بخصوص شهر أكتوبر، الذي خصص له المحامي الفرنسي، محامي عائلة الشهيد المهدي، موريس بيتان، أكثر من 20 صفحة من كتابه، سوف نقف عند كرونولوجيا الأحداث بشكل مدقق، يسمح ببناء معنى للأحداث. يوم 2 أكتوبر 1965، التقى كل من فيغون والصحفي بيرنيي عند فرانجو، وفي نفس اليوم غادر الماحي باريس صوب المغرب باستعجال، وحين عودته التقى الشتوكي، الذي رافقه إلى منطقة فونتوني لافيكونت (مكان اختفاء المهدي نهائيا). يوم 3 أكتوبر نزل الشتوكي بفندق الإليزي بباريس، التي بقي بها حتى 7 أكتوبر، وهي الفترة الوحيدة المدققة التي توجد وثائقها عند الشرطة الفرنسية بخصوصه. يوم 6 أكتوبر، توجه فيغون رفقة الشتوكي على نفس الطائرة صوب جنيف، حيث التقى فيغون لوحده مع المهدي بنبركة، وقدم له النسخة النهائية لعقد الفيلم، وهناك ربما تم تحديد مكان اللقاء بباريس يوم 29 أكتوبر. وفي اليوم الموالي سوف يسافر لوبيز، بشكل مفاجئ، رفقة بوسيش إلى جنيف بطلب من ضابط مخابرات مغربي يدعى جبايلي، مهمته هي رصد بنبركة. وهو الذي أخبره بسفر الأخير إلى جاكارتا. ولقد أخبر لوبيز رؤساءه بعد عودته دون أن يكلف فانفيل نفسه تحرير تقرير في الأمر. من جانبه، ألح فيغون على المغاربة بضرورة تقديم المقابل المالي الذي وعدوه به، ورغم وعود الشتوكي، فإن فيغون لم يتوصل بأي شئ. فتوجه يوم 10 أكتوبر إلى مطار أورلي، حيث التقى لوبيز وألح عليه بالضرورة إبلاغ المغاربة بنفاد صبره. بل إنه هدد بفضح القضية في الصحف، فقام لوبيز بنقل الأمر إلى فانفيل، الذي لم يقم مرة أخرى باللازم، في ما يرتبط بهذه المعلومة الهامة،بل إنه سيعترف في ما بعد أنه طلب من لوبيز منذ تلك اللحظة رفع يده عن القضية كلها، الأمر الذي دحضه لوبيز أثناء عمليات إستماع إليه من قبل القاضي زولينجر. فعلا، يوم 14 أكتوبر، بدأ فيغون في تنفيذ تهديده، حيث اتصل بالصحفي فرانسوا برينو، مدير أسبوعية «مينوت»، وحكى له الدور الذي تريد المخابرات المغربية توريطه فيه، ضمن مخطط يستهدف المعارض المغربي المهدي بنبركة، مؤكدا أنه وعد بمنحه ما مقداره 100 مليون فرنك فرنسي قديم، لم يتوصل منها بشئ. بل إنه حدد له خطة الفيلم المعروض على المهدي، وكذا حقيقة تنقلاته إلى القاهرةوجنيف رفقة بيرنيي. لم يعرف مدير تلك الأسبوعية ما يفعله بتلك المعلومات التي حكاها له فيغون، غداة قرب بداية حملة الإنتخابات بفرنسا. ولم يبادر إلى نشرها سوى بعد اختطاف المهدي، لأنه أدرك أهمية ما سجله يوم 14 أكتوبر مع فيغون، وبدأ ينشره مسلسلا في حلقات، مع الإنتباه إلى عدم السقوط في «تهمة عدم التبليغ» من قبله. كان المحامي لومارشون (الذي له دور محوري في القضية كلها) مطلعا على تفاصيل القضية من خلال مخبره الخاص بأسبوعية «مينوت»، وأنه بالتالي كان على علم مسبق بما يخطط له ضد المهدي. علما أنه أنكر كل ذلك أمام القاضي زولينجر أثناء محاكمتي 1966 و 1967. في منتصف أكتوبر سيقدم الشرطي فواتو للوبيز نظارت خاصة وشاربا اصطناعيا سوف يستعملهما يوم 29 أكتوبر. فيما سيتصل لوبيز بالدليمي أو العشعاشي يوم 19 أكتوبر، حيث وضعه في الصورة بخصوص تنقله إلى جنيف وكذا بتهديدات فيغون. ويوم 20 وجدت تسجيلات اتصال بينه وبين فانفيل ببيته مدته 8 دقائق، وهي المكالمة التي لم يشر إليها قط. ويوم 22 توصل ضابط المخابرات الفرنسي مارسيل سوشي من رئيسه فانفيل بمخطوط لتحرير قصاصة للمكتب « 3. أ.» منصوص فيها وصول الرباعي أوفقير، الدليمي، الشتوكي، الماحي إلى باريس، وأن هدفهم لقاء بنبركة. لكن فانفيل سيعود بعد ذلك، وأمام عنصر ثالث سوف يطلب من مارسيل عدم تحرير أي شئ، قائلا له بالحرف:« لا تفعل شيئا، هناك تطورات متلاحقة، إن الجماعة لا تريد الحوار، بل تريد التصفية». من أين جاء بهذا اليقين، ولماذا نفى ذلك في ما بعد؟!. إنه سؤال بلا جواب. وأكيد أن مصدره هو لوبيز وأن الأمر قيل إنه يتعلق بوصول أربعة موظفين سامين (عمال) مغاربة. وأياما بعد ذلك حرر تقريرا جديدا، لكنه عاد يوم 2 نونبر بعد الإختطاف وسحبه من الأرشيف ودمره!!. يوم 22 أكتوبر سيتصل المهدي بشاب مغربي إسمه التهامي الأزموري، طالب باحث في التاريخ، ليخبره بحاجته للقائه بباريس يوم 29 أكتوبر في الساعة الثالثة بعد الزوال. ويوم 25 اتصل لوبيز بالدليمي بفاس، وفي الثامنة مساء التقى بوسيش العائد لتوه من المغرب، وحضر معهم الماحي عشاء بفندق أستور، الذي ينزل فيه المسؤولون المغاربة الأربعة السامون، الذين هم في دورة تدريبية بباريس. بعدها توجه الجميع إلى «إقامة نيل» حيث ينتظرهم بالبار كل من باليس، لوني، دوباي (أي باقي العصابة المكلفة بالخطف). ويوم 26 أكتوبر اتصل المهدي بالصحفي بيرنيي ليخبره بقدومه يوم 29 أكتوبر إلى باريس. وفي اتصال ثان في اليوم الموالي تم تحديد الموعد في الثانية عشرة والربع زوالا، وطلب بيرنيي منه حضور فيغون وفرانجو، وهو ما قبله المهدي. وحسب بيرنيي فاللقاء حدد في مطعم «ليب». هنا لابد من التوقف عند هذه المكالمات، حيث الظاهر أن فيغون قد اتصل بالمهدي مرتين، وأنه حسب اعترافات جون فينو أمام القاضي في محاكمة 1966، قد أكد أن فيغون أكد له لقاء المهدي مرتين بجنيف دون حضور بيرنيي، وأنه حدد مكانا آخر للقاء لم يرد أن يعرفه بيرنيي. وذلك المكان هو حانة سان جيرمان. التي اختطف غير بعيد عنها المهدي بنبركة. الذي اتصل يوم 28 أكتوبر بمحمد الطاهري ليخبره بمقدمه في الغد. وفي نفس اليوم التقى الشتوكي بلوبيز وطلب منه توفير شرطيين فرنسيين لنقل المهدي للقاء أوفقير بباريس يوم 29 أكتوبر، حتى يطمئن للذهاب إلى موعد اللقاء. هؤلاء الشرطيان هما سوشون وفواتو، وسوشون هو الأهم، أنه تلقى الإذن من ديوان وزير الداخلية للقيام بالمهمة، من خلال مكالمة هاتفية مسجلة اتصل به من خلالها عضو من ديوان الوزير، الذي ضمنيا أعطاه الضوء الأخضر للإستجابة لطلب لوبيز، لكن الشخص المتصل انتحل صفة عضو آخر بالديوان هو السيد أوبير، والحقيقة أن المتصل هو السيد برات، عضو ديوان الوزير فري. يوم 29 أكتوبر، وما أن غادر المهدي جنيف حتى أرسلت قصاصة بالمغادرة إلى باريس، وفي التاسعة وخمس دقائق اتصل لوبيز بفانفيل ليخبره بوصول المهدي. وفي العاشرة وصل المهدي إلى شقة صديقه اليهودي المغربي جو أوحنا الغائب إلى أمريكا، ومن شقته اتصل بشقيقه عبد القادر وأعطاه موعدا في بيت الطاهري في الساعة السابعة والنصف مساء. في الساعة 11 والنصف استقل الشرطيان سيارة بيجو من نوع 403 تحت رقم 3076 mc 75 التابعة لشرطة باريس. وتوجها إلى شارع سان جيرمان وتركا السيارة غير بعيد عن مطعم ليب بحوالي 20 مترا. كان لوبيز المتخفي بنظاراته الجديدة وشاربه الإصطناعي متواجدا قبل ذلك رفقة الشتوكي. في تلك اللحظة كان بوسيش قد طلب من زوجته ومن صهره الشاب مغادرة الفيلا وأن لا يعودا حتى يتصل بهما. ركب المهدي رفقة الأزموري سيارة أجرة بالشانزيلزي وطلبا منه إنزالهما قرب حانة سان جيرمان ديبري. ولم يكن هناك أي حديث عن مطعم ليب. لقد تم الإختطاف من أمام فندق تيران القريب من السينما المجاورة لحانة السان جيرمان، المجاورة لمطعم ليب. قدم سوشون أوراقه الرسمية للمهدي وطلب منه بعد الإطلاع على جواز سفره مرافقته للقاء شخصية هامة، طالبا من الأزموري الإبتعاد، الذي حين رأى المهدي لا يبدي أية مقاومة أو شك، ابتعد قليلا، قبل أن يختفي في الزحام القليل للمارة. بل إن سوشون سيؤكد أن المهدي نفسه الذي فتح باب السيارة وولج إليها، لأنه كان يعتقد أن اللقاء سيكون في الإليزي هو الذي كان له موعد هناك في اليوم الموالي. وكما قال المحامي الفرنسي، فإن من عادة المهدي التخلي عن موعد إذا كان جاءه لقاء أهم من من له معه موعد. سيصعد إلى السيارة كل من لوني وأيضا لوبيز، إضافة إلى الشرطيين. سيخبر لوبيز أوفقير بوصول «الطرد» إلى فيلا بوسيش، مثلما أخبر رئيسه المباشر فانفيل. لن يصل أوفقير سوى يوم 30 أكتوبر في الساعة الخامسة مساء، وكان الدليمي قد سبقه إلى مطار أرولي في الساعة الثانية بعد الزوال، قادما من الجزائر وتكفل بنقله المجرم لوني. سيتصل لوبيز ببوسيش لوضعه في الصورة فيما سيتناول الغداء مع الحسوني ودوباي ولوني وباليس. كان الأزموري قد اتصل بزوجته وأخبرها بالتفاصيل واختبأ عند صديق فرنسي، وهي التي أخبرت الحبيب سيناصر، الذي أخبر الطاهري وشقيق المهدي، واتصل الطاهري بالصحفية جيزيل حليمي والصحفي جون لاكوتور العامل ب «لوموند» التي كانت أول من نشر الخبر في عدد المساء. باقي التفاصيل التي أوردها المحامي، أغلبها معروف، من حيث وصول أوفقير إلى الفيلا، ولقاءه بالدليمي والحسوني وأن الماحي أجرى عدة اتصالات هاتفية من الفيلا، ووصول سيارة ديبلوماسية مغربية، ثم الحديث بالعربية - كما التقط ذلك لوبيز - عن طلب «طائرة». وكذا غضبة الرئيس الفرنسي دوغول، الذي أحس بالمهانة التي طالت هيبة فرنسا وهو شخصيا، خاصة أمام قرب الإنتخابات الرئاسية في شهر دجنبر من نفس العام. مذكرا بتفاصيل غضباته وتصريحاته في مجلسين للوزارء. ومدى تورط المخابرات الفرنسية التي نشرنا أغلب تفاصيلها في الحلقات السابقة، بالأسماء والقصاصات والمسؤوليات.