محمد محقق إن المتأمل في عنوان المجموعة القصصية ‹› أنين الماء›› يصاب بحيرة وتعجب لأصل الحياة ومصدرها ، الذي أصابه الحزن والألم مما غير صوته الخريري ذا النغمة الموسيقية العذبة إلى صوت مبحوح يشتكي ما أصابه من عجز وضعف ومرض نتج عنه وجود مخلوقات بشرية مصابة منذ ولادتها بشلل يصعب معه تحقيق التنمية المنتظرة في شقها الثلاثي (بشرية ، اجتماعية ، اقتصادية) وهذا ما تحاول الساردة ايصاله للمتلقي / القارئ وهي تكشف له من خلال قصص المجموعة التي تتنوع موضوعاتها وتتسق مع اتجاهاتها وإبداعاتها الفنية عن عناصر التوثر بأسلوب التقابل القائم على رؤية المتناقضات حيث اتساع المسافة بين الشخصيات وبين واقعها الخارجي ، حيث الإحساس في العمق البعيد وراء المعاني بالهموم والإهتمامات التي تبدو كثيرة ومتنوعة ومتشعبة والتي تفجر ثورة ومعارك وجدلا سياسيا معها محاولة الإجتياز إلى الأفضل وهي تعبرهذه المعاناة ولامبالاة المسؤولين بواقعها وشكواها جراء ضغوط معيشية قاسية وإذلال مستمر سعيا للاحتفاظ بمناصبهم التي تحقق لهم مكاسب كثيرة .. والقارئ يتحسس في هذه القصص الوقوف ضد التيار لأن رياح التغيير عاصفة جراء غياب حقوق الفرد وانعدام قاعدة وقوانين تكفل حمايته من الإجراءات التعسفية .. والساردة استطاعت في قصصها المفعمة بالهم الوطني الإنساني ودونية المراة والبطالة والبحث عن الحرية أن تخاطب حواس القارئ و ترصد ما تكابده الطبقات المسحوقة في زمن مترهل تكاثرت فيه سماسرة الألم وخفافيش الظلام .. وقد قسمت مجموعتها إلى أصناف ثلاثة ( الحرية ، المرأة ، الكرامة الإنسانية ) منتظمة في خيط رفيع من المشاعر الإنسانية ذات التجليات المختلفة والتي تهتم في مجملها بعذابات الإنسان المعاصر ومرارته في عالم محتشد بكل ما يتجاهل هذه المشاعر.. والملاحظ في شخصيات المجموعة أنها تحب بجنون وتنكسر من داخلها، فهم يعانقون الريح والزوابع متصورين أنهم سيطالون الشمس حتى يجدون أنفسهم ضحايا الوهم والأحلام الوردية .. والمتصفح للمجموعة القصصية ( أنين الماء)، والتي أصدرتها منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، دار القرويين/ الدارالبيضاء، 2003 ، يجد الساردة تتحدث بكثرة عن صورة المرأة التي أخذت حيزا كبيرا من اهتماماتها حيث يستنبط في قصة ‹› المرآة المشروخة ‹› أن بطلتها إنسانة غير متوازنة تعيش حرمانا عاطفيا انعكس سلبيا على حياتها أدى إلى اختلال جانبها الأنثوي وأغرقها في دائرة اليأس والكآبة الملفوفة بالحيرة والضيق، جعلها تلجأ إلى استنزاف ما تقدر عليه من أموال الشخص/ الشريك المرتبطة به لتأمين نفسها ورواء عطش اللاشعور والإستغراق في الكماليات لتحقيق أهدافها ومصالحها المادية عن طريق ميلها إلى الحديث معه تحاوره وتناقشه وتعبر فيها عما يخالج نفسها .. والمغزى التربوي المستنتج منها هي دعوة الرجل إلى إعادة النظر في علاقته بالأنثى / شريكة حياته ، وتفجر حمم الحرمان والغيظ المتراكمة في أعماقها حتى لاتحس بالوحدة والسجن وهو مايعبرعنه هذا الحوارالذي داربينها وبين شريكها : ( إنك لا تأتي إلا في أوقات متباعدة . وأنا أشعر بالوحدة في غيابك ...أشعر أني سجينة شروطك التي أكتشف يوما بعد يوم أن من الصعب علي تحملها ...) (1).. وفي قصة ‹›وليمة على إيقاع الهدير›› التي تترجم أحاسيس المرأة الباحثة عن كينونة الوجود محاولة النسيان ما أصابها من ألم في جسدها والذي أدى بها إلى اكنئاب حاد وخوف شديد جراء الإغتصاب التي تعرضت إليه من طرف الجاني الذي أشعرها بالذنب والإهانة والقهر وجلب العار لأسرتها حين فقدت كرامتها وطهارتها وأنها أصبحت نجسة لايستحقها أحد .. وخوفا من أن تظل فريسة الحدث المرعب استجمعت شتاتها لتعيد للنفس ثقتها حتى تتمكن من الإندماج والمعافاة مرة أخرى في الحياة وهو ما يستنتج من كلام الساردة حين تقول ( ارتمت فوق السرير وأطلقت لدموعها العنان ، ظل ذلك المشهد الذي عاشته يلاحقها لعدة شهور، كلما خلت إلى نفسها أو وضعت رأسها على المخدة إلا وأطلت عليها صورة ذلك الرجل في حالتيها المتناقضتين ، وسامته وابتسامته وهو يفتح لها الباب ، ثم ملامحه المتوحشة الشرسة وهو يحاول جرها إلى السيارة .لاشك أنه لم يتعود رفض طلباته ورغباته ، لعل عدم اكتراثها به استنفزه فحوله إلى وحش كاسر، وتلك القبلة! كلما تذكرتها أحست بالغثيان! تتذكر لزوجتها الحلزونية فلا تشعر إلا ويدها تمسح شفتيها بقوة...!) (2) وتتابع الساردة في في كشف خيبة أمل المرأة أمام أنانية الرجل الذي لايهمه منها سوى صحبة أنثوية تضيء حياته بخيالها الرقيق وفي هذا إشارة إلى صعوبة العلاقة الإنسانية المتبادلة حيث تشعر المرأة/ الزوجة أن مشاعرها لا تنعكس على الآخر/ الزوج لأنه ذات مستقلة لها احتياجاتها وكيانها الخاص والذي بدوره يبحث عن الحب في مكان ثان /عشيقته والتي سلكت طريق الدعارة من أجل المتعة والمال معا وهذا يحيل الى تعاقب المشهد السردي الكاشف لجراحات الروح والجسد اللذين يعيشان في أروقة الحياة المظلمة ومتاهاتها والقصة تمثل الشخصية الإنسانية المنحلة خلقيا والمتحجرة نفسيا والتي تدفع القارئ كي يحس بالموضوع الرئيسي الذي يدور حوله مضمونها وهو الصراع الداخلي الأليم الذي تعاني منه الشخصيات في محاولتها الهروب من سجن النفس والذات الأنانية إلى حياة التفهم والتعاطف مع الآخرين الشيء الذي دافع البطل / الزوج إلى الاستجابة إلى صوت قلبه وضميره ساعيا إلى إضفاء البهجة والسرور على بيته وزوجته- التي تنتظر عودته بفارغ الصبر- ، راضيا بنصيبه عازما ألا يحلق في آفاق الآمال المفقودة ... (فتح باب شقته ، وجد زوجته في انتظاره ، وهما يتناولان العشاء وجد نفسه ينظر إليها وكأنه يراها لأول مرة في غرفة النوم ، أشعل شمع الإناء البلوري الذي اشترته في بداية زواجهما ، ارتسمت على الجسد المرمري تشكيلات من أنوار وظلال . أدهشه اكتشاف خريطة هذا الجسد وتضاريسه العجيبة ، يالها من رحلة ممتعة تأخرت زمنا طويلا ! قالت مستغربة : - عجبا ! ما الذي حدث لتنير الغرفة لأول مرة ؟ - أخشى أن تتحقق نبوءتك فأتسبب في حريق يأتي على الأخضر واليابس في هذا البيت !) (3). ثم تتابع الساردة مشوارها بأسلوب الصدمة والمفاجاة في قصة ‹› اليد البيضاء ‹› لتوقظ في القارئ مشاعر الإنسان وفضوله حين تباغته بتفجير قضية إجتماعية حساسة وهي مسالة البكارة الإصطناعية التي كانت سببا في معاناة المرأة حين تفقدها بسبب من الأسباب وقد وقعت البطلة في فخ ومصيدة عميقين نتيجة عدم التفكير الجيد لما قد يحدث من سوء فهم الزوج/ الرجل، لما تفكر فيه من تقديم السعادة ظانة منها أن الزوج لا يهمه منها سوى عذريتها فقط وهو ماحصل بالفعل حين ترجم ماقامت به اتجاهه أنه مبني على الخداع والزيف وسبب هذا كله يندرج في سيطرة رغبات الجسد على الكيان الانساني الذي تجعله لايمتلك سوى لغة واحدة هي لغة اللذة التي يبحث عنها ويسقط بين براثنها فكانت النتيجة انهيار بيتها عليها جراء هذا التفكير الضيق الذي لم تتصور مدى خطورته على نفسية الزوج ... والساردة هنا تبين أن هذه العملية ‹› رتق البكارة ‹› أصبحت هي الحل لكل شابة وقعت فريسة حبها أو مغتصبها كرها أن تسترجع عذريتها الضائعة هروبا من أعين من حولها حفاظا على ماء وجهها وهذا أيضا نوع آخر من معاناة المرأة التي تتشبع بالمثل القائل ظل الرجل الذي هو أحد أزمتها في غيابه سواء اتخذ هذا الظل مظهرا اجتماعيا ، اقتصاديا أو جنسيا ... وقد قي(لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبهِ الدمُ).... (إذن بكارة الدخلة كانت مزيفة صعقني كلامه ، صحت في وجهه : - هل جننت ؟ أردت فقط أن أقدم لك هدية تسعدك .. - لقد خدعتني من قبل ، فلا تحاولي الكذب مرة أخرى ! من سبقني إليك ؟ - أرعبني إصراره ، صحت والدموع تملأ عيني : - ما الذي تقوله ؟ لا أسمح لك باتهامي في شرفي . جلجلت ضحكنه المتهكمة : - شرفك أي شرف تقصدين ؟ الشرف المزور.. ماتت الكلمات في حلقي ، لم أشعر إلا ويدي ترتفع لتصفعه بقوة ، أعاد إلي الصفعة صفعتين ) (4).. وتختم الساردة معاناة المراة حين تفتح لها الباب لعودتها الى المشاركة من جديد في بناء ذاتها وبناء المجتمع حيث البحث عن بناء علاقات خارجية بعد أن رآت الطريق أمامها فسارت بثقة واستطاعت أن تحصل على حقوقها المشروعة وتجد نفسها تنجدب إلى الإرٍتباط بكل ماتراه كمجال للتعبير عن وجودها في الواقع .. ( انتقل من الزهرة ليحط فوق صدري ويلامس بريشه الناعم وجنتي . لم أعد أشعر بثقل جسدي وهو يحملني فوق جناحيه الصغيرين لأستمتع بجمال الكون وقد غمره شروق جديد) (5).. ومن خلال تصويرالساردة للنماذج البشرية يتضح للمتصفح / القارئ أنه إزاء أديبة توظف أدبها من أجل ربط المشاعر من السلبيات الضارة عن طريق ما يحدثه تصوير التجربة الأدبية من أثر لمعالجة قضايا إجتماعية ونفسية متصلة بهموم المجتمع والوطن والمجموعة القصصية هاته خبرة حياتية تحقق متعتها الكبرى بما تضيفه إلى القارئ من معرفة بالناس والحياة ومما يستخلصه من دلالة كبرى واكتشاف يزيده نضجا وحكمة ... والأبعاد الدلالية والجمالية للمجموعة تتمثل في تصوير الساردة للمرأة في غالب الأحيان أنها الضحية والمجتمع بعاداته وتقاليده ونظراته المتشعبة ساهم في هذه المعاناة التي تعيشها حين حمى الظالم والمجرم و...ا لمتسبب لها في هذا الظلم وهذا العذاب ، كما أن توظيف العلاقة الجنسية للبطلات ليس من التابو المحظور في الأدب وأنهن يشكلن شريحة إجتماعية تؤثر وتتأثر بالمجتمع المعيش في محاولتهن فهم الحرية والتعبير عليها وهن يسرن في الدرب الذي تصورنه صحيحا .. والجميل أن هذا التسلسل لهذه الأحداث هو تسلسل وهمي تحقق في ذاكرة الساردة التي تميزت بقدرتها على تحليل نفسية وعقلية المرأة التي تنتمي إلى جنسها بالتحديد.، كما أن هناك قضايا إجتماعية أخرى مرتبطة بالمرأة متروكة للقارئ التعرف عليها. وقد استطاعت الزهرة رميج أن تشبه هذه الأوضاع في مجموعتها القصصية ‹› أنين الماء›› بلعبة البوزل حيث سمة الضياع والتيه والمعاناة وكذا الخيارات والتوجهات على اختلاف مشاربها تفتقد إلى المشروعية والإنضباط اللذين بدونها لا يكون هناك تحقيق للتنمية ورفاهيتها التي ترسم معالم المستقبل المتوخى والمأمول ... (فتح الباب بصعوبة ، اتجه مباشرة إلى غرفة النوم ، استلقى فوق فراشه خائر القوى ، أحس بجسده وكأنه آلة فكت جميع قطعها ، تذكر لعبة البوزل التي كان مولعا بها في صغره ، لعبة بوزل مبعثرة الأجزاء هو الآن ..) (6).. *** (1) قصة ‹›المرآة المشروخة» ص20 (2) قصة»وليمة على إيقاع الهدير» ص 28 (3) قصة «على أجنحة السراب» ص 35 (4) قصة «اليد البيضاء «ص 56 (5) قصة « أنا والعصفور» ص 76 (6) قصة « لعبة البوزل›› ص 65