بدأت الأمور الجدية تظهر أكثر في مسابقات جوائز مهر مهرجان دبي للسينما في دورته الرابعة. وإذا كانت لجنة تحكيم جائزة المهر الخاصة بالأفلام الأفرو- آسيوية، تعرف نقاشات قوية بين أعضائها كما علمت جريدتنا، بسبب قوة الأفلام المتنافسة، خاصة الأفلام الإيرانية والهندية والكورية واليابانية وفيلم آخر من جنوب إفريقيا وتحفة فنية من تشاد للمخرج محمد صالح هارون (فيلم «رجل صارخ»). فإن لجنة تحكيم مهر الأفلام العربية الطويلة، التي يرأسها المخرج الفلسطيني الكبير ميشيل خليفي، الذي دخل في مشاحنة كلامية حادة جدا ومستغربة مع الزميل الصحفي نديم جرجورة من يومية «السفير» اللبنانية، بسبب مقالة انتقادية نشرها حول فيلمه الفائز السنة الماضية، تجد نفسها أمام اختيارات أسهل، كون أغلب الأفلام العربية الطويلة لا تشكل فرصة للتنافس الكبير، وأن النقاش الفني الصارم الذي تبنته هذه اللجنة، يجعل عدد تلك الأفلام لا يتجاوز الخمسة، ضمنها فيلمان مغربيان (هما «براق» لمحمد مفتكر و «عند الفجر» للجيلالي فرحاتي)، فيما باقي الأفلام القوية آتية من سوريا ولبنان. الحقيقة أن عرض الفيلم السوري «دمشق مع حبي» ليلة الخميس بإحدى قاعات مسرح دبي بالجميرة، وهو مسرح كبير وجميل، قد قلب الكثير من المعادلات، ويستطيع المرء الجزم أنه شريط منافس بشكل فني رفيع على الجائزة الكبرى للمهر العربي في هذه الدورة. فهو شريط مبني بلغة سينمائية جد رفيعة واحترافية، بل إنها تنضح عن جدية هائلة في التعامل مع موضوعة السينما كفن وكإنتاج وتقنيات صورة وصوت وحوار، ثم تحرك الشخوص والتحكم فيها وتوجيهها. وفي هذا الباب، كان هذا الفيلم السوري لمخرجه الشاب المقيم بدمشق، محمد عبد العزيز، ناجحا تماما ومتوفقا إلى أبعد الحدود. والكل هنا ينتظر عرض الشريط المغربي «براق» الذي سبقته شهرته الفنية، كونه سبق بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للسينما المغربية بطنجة. ومن خلال تتبع جريدتنا لمختلف التعاليق بين الفعاليات النقدية العربية والإفريقية والأسيوية (خاصة الإيرانية)، فإن الرؤية إلى السينما المغربية جد إيجابية، كونها تصدر عن رؤية فنية مخالفة للسائد في كل خريطة الإنتاج العربية، مواضيع وتقنيات وجرأة في التجريب كما أكد مصدر نقدي إيراني. مثلما أن الكثيرين هنا، ينتبهون لمعطى قليلا ما نعيرهم اهتماما عندنا، هو ما تمنحه الطبيعة المغربية وفضاءات المدن والبوادي المغربية من خصوصية ثقافية على مستوى العمران والعلائق واللباس. فهذه نقط قوة تميز المنتوج السينمائي المغربي لا تتوفر للكثير من التجارب الفنية العربية الأخرى. بعض النقاش الحامي هنا، تطرحه المشاركة المصرية، خاصة بين النقاد المصريين، الذين يطرحون أسئلة قد نراها نحن مثيرة بعض الشئ، حول تيمات الأفلام المصرية مثل«ميكانو» و«خروج» و« 678». وهي كلها تيمات دينية محضة، تثير بعضا من أسباب القلق حول الرؤية الفنية والمجتمعية في مصر على مستوى التعامل مع أسئلة القيم العمومية اليوم. فالجميع هنا - وحين نقول الجميع فليس في الأمر مبالغة - يتعامل بحساسية كبيرة مع السؤال القبطي في مصر، مثلما يتعامل مع السؤال الأخلاقي في العلاقات بين المرأة والرجل بمرجعية متشددة دينيا بحساسية عالية. وبدلا من أن يكون النقاش منصبا حول الشروط الفنية اللازمة لأي عمل سينمائي، تنحصر الكثير من النقاشات (بعضها انفعالي مثير) حول مضمون تلك الأفلام بمنطق تخويني، فئوي ونكاد نقول عنصري. فأن يطرح فيلم «خروج» الذي أدت فيه الممثلة المغربية بوزيان دورا صغيرا، قصة علاقة غرامية بين فتاة قبطية وشاب مسلم، فإن ذلك يعتبر مناسبة لكلام ينبني على أحكام قيمة، تقلق فنيا ومعرفيا بشكل كبير. مثلما أن موضوعة التحرش في حافلات النقل العمومي في مصر، في فيلم « 678» (وهو رقم خط إحدى تلك الحافلات)، تتم مقاربته بغير قليل من الرؤية الأخلاقية المحدودة الأفق تحليليا. ولعل بعض الجواب يجده المرء في المشروع القادم لمخرج الفيلم محمد دياب، الذي تمكنت جريدتنا من اقتناص خبر توقيعه في دبي لمشروع تعاون تلفزيوني وسينمائي بين هذا المخرج الشاب والداعية المصري الشهير عمرو خالد. فيما أثار الشريط السوري الجميل والفاتن «دمشق مع حبي»، نقاشا آخر أكثر عمقا وأرصن على مستوى الرؤية الفنية والقيمية والسياسية، كونه يقدم خلاصة مركزية من خلال قصة علاقة حب قاومت الزمن، بين شابة يهودية سورية وشاب مسيحي سوري، مفادها أن هذه البلاد ظل يجمع بين أبنائها الإنتماء للوطن وسقفه، وأن قوة اللحمة المجتمعية ظلت في قوة التعايش السلس بين الجيران المسلمين واليهود والمسيحيين في حارات دمشق القديمة غير بعيد عن المسجد الأموي. هنا تعزز مرة أخرى النقاش القيمي في مجتمعاتنا العربية اليوم، ومدى تحقق مكرمة التعايش بين أبناء البلد الواحد، بمختلف اختلافات الفكرية والسياسية والدينية.