هدوء حذر يخيم على المدينة؛ لحظات عصيبة تلك التي عاشها المواطنون هنا بالجنوب المغربي وهم يشاهدون عمليات حرق وتقتيل؛ وهم يشاهدون كيف تحولت المدينة الهادئة الى ساحة حرب عصابات إن صح التعبير، أتقنت التحرك في اتجاه مناطق منتقاة بدقة ووفق توجيه مركز من طرف عناصر معينة. الجميع كانوا يصرخون :الملثمون مروا من هنا؛ بعيدا عن المسيرة الاحتجاجية التي انطلقت من المخيم بعد تفكيكه. استعادت المدينة هدوءها لكن بحذر وبكثير من الترقب؛ واستعاد النشاط التجاري والادارات العمومية وشبه العمومية عملها، لكن الكل لايزال تحت الصدمة ويتساءل: كيف وقع هذا؟ وكيف تطورت الأمور الى هذا الحد؟وما حقيقة هؤلاء الملثمين الذين زرعوا الرعب داخل المدينة وقبلها داخل المخيم؟ وما علاقة مجموعة من العائدين من مخيمات الاحتجاز بتندوف بعمليات التخريب والقتل ؟ وهل صحيح أن مرتزقة البوليزاريو من خلال انفصاليي الداخل تمكنوا من استغلال تجمع احتجاجي لمواطنين مغاربة وحاولوا تحويله الى وضع قائم والمزايدة عليه في المنابر الدولية؟ وماهو الموقف الذي ستتخذه الدولة في مواجهة تسرب المخابرات الجزائرية وعناصرها الى المخيم من خلال ميليشياتها الخاصة؟ تلك خلاصة أسئلة رصدتها جريدة الاتحاد الاشتراكي من قلب مدينة العيون مباشرة بعد العاصفة. تفاصيل ننقلها بدقة من خلال رحلة كانت غير عادية منذ البداية.. رحلة الى قلب الحدث.. جالسنا المواطنين منهم من تحدث بهوية مكشوفة؛ ومنهم من فضل الحديث من دون كشف هويته لاعتبارات خاصة نحترمها؛ لكن الأكيد أن الجميع هنا يستنكر العمل الاجرامي الذي يقول البعض عنه هنا بأن لمسات الجماعات المسلحة الجزائرية بادية على كل جريمة من الجرائم المرتكبة في حق الوطن.. اليكم التفاصيل: الرحلة من مدينة الدار البيضاء الى مدينة العيون عبر الطائرة لم تستغرق أكثر من الساعة والربع؛ لكن الوصول من محطة القطار الدارالبيضاء المسافرين الى مطار محمد الخامس استغرق أكثر من ساعتين بقليل نتيجة عطل في السكة الحديدية توقف القطار على إثره كدنا معها أن نتخلف عن موعد الرحلة. وصلنا في اللحظة الأخيرة؛ حركة المسافرين عادية إلا من مركز تسجيل المسافرين المتجهين الى مدينة العيون. فعلى غير العادة توجد الى جانب المكلفة بالتسجيل عناصر أمنية بلباس مدني يدققون في هويات المسافرين الى الجنوب المغربي؛ بمجرد تقديم بطاقتي الوطنية(النموذج القديم والتذي يتضمن طبيعة مهنتي) الى المكلفة بتسجيل الركاب حتى التقطها أحد العناصر الأمنية مستفسرا إياي عن سبب الرحلة الى مدينة العيون، في نفس الوقت الذي كان يدون بياناتي الخاصة في ورقة منفصلة قبل أن يناولني إياها وأتسلم تذكرتي لأستقل الطائرة بعد ذلك. نفس التدابير الأمنية المشددة في كل مراحل الرحلة عند ولوج قاعة الاركاب؛ عند امتطاء الحافلة التي أقلتنا الى الطائرة.. وسط الطائرة قبل الاقلاع وأخيرا عند الوصول الى مطار العيون. رحلة العزاء في أحد شهداء الواجب على متن الرحلة كانت تتواجد معنا جدة الشهيد ياسين بوكطاية، جاءت لتتقبل العزاء في حفيدها ، لم تتوقف عن البكاء طيلة الرحلة.. حكت لنا بعيون دامعة كيف تلقت العائلة نبأ الاغتيال وكيف كانت معاناة العائلة بمدينة الكارة وتفاصيل رحلتها الشاقة من الكارة الى مطار محمد الخامس وأشياء أخرى تذكرها بالفقيد. كانت لحظة عزاء جد مؤثرة بمطار العيون عندما التقت والد الشهيد وتعانقا بحرارة يخففان عن بعضهما البعض؛ اغرورقت عيون مجموعة من المسافرين بالدموع من شدة تأثرهم بالموقف. رافقناهم الى المنزل؛ ففي منزل الشهيد الواقع قرب ثكنة الوقاية المدنية، استقبلتنا العائلة وسكان الحي بجو جنائزي مهيب . كان الوالد شبه منهار ومع ذلك كان يحاول أن يتغلب على الوضع وتمالك نفسه، وكان يخاطب حماته قائلا :لقد مات شهيدا، لقد مات شهيدا، غير أنه أجهش بالبكاء كلما تذكر الموقف أو كلما بادرناه بالسؤال عن تفاصيل الحادث : يقول والد الشهيد:«.. لقد كان الشهيد حسن الخلق (كان مرضي)، كان بشوشا وكان يتهيأ لحفل زفافه. لقد مات وسط الاحداث ولم نتلق الخبر في حينه نظرا لتسارع الأحداث وتطورها في اتجاه التصعيد.. أنا فخور لأن ابني استشهد دفاعا عن بلده. لقد كان ياسين يقف، رفقة شقيقه، وزميل لهما، قرب المخيم، ولا يحملون أي شيء في أيديهم، لا عصي ولا غيرها، قبل أن يفاجئه اثنان من الملثمين بحجر على الرأس، غير أن شقيقه أفلت من قبضتهما، بينما سقط الشهيد ياسين قبل أن يدهسانه بسيارة رباعية الدفع». أحد شهود عيان أوضحو لنا أن الشهيد لم يتم التمثيل بجثته كما حدث لبعض الضحايا الآخرين. جولة ليلية بعد العاصفة الحياة عادت الى طبيعتها هنا.. الجميع يلملم الجراح أهالي وسلطات؛ انتهت رسميا عمليات التخريب الممنهج ولم تبق الا بعض المناوشات هنا وهناك مع بعض الملثمين، لكن عملية البحث عن الفارين الذين اندسوا وسط الحركة الاحتجاجية السلمية للسكان والذين تسببوا في تأجيج الوضع، مازالت مستمرة. بمجرد وصولي الى الفندق ربطت الاتصال بأحد معارفي، لم أشأ أن أخلد للنوم قبل أن أعاين بأم عيني الأوضاع ليلا؛ جالست في احدى المقاهي مجموعة من الفاعلين الجمعويين والنقابيين، كان من بينهم مصابون في الأحداث الأخيرة. دار النقاش بيننا حول مجموعة من الأمور: طبيعة الأحداث وخلفياتها الحقيقية وأمور أخرى تتعلق بالوضع العام. على خلفية الأحداث انخرط الجميع في حديث صريح وشفاف قبل أن أغادر رفقة مرافقي وأقوم بجولة عبر المناطق التي تعرضت للتخريب. انطلقنا من بداية شارع مكة في اتجاه طريق السمارة؛ تمت إزالة مجموعة من مخلفات الدمار من سيارات وشاحنات محروقة، كان باديا أنه كانت هناك أياد خفية توجه المخربين نحو أهداف بعينها، جميع الادارات العمومية كانت مستهدفة؛ ومحلات تجارية بعينها دون غيرها، آثار الحرائق مازالت بادية بكل من المركز الجهوي للاستثمار؛ الأكاديمية الجهوية للتعليم؛ محكمة الاستئناف؛ مقاطعة بوكراع؛ الدائرة الأمنية الثانية؛ الأبناك ومجموعة من المؤسسات الأخرى والعمارات. يتساءل المرء وهو يشاهد بأم عينيه كل هذا الدمار: كيف تم كل هذا؟ لاحظنا تواجدا مكثفا لعناصر الجيش من دون سلاح على طول شارع مكة قبالة مقر الجهة الذي لم يسلم بدوره من التخريب . عرجنا على شارع جمال الدين الأفغاني، فحي الوفاق حيث يقطن العائدون من مخيمات تندوف؛ شارع اسكيكيما؛ شارع البير الجديد؛ حي التعاون، سوق الرحبة بين حي بوكراع واسكيكيما حي معطا الله فشارع المغرب العربي.. تلك أهم المناطق التي زرناها ليلا كانت الأمور عادية بها إلا من آثار الخراب. تفاصيل الاثنين الأسود على لسان شهود عيان تتعدد الحكايات حول حقيقة ما وقع لكنها تتفق في نقطة واحدة وهي أن التخريب كان أكثر من أن يوصف. يتساءل المواطنون الأبرياء هنا إن كانت المؤامرة التي حيكت ضد الساكنة المغربية هنا بالجنوب قد توقفت عند هذا الحد، أم أن أعداء الوطن يحيكون الدسائس لهذا المجتمع المسالم في قلب الصحراء المغربية؟. محمد سالم ليست لي معرفة سابقة به ، التقيته بحي الرحمة كان مترددا في سرد الأحداث التي رافقت عملية ازالة مخيم ايكديم ايزيك بالعيون إلا أنه صرح للجريدة بقوله ليس هذا هو المخيم الأول الذي تم نصبه بمدينة العيون؛ فقد تم نصب مخيم سابق خارج المدينة في اتجاه مدينة طرفاية تعاملت معه السلطات المحلية بمسؤولية وتجاوب المعتصمون مع مبادرات الدولة وانتهى المشكل، وان كانت متابعة تحقيق المطالب مازالت سارية للآن.» لمعرفة حقيقة المؤامرة هنا يجب الربط بين الاحداث والوقائع، فالمخيم انطلق وحدويا وكان الهدف من ورائه مطالب اجتماعية مشروعة . حقيقة طال أمد المفاوضات، لكن كانت هناك مطالب لآلاف المغاربة من الصحراء. الوفود الرسمية تفهمت الوضع وانطلقت عملية الاحصاء، بل هناك من استفاد بالفعل من بقعة أرضية وبطائق للانعاش، إلا أنه ظهر في الأخير أن المخيم تسلل إليه ليس دعاة الانفصال، بل عناصر تتخابر مع الجزائر والبوليزاريو وكان الجميع يشك في حقيقة ونية البعض في الزج بالمخيم في متاهة سياسية انفصالية بل كان بعض الملثمين لايخفون ابتهاجهم بطول فترة المخيم ، وأظن أن ذلك كان يدخل ضمن أجندة سياسية جزائرية. فبحسب التصريحات التي استقيناها من هنا وهناك، فإن اللعب على عامل الوقت كان باديا منذ الأسبوع الثاني للاعتصام؛ وقد تصدت مجموعة من المغاربة لمحاولات البعض تسييسه، خاصة بعد أن بدأ الحديث عن مخيم اللاجئين ، وكيف أن على الجميع التحلي بالصبر لربح الوقت؛ ولكي لاتنكشف المؤامرة لم يتم رفع الأعلام الانفصالية، وحتى عندما حاول بعض المواطنين رفع الاعلام الوطنية انتفض بعض الملثمين واعتبروا الأمر استفزازا لهم وأمرا غير مقبول، وهنا بدأت اللعبة تظهر للعيان. وفي تعقيب على هذا الوضع، صرح لنا محمد سالم بقوله :« توصلت لجنة الحوار الى خلاصات مهمة، لكن مجموعة ممن يحاولون ربح الوقت لتحقيق مكاسب سياسية منعونا من المغادرة، قائلين لنا من يغادر سيترك خيمته قائمة وليترك المخيم من دون حاجياته.. هنا قاطعه رفيق له لم يفصح عن اسمه قائلا : لقد اتفقت لجنة الحوار مع السلطة المحلية والمنتخبين على أن تتم زيارة المخيم، والقيام في عين المكان بعملية احصاء دقيق للمواطنين ومطالبهم، وبالفعل تقدم الوالي أجلموس الوفد في زيارة له يوم الجمعة، ونقل الى المخيم فريقا من الموظفين مجهزين بحواسيب وبمولدات كهرباء لتنفيذ بنود اتفاق لم تقم لجنة الحوار بالتوقيع على مذكرته الا أن مجموعة الملثمين قامت بتشكيل سلسلة بشرية حالت دون اللجنة التي يتقدمها الوالي والسكان الذين عبر مجموعة منهم عن رغبتهم في انجاز الاحصاء ؛ كانت الأمور ستتطور لحظتها الى مالاتحمد عقباه بعد أن وقعت بلبلة وشاهد الجميع كيف أن أحد الملثمين حاول غير مامرة استفزاز الوفد، وكيف أن نظراتهم كانت تنم عن أن الأمر لايتعلق برغبة في ايجاد حل، بل في تأزيم الوضع ولم تهدأ الأمور الا بعد أن تدخل والي الأمن بالمخيم ) يذكر أن القائمين على المخيم كانوا قد عينوا واليا للأمن ورئيسا للشرطة القضائية وقيادا ورؤساء دوائر _ وأمر كل من يريد التحاور مع اللجنة الانصراف معهم؛ فلم يتحرك أحد من أعضاء لجنة الحوار. يذكر أنه تم احداث بالمخيم لجنة المفاوضات ولجنة اتخاذ القرارات ولجنة التبليغ.) انصرف الجميع فكانت آخر فرصة لطي الملف قبل إعطاء الضوء الأخضر بتفكيك المخيم.وبالفعل تدخلت مختلف القوات وعناصر المطافئ صبيحة الاثنين، حيث تم تفكيك المخيم بطريقة جد متقنة لدرجة أنه لم يسقط جريح أو قتيل في صفوف المدنيين بعكس القوات التي بالغت في ضبط النفس معرضة حياتها للخطر، الأمر الذي أدى لسقوط قتلى في صفوفهم. مصدر أمني مطلع أفادنا بأن الميليشيات الملثمة كانت قد أعدت خطة لحرق المخيم بمن فيه حال وقوع هجوم من قبل القوات المغربية، وذلك للتسبب في مجزرة بشعة واتهام المغرب بالمسؤولية عنها، وهو ماتم الانتباه إليه خلال عملية التدخل، حيث تم تحديد مكان المئات من الزجاجات الحارقة المعدة لهذا الغرض، وانطلقت طائرة الهيلكوبتر في حث المواطنين على المغادرة، وتحركت وحدات خاصة في اتجاه موقع الزجاجات، حيث سبقت الميلشيات الملثمة وهو الأمر الذي جعلهم يفقدون السيطرة على أعصابهم، ويهاجمون بشكل مباشر العناصر الأمنية بالسيوف. لتتحرك بعد ذلك مسيرة في اتجاه المدينة، ولتنفذ مخططا تخريبيا دقيقا للغاية، حيث كان الملثمون يتحركون بين الأحياء وينشرون الرعب بين السكان ويحثونهم على الانتفاضة وإحراق كل من يصادفهم من رموز الدولة أو من سموهم هم بالمعمرين. للسكان وجهة نظر مازالت لجنة احصاء الأضرار التابعة لمختلف ادارات الدولة تحصي الخسائر والمقدرة بملايير السنتيمات، في الوقت الذي فتح نقاش واسع في العيون حول إن كان ماجرى سيشكل قطيعة مع السياسات التي كانت متبعة لمعالجة الوضع بالأقاليم الجنوبية. أهل الوادي احميدة البالغ من العمر 46سنة صرح للجريدة قائلا «أعتقد أن هذه الأعمال تجاوزت الحدود لأن العناصر المخربة ارتكبت جرائم لم نكن نتوقعها، لقد أضروا بأبناء المدينة في تجارتهم ومساكنهم وزرعوا الرعب. لقد كنت من سكان المخيم وحين اكتشفت أن اللجنة التي تحاور السلطات باسمنا لاتريد حلا وتعرقل الأمور في كل مرة، خاصة عندما زارنا مجموعة من المسؤولين انسحبت بمعية أفراد أسرتي يومين قبل الأحداث وأرغمونا على ترك أثاثنا هناك. لقد أضعنا 20 يوما هناك ، لكن اللجنة المحاورة كانت لها أهداف أخرى. من جهته أكد لنا السيد يحضيه ولد محمد سالم الجكاني أن« هذه الأعمال الاجرامية لاتمت للمجتمع الصحراوي بصلة. نعم لقد كانت هناك احتجاجات سنة 1999 و 2005 لكنها كانت احتجاجات اجتماعية للمطالبة بالحق في الشغل والنقل للطلبة والسكن الجامعي، لكن هذه الأحداث تحولت الى مطالب سياسية لأقلية انفصالية بدعم من المهربين وعناصر المخابرات الجزائرية، ونحن أبناء الصحراء ندين ونشجب كل هذه الأفعال، ونطلب من المسؤولين أن يواصلوا حل المطالب الاجتماعية للسكان، وأن تضرب بيد من حديد على انفصاليي الداخل كما يسمون أنفسهم». من جهته أحد الشباب من مدينة العيون ويسمى ديدي محمد سالم صرح للجريدة بأن لا أحد يمكنه أن يقف سلبيا دون أن يستنكر ماحدث. فمطالب اجتماعية للسكان أمر مشروع ، لكن الفوضى وركوب البعض على هذه المطالب لتحقيق مصالح خاصة أمر مرفوض، وعلى الدولة أن تأخذ بعين الاعتبار كل مطالب المغاربة في الصحراء وأن تتعامل بجدية أكبر معها. هذه هي مدينة العيون بعد العاصفة منتديات ونقاشات واسعة مفتوحة بين المغاربة هنا في الجنوب، الجميع يدين والجميع يندد لكن أيضا الجميع يتساءل عمن دفع الأمور الى هذا المنحى، وعمن خطط لتحويل مخيم ايزيك من تجمع لاحتجاج سلمي لأجل مطالب اجتماعية الى تجمع يخدم أجندة المخابرات الجزائرية وصنيعتها مرتزقة البولزاريو، لكن النقاش الحقيقي الدائر هنا هو البعد التنموي للأقاليم الجنوبية وان كان من الصواب أن نسمح للجزائر بالتدخل في شؤوننا الداخلية من خلال مرتزقة أقلية تعيش في قلب الدولة ، وتدعي عدم ايمانها بالدولة من خلال التخابر مع المخابرات الجزائرية والتي توفر الدعم المادي والمعنوي لها ، وتترك لها حرية التحرك بين مطار العيون ومطار الجزائر عبر مدريد. انه نقاش قوي يتداول هنا في انتظار رد فعل رسمي قوي على ماوقع.