: «أهذا كل ما ألهمتك إياه؟» فقلت مجاملا: «لا، لقد ألهمتني كثيرا من الدهشة، ولكن أنا أنتمي لمجتمع لم يدخل الكهرباء بعد إلى دهاليز نفسه. أنت أول امرأة أشاهدها عارية هكذا تحت الضوء، رغم أنني رجل يحترف الرسم.. فاعذريني. إن فرشاتي تشبهني، إنها تكره أيضا أن تتقاسم مع الآخرين امرأة عارية.. حتى في جلسة رسم !»». من الواضح، أنهم قلة نادرة من الحضور ذلك اليوم، الذين نظروا إلى الجسد المسرحي للفنانة لطيفة أحرار، كتحرر من نظرة الغريزة الجنسية إلى نظرة فنية، فلسفية، جمالية وحيادية، تكشف -ولو في اندهاش كبير- لكن دون غرابة، كيف توظف جمالية الجسد في سلاسل لعبور قناطر الحرية في التعبير عن مجتمع منفتح على فن الجسد عوض جسد الفن. وكل من ثرثر الكلام في عُرْي الجسد، أكيد أنه لم يهتم أثناء العرض سوى بجسد العرض، ومن ثرثر الكلام في عرض الجسد، أكيد أنه فهم وتفهم أثناء العرض لماذا عُري الجسد. وبين هؤلاء وأولائك غادر بعضهم خشبة المسرح تائهين وهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة. أما الذين لم يكونوا لا من هؤلاء ولا من أولائك وثرثروا في الكلام بعيدا عن خشبة مسرح دار الثقافة يومها وعن أصحاب الاختصاص، فإن الكهرباء لم تدخل بعد إلى دهاليز أنفسهم حسب بطل رواية «ذاكرة الجسد». (*) باحث بكلية الحقوق بمراكش، شاعر وناقد أدبي