مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    كم يبلغ سعر الاورو والدولار هذا اليوم؟ .. بنك المغرب يحدد    إسرائيل تعلن مقتل 15 عنصرا من حزب الله    غارات ليلية عنيفة بطائرات حربية في أقرب ضربة لوسط بيروت منذ حملة القصف    مفاجآت في لائحة وليد للمبارتين المقبلتين    إجهاض تهريب طن من "المعسل" بالرباط    إصابة 23 تلميذا في انقلاب حافلة للنقل المدرسي ضواحي آسفي    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    تخصيص مساعدات مالية للسكان المتضررين بفيضانات الجنوب الشرقي    من بينها "العدل والإحسان".. هيئات مغربية تواصل الحشد للمشاركة في المسيرة الوطنية تخليدا للذكرى الأولى ل"طوفان الأقصى"    سفير إسرائيل بالأمم المتحدة:الرد على هجمات إيران سيكون قريبا    "الأونروا" و"محكمة العدل الدولية" وغوتيريش من بين المرشحين لجائزة نوبل للسلام    طلبة الطب يصعدون بإنزال وطني السبت المقبل        الكاف يحدد موعد سحب قرعة كأس إفريقيا "شان" 2024    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة    الجزولي: قطاع الصناعات الثقافية يوفر إمكانات هائلة للتنمية الاقتصادية    والدة "أنور" تدلي بتصريحات مثيرة بعد تأجيل استئنافية طنجة النظر في القضية    الإعلان عن إطلاق ناجح لخطي ترامواي جديدين في الدار البيضاء    فيضانات الجنوب الشرقي.. تفاصيل اجتماع ترأسه رئيس الحكومة للجنة البين وزارية المكلفة ببرنامج إعادة تأهيل المناطق المتضررة    افتتاح الدورة ال45 لموسم أصيلة الثقافي الدولي يوم 14 أكتوبر الجاري    مندوبية التخطيط: انخفاض التجارة الخارجية خلال الفصل الثاني من 2024        إيقاف بن عطية 6 مباريات بسبب انتقادات حادة لحكم مباراة مارسيليا وليون    الأمير مولاي رشيد يزور جناح نادي قطر للسباق والفروسية بمعرض الفرس للجديدة    اتحاد طنجة يتقاسم صدارة البطولة الاحترافية مع نهضة بركان    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    ارتفاع أسعار النفط في ظل تصاعد مخاوف جيوسياسية    الرئيس الإيراني: "إذا ردت إسرائيل سيكون ردنا أقسى وأشد"    وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    كيوسك الخميس | ودائع المغاربة لدى الأبناك تتجاوز ألفا و202 مليار درهم    توقيع اتفاقية لدعم القدرات الرقمية للمؤسسات التعليمية بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة        حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    موسم أصيلة الثقافي يحتضن مواضيع الحركات الدينية والحقل السياسي والنخب العربية في المهجر    إطلاق مركز للعلاج الجيني في شيفيلد برئاسة أستاذ مغربي ببريطانيا    مقتل صهر حسن نصر الله في قصف دمشق    النظام الجزائري يستغل التظاهرات الرياضية الدولية لتصريف معاداة المغرب        سجناء يتدربون على المعلوميات بخريبكة    المفوضون القضائيون يضربون عن العمل لثلاثة ايام    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    تنفيذا للتعليمات الملكية السامية.. منح مساعدات مالية مهمة للسكان الذين هدمت مساكنهم جراء فيضانات الجنوب الشرقي‏    ملكة هولندا "ماكسيما" تفتتح معرضاً حول "الموضة المغربية" في أوتريخت    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    في العروق: عودة ليزلي إلى الساحة الموسيقية بعد 11 عامًا من الانقطاع    بلينكن يجدد دعم بلاده لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء    فيلم…"الجميع يحب تودا" لنبيل عيوش يتوج بجائزتين    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    السيد: مستشرقون دافعوا عن "الجهاد العثماني" لصالح الإمبراطورية الألمانية    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    جدري القردة يجتاح 15 دولة إفريقية.. 6603 إصابات و32 وفاة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلطة المكان: سكينة المغترب
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 18 - 09 - 2010

أصدر الكاتب (شاعر وروائي وناقد) التونسي مجدي بن عيسى روايته الثانية «خيالات نورا المدهشة» بعد أن صدرت روايته الأولى «الدوار» الفائزة بجائزة الشارقة للعام 2005م عن دار مسكيلياني بتونس سنة 2008م، وبعدما كان أصدر أربعة دواوين شعرية، ودراستين. وهو ما يسمح لنا مبدئيا بتوقع تأثير لغة الشعر في كتابة السرد، ويسمح أيضا باحتمال تحكم رؤية الناقد في بناء متخيله الأدبي. هذان الاحتمالان المبدئيان يبعثان على الاطمئنان لأن أغلب الشعراء الذين تحولوا إلى كتابة الرواية كان لهم حظ وفير في إثراء لغة السرد، واستطاعوا المزج بين المتخيل الشعري والمتخيل السردي، ونفحوه بلحظات غمرتها شاعرية السرد الحديث المتحرر من حدود النوع مثل أحمد المديني ومحمد الأشعري، كما أن عددا من النقاد الذين كتبوا الرواية لاحقا استطاعوا أن يغيروا في أشكالها وبنياتها بما جادت به رؤاهم النقدية مثل محمد برادة.
تقوم رواية مجدي بن عيسى على احتمالات عديدة للقراءة؛ منها: قدرة الكاتب على رسم سيناريوهات كثيرة لمحكي سردي واحد، عبر تقنيات كتابية متنوعة كالتوالي السردي والتوليد الحكائي، أي بث المحفزات التي تنقل السرد نحو متواليات سردية ممكنة لمحكي محوري ونحو تضافر حكايات صغرى لتوسيع الحكاية الإطار، مثال على ذلك انتقال السارد في رواية «خيالات نورا المدهشة» من تحديد ملامح شخصية «إدريس» الحلاق العامة إلى الحديث عن فضيحة العروس التي منحت نفسها طواعية لحبيبها الإيطالي في محل الحلاقة (ص26). ومنها دائرية السرد وانغلاق الحكاية الإطار قصد إبراز سلطة المكان (المدينة: العاصمة)، وقوة ضغط الجماعة على الفرد، أي الحد من قدرة الفرد على التحرر من نير الجماعة، مثال ذلك شخصية نورا التي ستتخلى نهائيا عن مشروعها الطموح «بعث روح الخيال في أهل المدينة لإخراجهم من الاستكانة والخمول. ومنها علاقة الشرق بالغرب من خلال اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد، أو ما يمكن تحديده في سلطة التقاليد وقدرتها على الحد من فكرة التسامح رغم احتمالها فكرة التعايش والترحيب بها، ومثال ذلك إقدام العروس على منح نفسها للشاب الإيطالي الذي أحبته وهي تعلم أنها لا يمكنها الزواج منه لأن أهل المدينة لا يزوجون بناتهم للنصارى، وكذلك الحكاية الضمنية والمضمرة المبنية على حب الإيطالي روفايلو يائس لناهد ابنة المدينة وأصولها وعاداتها...
تنهض فكرة الرواية المحورية على نزوع فكري ونفسي عند «نورا»، وهي شخصية روائية رئيسة، يتمثل في قدرتها على التخيل، ورغبتها في نفض الخمول وروح الاستكانة عن المدينة التي تحبها، وقد اعتمدت على طاقتها الخيالية معتمدة على رأي الأستاذ منير في الخيال وقدرته على تجديد الوعي بالوجود، كما جاء في المجتزإ الدال الآتي:»نورا كانت تتلقف أحاديثه عن الخيال بشغف، أمامها كان يصوغ خطته الرسالية لتفعيل ملكة الخيال، الخيال قادر على إعادة تشكيل الوعي، وفتح أبوابه على ممكنات جديدة. كان يردد أمام نورا بأن الحاجة أم الاختراع، فإذا استطعنا أن نجعل الوجود الجديد حاجة، سيتحرك مارد الخيال النائم في عقولنا، وسيقترح علينا ممكنات جديدة لم تكن لتخطر على بال. كانت نورا تتلقف كلامه بحماسة، وتشعر بالغبطة وهي ترى بعيني خيالها الفوسفوري اللامع أسرابا من الفراشات الملونة تتدفق من كلمات الأستاذ منير ومن حركات يديه الثرثارة...» ( ص (18، وقد اعتمدت لتحقيق طموحها على الأحداث المثيرة للهلع والجدل والقلق. لكن مخططات «نورا»، ورغم الخسائر التي نجمت عن تصرفها الفردي والمتعة الشخصية التي حققتها لنفسها في البداية، باءت بالفشل في آخر المطاف لأن المدينة التي تحبها لها قانونها الخاص ومنطقها الذي لا تحيد عنه، ولأن أهلها مقتنعون بوجودهم مستسلمون لإيقاعه الرتيب. ومما يبرز سلطة المكان في هذه الرواية التحول الذي خضعت له شخصية إلياس الروائية، لقد عُرِفَ إلياس ابن المحاسب مصطفى العنصر الحيوي في المعمل، وفي نشر الفضيحة، والعنصر الهام في بناء متخيل رواية «خيالات نورا المدهشة»، والمحور الأساس في توليد تداعيات سردية وحكائية أخرى متن الرواية، عُرِفَ باستقامته وعفته ونباهته واحترام أهل المدينة له، بالإضافة إلى وسامته لكنه بعد انكشاف حقيقة والده أمام ناظريه، ورفض ناهد الزواج منه لسمعة والده السيئة، وبعدما ماتت «الجدة حورية الكبيرة» (ص (102، وبعدما رافق الأستاذ منير الذي اقترح عليه الرأي الحكيم القائل: « كنْ ما يريد منكَ عصرك أن تكونه بالصيغة التي ترضاها وترتاح إليها روحك، ولكنْ لا تطلب من الزمن أن يتغير ليكون كما تريد (ص (113، تغير ووجد توازنه في التآلف مع روح العصر، روح المدينة التي كانت تبدو له قبل حين غاصة بالفحش والمنكر، كما وجد الأستاذ منير توازنه، ووجدت نورا توازنها وطمأنينتها وسلامها الداخلي. هكذا تكون سلطة المكان أقوى من رغبة الفرد.
لقد اتخذت شخصية «نورا» حادثة عطب حاسوب الشاب الإيطالي الوسيم روفايلو مدير معمل نسيج في ملكية أمه ماريا، والذي تعمل فيه فتيات من فئات مختلفة (الشخصيات الروائية المتخيلة): ريفيات قادمات إلى المدينة بحثا عن فرص للعمل ولتحسين ظروفهن المادية، وفتيات من «قاع» المدينة وينتسبن لعائلاتها الأصيلة، وأخريات ساقطات أو عفيفات، وعثور عادل المخنث على ملف سري يحتوي على صور خليعة لبعض فتيات المعمل، اتخذت نورا من الفضيحة ذريعة لإرسال خيالها الواسع كي يعمل بجد لإثارة زوبعة في المدينة بحثا عن وعي جديد ووجود مختلف، فتعرفت عن محل الحلاق إدريس عبر التدقيق في خلفية الصور فتسببت بذلك في غلق محله ثم لجوئه إلى البحر للصيد ومتعه الشخصية، وتعرفت على ذات الأوشام، وعلى ابنة الإمام التي علق عادل المخنث صورتها بالمحراب نكاية بها وانتقاما منها ومن علاقتهما الفاشلة، لكنَّ خيال نورا الجامح لم يكتف بذلك فأخذ في نسج حكايات من الخيال وتوهم شخصيات أخرى متورطة ولأمر ما عزف المخنث عن إرسالها إلى الناس، مثل شخصية ناهد الجميلة وابنة الأصول والعائلة...
لقد تحول الخيال عن مساره وأصبح آلة مدمرة، ووسيلة انتقام، وأداة للتلاعب بمصائر الناس (الشخصيات الروائية) كاستقالة ناهد ثم زواجها من النادل الأبكم، ووفاة الشاب الإيطالي روفايلو، وقتل عادل المخنث واغتصابه من قبل زوج ابنة الإمام المخدوع والمهان، وبيع المعمل لشركاء جدد، وهكذا. ولينقلب السحر على الساحر فتوضع نورا في الانتظار بعد توقيفها عن العمل، وتهجر معلمها وهاديها الأستاذ منير، وفشل نورا في تقريب إلياس من صديقتها حورية التي ستعود إلى قريتها وتتزوج هناك...
لقد اهتدى الكاتب إلى تقنية في السرد جعلته سلسا في تحولاته، مترابطا في محكياته الصغرى والفرعية «النتوء السردية»، وجعلت تلك التقنية الكتابية السرد منسجما مع المقاصد والرسائل التي تقف خلف صناعة المتخيل الروائي، كما جعلت السرد متناميا ومسترسلا، فلم تؤثر المحكيات الصغرى الفرعية على مسار المحكي المحوري الإطار، هذه الطريقة في الكتابة ساهمت في نقل قضايا كبيرة فكرية تعتمل في المجتمع (المدينة: العاصمة) وتخامر أذهان الناس، من قبيل الفرق بين مفهومي التسامح والتعايش ليس في الفكر وحسب بل في الواقع والتطبيق، وقوة الخيال في تجديد الوعي والتحفيز على طرح السؤال الباني وسؤال التغيير، وسلطة الأمكنة وأرواحها الحية التي تحميها من العبث والجنوح، كما تقول الجدة حورية الكبيرة لإلياس:» الأمكنة أرواح يا ولدي تسكنك حين تألفها وتهبك السكينة» (ص (103، فالسكينة والسكن منبعهما واحد.
مجدي بن عيسى: خيالات نورا المدهشة. رواية. دار التنوير. ط 1. 2011م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.