ألقى الدكتور عزمي بشارة، المدير العامّ للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، صباح الخميس 19 مارس الجاري بمراكش محاضرة في موضوع «أدوار المثقفين في التحوّلات التاريخية» ، و ذلك في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السنوي الرابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي نظمه بالمدينة الحمراء المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، بحضور نخبة من الباحثين والأساتذة الجامعيين . حيث تمحورت أشغاله حول محورين أولهما يتعلق بأدوار المثقف في سياق التحولات التاريخية ، و الثاني حول الجامعات و البحث العلمي بالعالم العربي . و نظرا لأهمية ما ورد في هذه المحاضرة التي كانت بعنوان» مقارباتٍ نقديةٍ للرائجِ حول المُثقَّفِ «نقترح على القارئ فيما يلي نصها الكامل . سبق أنْ تناولتُ موضوعَ المُثقفِ بتوسّعٍ في مناقشتي لمسألةِ المثقفِ والثورةِ، ما اضطرني للعودةِ إلى التّصوّراتِ الرائجةِ حول المُثقفِ، ولا سيما في التمييزِ بينه وبين الخبيرِ والمتعلمِ. ويلتقي ذلك مع التصورِ الإيجابي في مقاربةِ المثقفِ في التقليدِ الفرنسي منذ عريضةِ إميل زولا الشهيرة»إني أتّهم»، والذي تعامل معالمثقف بوصفه سلطةً ضميريةً تستمدُ شرعيتها ليس من المكانةِ الاجتماعيةِ القائمةِ على الإنجازات العلميةِ والأدبيةِ وغيرها فحسب، وإنما أيضًا من اتخاذ موقفٍ نقديٍ من ممارسات السلطاتِ أو من الآراء المسبَّقةِ الرائجةِ على مستوى العالم. وبذلك يتحايثُ مفهومُ المثقفِ مع الموقفِ المعياري في المجالِ العامِّ بالضرورة. وأوجز هنا بعضَ ما توصلتُ إليه في تلك الدراسةِ مع بضعِ إضافاتٍ1: 1. إنَّسلفَ المثقفِ؛ بمعنى الوظيفةِ العموميةِ التي تكتسبُ شرعيّتَها من مكانةٍ متعلقةٍ بالعملِ في مجالات الإشاراتِ والمعاني والرموزِ، كما في العلمِ والثقافةِ، ليس الشاعرَ والأديبَ وكاتبَ السلطانِ، بل هو نمطٌ نقديٌ من علماءِ الدينِ أسَّس له تقليدٌ يقوم على اجتماع المعارفِ والسلطةِ الأخلاقيةِ، ويتلخَّصُ ب: «أفضلُ الجهادِكلمةُ حقٍ عند سلطانٍ جائرٍ»،في مقابلِ تقليدٍ آخرَ يتلخَّصُ بطاعةِ وليّ الأمرِ، وشرعنةِ مايقومُ به من ظلمٍ، والتمسكِ بالوضعِ السائدِ؛ وهو ماتعبِّرُ عنه مقولةُ: «سلطانٌ غشومٌخيرٌ من فتنةٍ تدومُ». وثمَّةَ استثناءاتٌ بالطبع. يختلفُ المثقفُ عن هذا السلفِ في أنَّه نتاجُ اجتماعِ مناهجِ المعرفةِ العلميِّةِ مع شغورِ وظيفةِ السلطةِ الأخلاقيِّةِ في المجالِ العمومي،بتراجعِ سلطةِ الجماعةِ الأهليِّةِ والمؤسَّسَّةِ الدينيِّةِ. كما تنشأُ الحاجةُ إلى هذه الوظيفةِ مع نشوءِ المجالِ العمومي في الدولةِ،وتنشأُ خارجَ السُلطةِ في الوقتِ ذاته، وذلك معن شوءِ التمايُزِ بين السلطةِ والدولةِ. ثمَّةَ تقليدٌ ممتدٌ أرساه مثقفون «عربًا» علمانيون ومتدينون وإصلاحيون إسلاميون، استغلوا مكانتَهم العلميِّةَ والأدبيِّةَ في التأثيرِ في المجال العامِّ باتجاهٍ تنويريٍ، وعلى أساسِ الجمعِ بين العقلِ النقديِّ والموقفِ القيميِّ في آنٍ معًا. ولا يجوزُ تجاهلُ هذا التقليدَ الحداثي منذ رفاعة الطهطاوي وفرنسيس المراش، مرورًا بالإصلاحيين محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا، ومثقفي المرحلةِ الليبراليةِ بين الحربين، وصولًا إلى المثقفين الذين انتقدوا الاستبدادَ والتخلفَ في مرحلتنا هذه. 2. إذا ميّزنا مصطلحَ المثقفين عن مصطلحِ الفلاسفةِ الذي استخدَمتَهُ الكنيسةُ في وصفِ مفكّري التنويرِ في القرنِ الثامنِ عشر،يمكن القول إنَّ ظاهرةَ المثقفين في الغربِ نشأت مع نشوءِ ظاهرةِ خريجي الجامعاتِ ومع التمايزِ الحاصلِ في أوساطهم بين المهنيِّينَ الخبراءِ المختصّينَ العاملينَ في خدمةِ سلكِ الدولةِ أو غيره، وبين من يشكِّلون المثقفينَ من بينهم؛ أي أولئك الذين انطلقوا نحو المساهمةِ في الصراعِ الفكري والثقافي والسياسي في المجالِ العامِّ. وقد نشأت الحاجةُ لوصفِ هؤلاءِ المتعلمينَ الفاعلينَ مباشرةً في المجالِ العامِّ من دون وساطة مساهمتهم المهنيِّة في روسياوفرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛فهي في روسيا «الإنتلجنسيا»، وفي فرنسا «الإنتيلكتويل». من المفيدِالإشارةُ هناإلى أنَّ الإنتلجنسيا في مفهومها الروسيّ كانت تشتملُ على متعلمينَ ذوي مستوى تعليمي متدنٍ أو أشباه متعلمين، وليس ماتوحيه الكلمةُ اليومَ من معنًى، وقد تغيَّر لاحقًا معنى الإنتليجنسيا وأصبحت تشملُ فئةَ المتعلمين والخبراء التقنيين عمومًا، بعد أنْ هيَّمن المصطلح اللاتيني ? الفرنسي،وأصبح عابرًا للغات والثقافات بتحوّلِ باريس القرن التاسع عشر إلى مركزٍ أوروبيٍ للمثقفينَ المنفيين، بما في ذلك المثقفون اليساريون والديمقراطيون والفوضويون الروس الذي لجأوا إلى باريس. 3. إنَّ مصطلحَ المثقفِ المقصودِ هو وصفٌ لفئةٍ من البشرِ تشكّلت تاريخيًا. وهو ليس مفهومًا علميًا لفهمِ الظواهرِ وتحليلها، بل نحن نصطلحُ عليها في وصفِ من يستخدمُ المكانةَ الناجمةَ عن العملِ في المعرفةِ لاتخاذِ موقفٍيؤثرُ في المجالِ العامِّ، وهو في الدولةِ الحديثةِ مجالٌ سياسيٌ قبل كلِ شيءٍ. سوف يكون علينا أنْ نثبتَ أنَّ مصطلحَنا للمثقفِ هو الأقربُ في تحديدِ خصوصيِّةِ هذه الفئةِ. 4. ليس هذا هومصطلحُ المثقفِ العضويّ الغرامشي؛ فالأخيرُ يعني تحديدًا المثقفَ المنحازَ للطبقةِ العاملةِ ومصالحِها من دون أنْ ينتمي إليها فعلًا، والذي يمكنه اتّخاذَ مواقفَ كونيةٍ نقديةٍ شاملةٍ لأنَّ مصالحَ هذه الطبقةِ كونيةٌ شاملةٌ حسب ماركس، وهو الذي يحاول تحقيق هيمنةٍ ثقافيةٍ لهذا الطبقة، ويساهم في تحقيق انتصارها. هذا المصطلح الذي سحرَ اليسارَ الجديدَ والنقديّ الجديدَ في مرحلةٍ ما،هو غير مصطلحِ المثقفِ كما نستخدِمُه. 5. صحيحٌ أنَّ الأكاديمي المختصَّ ليس بالضرورةِ مثقفًا؛ بمعنى أنَّه ليس بالضرورةِ قادرًا على توظيفِ معارفِه في صنعِ تعميماتٍ عقلانيةٍ يؤسَّسُ عليها مواقفَ معياريةً تحاول أنْ تؤثِّر في المجال العامِّ؛ أو ليس من مصلحته ذلك. ولكنْ يصحُ في المقابل أيضًا أنَّ المثقفَ في عصرنا لم يعد جامعَ معارفَ؛»من كلِّ بستانٍ زهرةٌ»، وأنَّه غالبًا ما يستقي مكانته من إبداعٍ في مجال تخصّصه تحديدًا. 6. لا معنى واضحًا لمقولة المثقفِ النقديِّ، فهذا تعبيرٌ غير مفهومٍ؛فالنظريةُ الاجتماعيةُ بطبيعتها نقديِّةٌ، بمعنى أنَّها تحليليِّةٌ، ويفترض أن تكون نقديةً للأيديولوجيا عمومًا. النقدُ يوجَّه عادةً لعالم الأفكارِ،فيمكن نقدُ أيديولوجية أو نظرية، أما نقدُ العلاقاتِ الاجتماعيةِ فهو الفعلُ الإراديُ ذاتُه، ويبدأ الفعلُ الإراديُّ بالموقف.وهناك فرقٌ بين المقولةِ هذه وبين القولِ بالوظيفة النقدية التي تشكِّلُ الإرادةُ مُحدِدَّها في التأثير. ويتّخذ المثقفُ مواقفَ تؤثِّر ُفي المجالِ العامِّ من منطلقِ معاييره الأخلاقيِّة.ولا تعدُّ هذه المواقفَ بالضرورة تعبيرًا عن اغترابٍ أو منفى. وقد تكون المساهمةُ في نقدِ الأفكارِ والتدخلِ في الأحوال في المجال العامِّ محافِظةً أو إصلاحيةً أو ثوريةً. وبهذا المعنى، فإنَّ موقعَ المثقفِ بموجب هذا المصطلحِ ليس بالضرورةِ موقعًا يساريًا أو ثوريًا أو غيره ... كما أنه ليس بالضرورة ناجمًا عن اغترابٍ أو منفى. 7. ثمَّةَ مثقفون مغتربون ومنفيون داخليًا أو خارجيًا، أو كلاهما؛ ولكنّ أغلبية من يُنظِّرون للاغترابِ والمنفى كشرطٍ للمثقفِ هم أساتذةُ جامعاتٍ اهتموا جدًا بترقيتهم أكاديميًا، وفعلوا كلَّ ما يلزم للحصول على الترقيةِ والتزموا قواعدَ النشرِ الجامعية؛ أي أنَّهم لم يتصرفوا بوصفهم مغتربين عن المؤسسة، بل كمنتمين جدًا لها. وهم يعملون في إطار الهامش الواسع جدًا الذي تتيحه المؤسسةُ الجامعةُ الغربيةُ لتطوير نظرياتٍ نقديةٍ للخطاب الأكاديمي ذاته؛وذلك بتوسيع ليبراليتها وقدرتها على الاحتواءِ حتى أصبحَ التيارُ النقديُ في بعض الجامعات الغربية هو التيارُ المركزيُ في العلوم الاجتماعية. لا منفى هنا ولا اغترابًا، بل ادِّعاءٌ. وبرأيي، فإنَّ نشوءَ مدارسِ ما بعد الحداثةِ التي نقلت قطاعًا من المثقفين من مواقفَ نقديةٍ جذريةٍ إلى نسبيةٍ ثقافيةٍ وعمليةٍ طرحَ أسئلةً تنتهي غالبًا بالتسليم بالواقع القائم بموازاة الانشغال بنقدِ النصوص،وهو تعبيرٌ عن التوفيق التلفيقي بين نقديةِ الأستاذِ الجامعيّ التي قد تصل حدَّ العدميِّة وبين واقعه المؤسسي الذي يصل حدَّالمحافظةِ وتكريس الانشغالِ بطقوسِ الجامعةِ الأميركية، ودورِ النشرِ الجامعية، وألقابِ الأكاديميةِ الغربية.الأستاذُ الجامعي الذي ينشر نظريات ما بعد الحداثةِ هو غالبًا منتمٍ بقوةٍ إلى المؤسسةِ الأكاديميةِ ومنشغلٌ بأكثر تفاصيلها الطقسية دقةً. وهذا على خلاف مثقفي القرن التاسع عشر الذين رفضتهم الجامعةُ أو دخلوا في صراعٍ معها من أمثال فويرباخ وماركس وديفيد شتراوس وشتيرنر وباور من الهيغليين الشباب، وكذلك في التقليد الفرنسي قبل فوكو ودريدا؛ أقصد من إميل زولا إلى سارتر ... وحتى أسلاف ما بعد الحداثة الذين انسحبوا من المؤسسة الجامعية مثل شوبنهاور ونيتشه. وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ عددًا من المثقفين الفاعلين في المجال العامِّ من دون ادعاءاتٍ هم من أساتذة الجامعات، وليس بالضرورة من مجالات العلوم الاجتماعية: من برتراند راسلوحتى نعوم تشومسكي. 8. ثمَّةَ علماءُ كبارٌ ثبتَ أنهم صغارٌ جدًا في تفاصيل الحياة اليومية. ولا بأس في ذلك، ولا علاقة له بعظمة الإنجاز العلمي. ولكنَّ بعض المختصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية غرق في هذه التفاصيل الصغيرة وجعلها أساسَ دورانه في حلقات مفرغةٍ من نهايةِ الذاتِ وحتى ما بعد البنائية. وبرأيي،فإنَّ هؤلاء في الواقعِ خبراءُ، ولكنهم خبراءُ في كيفية تحويل لتنظير إلى بديل من النظرية من جهة،ومن اتخاذ موقف في المجال العامِّ من جهة أخرى، وذلك بالتشكيكِ الذي يقودُ إلى العدميِّة.ويتحول لأخيرُبسهولةٍ إلى موقفٍ محافظٍ يدعو إلى عدم فعلِ شيءٍ، وإلى الاكتفاءِ بالجلوسِ على النقد ككرسي الأستاذية.واتخذت قلةٌ منهم مواقفَ واضحةً في المجالِ العامِّ وأدت دورَ المثقفِ المهتمِ بما يجري الآن وهنا، وليس بأثره العلمي أو الأدبي الذي يأملُ أن تكتشفه الأجيال القادمة؛ فالأثرُ العلمي يتعلق بمجالِ التخصصِ، وليس بدورِ المثقفِ. وفي المقابل، وبغض النظر عن موضوع التخصص، فإنّ أغلبية الموقعين على عرائض موجهة للرأي العام أو لصناع القرار في الدول الديمقراطية هم من أساتذة الجامعات ذوي المكانة العلمية. وهم غالبًا لا ينتمون إلى مدارس (أو مذاهب) فلسفية نقدية على أنواعها. 9. إنَّ ما يصنعُ المثقفَ ليس التوجّه الذي يدفعُ لتجنِّبِ اتخاذِ موقفٍ، بل الذي يدفعُ إلى اتخاذه، ولا سيما حين يتحرك الناسُ ضدَّ الظلم. واتخاذُ الموقفِ ضد الظلمِ ليس مبررًا لعدم اتخاذِ مواقفَ نقديةٍ تجاه حركة المظلومين، وتوجيه النقد للثورة ذاتها. إنَّ ما يدفعُ إلى ذلك هو المركَّبُ العقلاني التحليلي في وظيفةِ المثقفِ،والذي يشخِّص الحالةَ الاجتماعيةَ ويتناول المسارَ بالتحليلِ ويضعُ التوقعات،وكذلك المركَّبُ الأخلاقي المعياري الذي يدفعُ المثقفَ إلى اتخاذِ مواقفَ نقديةٍ من ممارساتٍ مدانةٍ في الثورة ذاتها. 10. الفنانون الذين يؤدون أنواعًا مختلفةً من مخاطبةِ الحسِّ الجماليّ، أو مخاطبةِ الغرائزِ، ب «الترفيه» والإمتاع أو الاستفزاز الموجّه لفئاتٍ مختلفةٍ على أنواعهم يحملون شبهةَ البراءةِ في عالمٍ من الصراعات على المصالح، وكأنه ليس لديهم ارتباطٌ بمصالحَ خاصة. ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء مثقفين، ولا حتى متعلمين. يأتي الالتزام هنا كوظيفةٍ خارجيةٍ للفن، إنها وظيفةُ الفنانِ بوصفه مثقفًا يقررُ أن يؤثرَ عبر الفن، أو إذا أصبح مثقفًا لديه وظيفةٌ أخرى كمواطنٍ لا يكمنُ دورُه الفاعلُ في المجال العامِّ في الفن ذاته، مثلما هي ليست كامنة في أي اختصاص بحد ذاته. ليس الالتزام بنيويًا للفن الذي يخاطب الحسَّ الجماليّ، ولكنه يميزُ الفنانَإن كان مثقفًا. ولأنّ «اختصاصَه» ذهنيٌ، وهو أداةُ اتصالٍ وتأثيرٍ في الوقت ذاته، فيمكن أن تؤثرَ ثقافتُه في فنِّه لكي يؤدي الأخيرُ دورًا في المجال العامِّ. 11. الأعمالُ المؤثرةُ الأدبيةُ والفنيةُ والعلميةُ الكبرى لم تكن ملتزمةً المعنى الذي يُنسب للمثقفين في عصرنا. فهؤلاء لم يكتبوا عرائضَ ولا اتخذوا بالضرورة مواقفَ في المجال العامِّ. ومن هنا، فإنَّ موقفَ المثقف متحررٌ من حسابات ترك أثر ما للأجيال القادمة، ويفترض أن يكون متحررًا من حسابات المكانةِ العلميةِ والأدبيةِ. فنحن نتوقعُ منه أن يتصرَّف كمواطنٍ يتمتع بقدراتٍ معينةٍ ومكانةٍ معينةٍ في قضيةٍ راهنةٍ الآن وهنا (هنا هذه قد تتسع لتشمل ما يجري في دولٍ أخرى، أو ما يجري للإنسانية كافة). 12. إنَّ أخطر ما يمكن أنْ يحدثَ للمثقفين هو الاستجابةُ لإغراء التحلّل من المسؤولية، وذلك تجنبًا لمحاسبة الجمهور. وبهذا المعنى، فإنَّ المسؤول هو السياسي والاقتصادي ورجل الأعمال ورجل الأمن، وهم الذين تجب محاسبتهم من لدن الجمهور بموجب تحديدات جيرار ليكليرك للنخبة المسؤولة وغير المسؤولة. هنا يحاكي المثقفُ الفنانَ؛ إذ يريد أن يتحوَّل إلى نجمٍ يستفيدُ من الشهرة ولا يُحاسَبُ بموجبها، وهو يدخلُ المجالَ العمومي بهذه الشروطِ؛ مثلُ الفنانين في إطارِ النخبةِ غير المسؤولةِ2. وهنا بالضبط يخون المثقفُ وظيفتَه القاضية بتحمِّل المسؤوليةِ عن مواقفه في المجال العامِّ. 13. يغيب في العالم العربي التمييز بين المثقفِ المحافظِ الذي يمثلُ تقاليدَ الدولةِ، والذي يعارض التغيير المُبادَر إليه من الشعب ويعتبر الحكمةَ كامنةً في الدولة من جهة، وبين مثقف الأنظمةوأجهزة الأمن الذي يبرِّر قمعَ حركةِ المظلومين من جهة أخرى. إنّ انعدامَ تقاليدِ دولةٍ تستندُ إلى شرعية تمثيل الأمةِ، غيَّب أيضًا دورَ مثقفي الدولة؛ فهؤلاء في الوطن العربي هم مثقفو سلطة. لن أضيف إلى هذه القضايا سوى مسألةٍ واحدةٍ نظريةٍ سوف أشتقُها من دور المثقف العربي في المرحلة التاريخيّة المفصليّة التي تعيشها بلداننا وشعوبنا، وأقصدُ تحديدًا تحوّلَ انتفاضات التغيير والثورات من أجل الحرية إلى حروبٍ أهليةٍ في الدول الهشَّة ذات الجماعات الأهلية القوية، وتسرّبَ جماعاتٍ متطرفةٍ في الفراغ الحاصل كنتيجةٍ لضعف الدولة وتراجع هيبتها في مرحلةٍتم تجاوز حاجزِ الخوفِ قبل أن يَطرحَ البديلُ نفسَه بقوةٍ. تعرفنا على نمطين سلوكيين للمثقف في هذه الظروف: أولهما، التحولُ إلى الدفاعِ عن الوضعِ القائمِ انطلاقًا من اقتناعٍ مفاده أنّ الكارثةَ مصدرُها محاولةٌ غير ناضجةٍ لتغييره. لا يشخِّصُ هذا المثقفُ بالتحليل سببَ هشاشةِ الدولةِ، ولا يحلّلُ مسؤوليةَ خيارِ النظامِ القمعي عن تحوّل الثورات إلى العنف؛وهو الأمر الذي يمكن التوصّلُ إليه بالتحليل العقلاني حتى قبل الإدانة الأخلاقية. وبهذا ينسحب من دوره الترشيدي العقلاني. ويعدُّ الأمرُ الأكثرُ خطورةً غيابُ التضامن مع تطلعِ الشعوبِ لإنهاء حالةِ الظلمِ، وتجنّبِ إدانةِ النظامِ الحاكمِ بوصفهالمسؤولَ عن حالةِ الظلمِ والفسادِ، وبوصفه مسؤولًا عن تبعات الخيار الأمني القمعي. يجري هنا التهرّبُ من مسؤولية الموقف باتهام من تطلّعوا للتغيير. وهي آليةٌ معروفةٌ في الوعي اليومي غير المثقف،والذي يزيّن لذاته أنّ قبولَ الوضعِ القائمِ والخضوعِ للظلم هو الأمرُالطبيعي، وأنَّ محاولةَ تغييره هي التي تتحمّلُ المسؤوليةَ عن الجرائم التي ارتكبت في قمعها، وليس من ارتكب هذه الجرائم من حرّاسِ الوضعِ القائمِ الذين انضمَ إليهم هذا المثقفُ في الواقعِ. ثمَّةَ مثقفٌ آخرَ يقفُ مع الثورةِ ضدَّ الاستبدادِ والفسادِ ويتماهى مع عدالةِ قضيتها، ويرى مسؤوليةَ الأنظمةِ التي تسدُّ أفق التغيير وتلجأ للعنفِ عن تدهورِ الثورةِ في منزلقاتِ الفوضى والتطرفِ. ولكنَّه يكتفي بشرحِ أسبابٍ موضوعيةٍ للفوضى والتطرفِ، ولا يرى أنَّ الأفرادَ الأحرارَ الذين قاموا على النظامِ مسؤولون أيضًا عن أفعالِهم وأخطائِهم، هنا يتحول التفسيرُ إلى تبريرٍ. وتكمنُ الصدمةُ حين نكتشفُ عند تحليلِ موقعِ المثقفِ أنه في بعض الحالات يتخذُ المواقفَ أعلاه كنتيجةٍ لمشاركته الواعيةِ أو غير الواعية في عصبياتٍ من أنواعٍ مختلفة. إنَّ قدرةَ المثقفِ على اتخاذ «مسافة نقديةٍ» من العصبيات القائمة في أي مجتمعٍ، سواء كانت طائفيةً أو عشائريةً أو حتى أيديولوجيةً حزبيةً، هي من أهم شروط القيام بدوره، بمركبيه العقلاني والمعياري. فالعصبياتُ التي تعني انحيازًا مسبَّقًا تتناقضُ مع أحكامِ العقلِ، ومع أحكامِ الأخلاقِ في الوقت ذاته. إنَّ المشتركَ الوحيدَ بينهما - كما يبدو والذي لم يره إيمانويل كانْت - هو تلك المسافةُ الحاسمةُ التي يجب اتخاذُها من العصبيات. وهنا تحديدًا تكمنُ خصوصيةُ وظيفةِ المثقفِ التي تميّزه عن العالمِ الخبيرِ من جهة، وعن الداعيةِ السياسي أو الديني من جهة أخرى. إنها كامنةٌ في الجمعِ بين ما يفْصِله نقد العقل البشري، والذي يكشف حدودَ ملكاتِه المختلفةِ النظريةِ والعمليةِ والجماليةِ.فالعلمُ وأحكامُه منفصلةٌ عن قضايا العقائدِ والأحكامِ الأخلاقيةِ الحرةِ. والأحكامُ الأخلاقيةُ الحرةُ مفصولةٌ تمامًا عن ضروراتِ العقلِ.في حين تكمن خصوصيةُ المثقفِفي الجمع بين الوظيفتين: التحليلُ العقلانيُ القائمُ على ملكاتِ العقلِ، والموقفُ المعياريُ القائمُ على حكمٍ أخلاقيٍ حرٍ. وهو لا يقوم بتوحيدهما، وإذا حاول فعلَ ذلك فسوف يخسرُهما معًا، كما يحدثُ لمَنْ يحوِّلُ المواقفَ الأيديولوجيةَ إلى نظرياتٍ علميةٍ بديلةٍمن العلم، أو مَنْ يحوِّل الدينَ إلى برنامجٍ سياسيٍ ... بل يجمعُ المثقفُ بينهما في وظيفته الاجتماعية. والشرطُ لكي يتمكّن من الجمع بين التحليل العقلاني والموقف المعياري هو تحرُّره من العصبيات التي تخنقهما في المهدِ. ليست المسافةُ المطلوبةُ من العصبيةِ هي الخروج عن الانتماءِ إلى الثقافةِ التي تنتمي إليها الذاتُ المفكِّرةُ وموضوع النقدِ. فالانتماءُ الثقافيُ شرطُ المثقفِ. ولا مثقفَ من دون ثقافةٍ. كما أنَّه لا وجودَ لمثقفٍ عالمي إلا كنفيٍ مجردٍ، أو كاستغلالٍ لثقافةٍ مهيمنةٍ يبرزُ المثقفُ العالميُ بسبب هيمنتِها وليس بسبب هيمنتِه هو. هوامش: 1 نشرتها في الطبعة الجديدة من كتاب الثورة والقابلية للثورة،وكذلك في مجلة تبيّن. انظر: عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة(الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الثانية، 2014)؛ وعزمي بشارة، «عن المثقّف والثّورة»، مجلة تبيّن، العدد 4(ربيع 2013)، ص127-142. 2جيرار ليكليرك، سوسيولوجيا المثقفين، ترجمة جورح كتورة (بيروت: دار الكتاب الجديد،2008)، ص90. س