لمحاولة فهم دور «المسؤولين الفرنسيين» في عملية اختطاف واغتيال المهدي بن بركة، بعد أزيد من 44 سنة، لابد من قراءة نسبية لتأكيدات الجنرال شارل دوغول في ندوته الصحفية التي أكد فيها أن لا علاقة للدولة الفرنسية في هذه القضية، غير أن سؤاله قبل ذلك في اجتماع حكومته (19 يناير 1966)، كانت أقل تحفظا، بل وتلتها قرارات صارمة، حيث تم سحب مصلحة الاستعلامات الخارجية ومكافحة التجسس (SDECE) من إشراف الوزير الاول مثلا. صحيح انه لم تكن، فيما يبدو، مصلحة للدولة الفرنسية في تصفية المهدي، وأن المصالح الامنية باختلاف درجاتها ومستوياتها لم «تتستر» صراحة على عملية الاختطاف، ولكن على الاقل وفي كل الاحوال بعض عناصرها وعملائها، في مستويات عليا في بعض الاحيان كانوا على علم بإمكانية وقوع حدث وشيك، وربما عملية اختطاف، دون ان يتوقعوا إمكانية حدوث «وفاة» أو «اغتيال»، وبالتالي أهملوا تلك المعلومات و أصبحوا «شركاء» في الجريمة. كيف يمكن تجاهل الروابط القوية والمعقدة في بعض الاحيان بين الدولتين منذ استقلال المغرب، والتعاون الوثيق في الكثير من الميادين،خاصة الميدان العسكري، والعلاقات الشخصية التي تربط بين كبار المسؤولين في البلدين. وهكذا فالذين كانت لهم روابط مع المغرب أغمضوا أعينهم إما إرضاء لملك المغرب وإما لمكافأة الجنرال أوفقير على الخدمات التي قدمها خلال حرب الجزائر، واما كإجراء المعاملة بالمثل بعد حادث تسليم بن بلة ورفاقه سنة 1956. ومن يعرفون دور المهدي بن بركة عبر العالم «كثوري يلعب دورا مهما في حركة التمرد العالمية» صمتوا ربما بسبب «معاداة الشيوعية» او التعاطف مع الولاياتالمتحدة، واخيرا الذين كانوا يعادون الجنرال دوغول من قدماء «منظمة الجيش السري» (OAS)، الذين يسعدهم تلطيخ سمعة دوغول قبيل الحملة الانتخابية التي كانت على الابواب. وعلينا ان لاننسى ان المهدي اختطف يوم الجمعة 29 اكتوبر اي في بداية نهاية اسبوع طويل (أعياد كل القديسين Tousaint) المعروف عادة بالهدوء وتأجيل العمل... حيث يتوقف العمل تقريبا في كل المصالح الادارية بما فيها مصالح الشرطة وهو ما يفسر ربما تأخرها في التحرك حتى 2 نونبر، وهذا ربما يفسر انه لم يتخذ أي شيء «لحماية» الزعيم المغربي ولو من بعيد، رغم انه قد تم الاخبار بوصوله الى باريس عبر برقية لشرطة المطار.. إلا أن هذا «الاهمال» وعدم التحرك استمر أبعد من ذلك، اذ لم يتم اعتقال سوشون وفواتو إلا بعد أيام، واعتقال فيغون تأخر لأسابيع ومغادرة المجرمين الاربعة بكل حرية الى المغرب. وربما «حرب مصالح الشرطة» آنذاك (بين الحزب الشعبي، الادارة العامة للامن الوطني، مصالح الاستعلامات الخارجية ومكافحة التجسس، مديرية مراقبة التراب، الشرطة الرسمية والشرطة الموازية وغيرها من جماعات الجريمة...) ربما تفسر الكثير من جوانب التقصير... وفي هذه القضية حيث كل طرف متورط بدرجة او باخرى، لم يتحرك احد، وربما هذا ما يفسر قرار دوغول اعادة ترتيب وتنظيم مصالح الشرطة في الاجتماع الوزاري يوم 19 يناير 1966، لكن هذه الاوضاع التي كانت سائدة آنذاك لا تفسر كل شيء... وسنحاول استعراض الادوار المحتملة لبعض الذين ذكرت اسماؤهم في الملف من الفرنسيين. انطوان لوبيز: يبدو دوره في العملية محوريا وخطيرا، ويصفه بابون امام قاضي التحقيق راماييل بكونه عامل الاختطاف.. والرجل المحوري، قائد الكومندو الذي اعد عملية الاختطاف بتعاون مع المغاربة، لوبيز هو الرجل الذي كان على علم بالعملية وأعد لها ماديا، الرجل المخبر لجميع المخابرات. كان يعمل مفتشا رئيسا لشركة اير فرانس في مطار اورلي منذ 1963 ومنذ 1965 شغل منصب رئيس المداومة، معروف لدى الجميع وحر في تحركاته داخل المطار، عميل للمخابرات الفرنسية، يقدم المعلومات عن وصول الشخصيات الاجنبية، لا سيما القادمة من المغرب، كان يتلقى الى جانب راتبه منحة بقيمة 500فرنك من مصالح المخابرات الفرنسية، وظل يتوصل بها حتي بعد سجنه.. دافع عن نفسه بأنه اخبر مصالح المخابرات الفرنسية بنوايا المغاربة.... كان رجل الاتصال لصالح ولاية الشرطة، بطلب من الوزير الاول جورج بومبيدو ،اختاره لوروا فانفيل شخصيا،. وكان على اتصال دائم مع مصلحة مكافحة المخدرات. التي يقوها سوشون وقدم خدمات مهمية ساهمت في حل العديد من القضايا الشائكة، كان معروفا لدى جميع مصالح الشرطة في باريس، واستفاد مابين 1964 - 1965 من جواز مرور دائم، مسلم من طرف والي الشرطة بابون وهو عبارة عن وثيقة تخصص عادة للشخصيات المهمة... الا ان كل هذه الوثائق سحبت منه اثناء تفتيشه واستنطاقه من طرف العميد بوفيي، ولم توضع في ملف القضية. كان عميلا مزودجا يعمل لصالح المغاربة، حاول الحصول على منصب مهم في شركة الخطوط الملكية المغربية بالرباط.. كان يسمح له بالاستمرار في تقديم المعلومات للمخابرات الفرنسية، لوبيز كان على صداقة وثيقة مع اوفقير. في غشت 1965 استقبل لوبيز وعائلته من طرف اوفقير بالرباط الذي وضع رهن اشارته اقامة وظيفية، وهو من سلم لاوفقير مفاتيح منزله يوم 30 أكتوبر وهو ايضا صديق الدليمي و الماحي، ويعرف جيدا عبد الحق العشعاشي وبوبكر الحسيني وصديق للعائلة الملكية... كان يتوفر على جواز مرور من طرف وزارة الداخلية المغربية سلمه له الدليمي يوم 29يونيه 1965 وهذه وثيقة تؤكد عمالته المزدوجة... لوبيز صديق لأوساط «المجرمين» و هو جار لعائلة بوشيش. و هنا تعرف على المجرمين لوني، دوباي، وباليس... بخصوص يوم وقوع الجريمة يقول لوبيز إن «الأمر يتعلق بلقاء مع شخصية مغربية مرموقة.. نظرا لمعرفتي بمحاولات تفاوض بين السلطات المغربية و بن بركة... وأنه فهم ذلك من الرسميين المغاربة الذين جاؤوا إلى باريس لأمر يتعلق بالمهدي، كان المغاربة يريدون اتصالا مباشرا وسريا معه...». في كتابه الثاني «اعترافات جاسوس» يكشف لوبيز معطيات مهمة مثل أن «الجنرال أوفقير لم يكن ضمن ركاب... (أورلي يوم الجمعة 29 أكتوبر علي الساعة الثانية صباحا)، ولكن مغربيا طلب مني الذهاب به عند بوشيش، وخلال الرحلة قدم نفسه، كان اسمه الحسيني.. كان ممرضا...» لكنه لم يذكر ذلك أمام القاضي،مثال آخر يقول لوبيز في كتابه«نزلت طائرتان للشحن تابعتين للجيش المغربي، بعد وقت قليل من هبوط طائرة الرحلة العادية القادمة من الدارالبيضاء (الطائرة التي وصل على متنها أوفقير يوم السبت على الساعة الخامسة) لماذا لم يذكر هذه الواقعة أمام القاضي. مثال آخر «كانت الساعة حوالي السادسة مساء عندما أوصلت أوفقير عند بوشيش ثم عدت الى منزلي، وهنا قررت الاتصال هاتفيا بلوروا فانڤيل (مشغله في الاستخبارات الفرنسية) وهو من رد على الهاتف. قلت له سأغيب إلى منطقة لواري، هل تستطيع أن تضع أحدا مكاني لمتابعة العملية؟» وهذه كذبة أخرى لأنه لم يتأكد حصول أي اتصال من منزله في تلك الساعة. مثال آخر: «يوم 10 أكتوبر، قررت تأخير اقلاع الطائرة المتوجهة إلى جنيف..، وأنا أعبر المطار التقيت وجها لوجه مع الشتوكي وفيغون. كان واضحا انهما قررا هذه المرة تحاشي المرور عبري.. صعدت الطائرة.. رأيتهما جنبا إلى جنب ولكنهما لم يكونا و حدهما... غير بعيد عنهما كان يجلس مغربي آخر أعرفه جيدا: أحمد الدليمي.. سجل نفسه ضمن الرحلة تحت اسم الحسين.. قررت وقتها أن أذهب بدوري إلى جنيف..« وهذا خطأ في التاريخ. لوبيز سافر إلى جنيف صحبة بوشيش يوم 6 أكتوبر 1965. ولكن حتى إن كان ما قاله صحيحا لماذا لم يخبر به القاضي زولينغر. مثال آخر: «الأحد 31 أكتوبر، استيقظت علي الساعة 5 صباحا.. محمد أوفقير دخل غرفتي دون أن يطرق الباب.. قال لي هل تعلم، لقد وقعت كارثة، يجب أن تعلم أنني اتصلت بفري لهذا الغرض، إن سمعة الملك في الميزان. أنا لا أ جهل أنك تشتغل لحساب المخابرات الفرنسية، والمخابرات المغربية والفرنسية توجدان يدا في يد في هذه القضية...» ومرة أخرى، إذا كانت هذه الأقوال صحيحة لماذا لم يدل بمعلومات بهذه الأهمية أمام القضاة الذين سألوه خلال المحاكمتين؟... والأكيد في نهاية الأمر أن لوبيز تكلم وربما تكلم أكثر من اللازم ولم يقل أبدا كل ما يعرف عن القضية. وكما قال محاميه خلال المحاكمة الأولى: «لوبيز أكثر دهاء، لوبيز الذي يعرف كل شيء لن يقول لنا شيء، لأنه إذا أخبرنا باغتيال المهدي سيكون متابعا بالمشاركة في الاغتيال وليس فقط بتهمة الاحتجاز».