لعل ما يميز معظم الدبلوماسيين الأمريكيين عن نظرائهم في باقي دول العالم، هو أنهم يسجلون مرورهم وتجاربهم في دواليب الادارة وكواليس الدبلوماسية، في كتب ومؤلفات توثق التاريخ القريب للصراعات الدولية و رهاناتها وتكشف خيوط المؤامرات المحبوكة وخباياها وترسم «بورتريهات» للشخصيات الفاعلة والمتحركة على الرقعة الدولية والصانعة للتاريخ. ومن بين الدبلوماسيين الأمريكيين الذي بصموا مرورهم، كتابة، على التاريخ الدولي المعاصر السفير الأمريكي لمدة طويلة في اسرائيل «مارتن أنديك» الذي شغل هذا المنصب ما بين 1995 و 2001، خلال فترة تميزت بمحاولات الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» حلحلة خيوط قضية الشرق الأوسط من أجل التوصل إلى سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين. وحول هذه الفترة، كتب «مارتن أنديك» كتابه الذي نشر بنيويورك في العام الماضي «بريء في الخارج» وهو كما ورد في عنوانه الفرعي «رواية حميمية لدبلوماسية السلام الأمريكية بالشرق الأوسط»، وهو الكتاب الذي سنترجم منه في هذه العجالة بعض المقتطفات التي تضعنا داخل البيت الأبيض وتقودنا إلى لقاء شخصيات مختلفة وأماكن متعددة من الشرق الأوسط. اعتمدت استراتيجية كلينتون الدبلوماسية في الشرق الأوسط على شقين اثنين: الشق الأول صنع السلام لم يسر كما خطط له وأراد، لكنه مع ذلك كان مرتاحا له الى حد ما، أما الشق الثاني الاحتواء المزدوج للعراق وإيران فقد كان يأمل من خلاله الضغط على العراق وتغيير سلوك إيران في الآن نفسه. وبمحاولته التقدم على طريق السلام في الشرق الأوسط، كان كلينتون يريد تحييد التأثير السلبي لبغداد وطهران على مسلسل السلام. وهكذا عمل على لعب دور المدافع ضد إيران والعراق، في الوقت نفسه الذي واصل فيه حملته الدبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها العرب. وجاء أول امتحان لهذه السياسة في ربيع 1993 عقب تبني مجلس الأمن القومي مبادئ سياسة «الاحتواء الشرس» حين تم اكتشاف مخطط للمخابرات العراقية من أجل اغتيال الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» خلال زيارته للكويت للمشاركة في تخليد ذكرى تحرير هذا البلد. (قبل زيارة بوش اعتقل الكويتيون 16 شخصا من ضمنهم 11 عراقيا اجتازوا الحدود ومعهم متفجرات لاستخدامها في عملية الاغتيال). وبعد ليلتين من التداول قرر كلينتون اللجوء الى عمل عسكري ضد العراق لردع صدام حسين عن أي اعتداء جديد. وكان هذا أول قرار له باستخدام القوة العسكرية أثناء رئاسته، إلا أن كلينتون قرر مع ذلك مهاجمة مقر المخابرات العراقية ببغداد على أن يتم ذلك ليلا للتقليل من عدد الضحايا، وذلك تبعا لنصيحة رئيس الأركان «كولن باول» الذي كان واثقا من أن قليلا من القوة يكفي للقضاء على صدام. أما رأيي أنا ورأي زملائي في مجلس الأمن القومي فكان هو وجوب الثأر من أهداف مهمة لصدام نفسه، مثل قصوره الرئاسية، للدلالة على أنه إذا ما حاول صدام اغتيال واحد من رؤسائنا فإننا نعتبر أنفسنا أحرارا في الثأر منه شخصيا. ورغم أن كلينتون تعاطف مع رأينا هذا إلا أنه لم يكن يريد تجاوز «كولن باول» ولا إسقاط ضحايا مدنيين إضافة الى معرفته بأن صدام حسين لن يجد فرصة أفضل من هاته لتحويل نظره بأن صدام حسين لن يجد فرصة أفضل من هاته لتحويل نظره عن صنع السلام بالشرق الأوسط. وفي 26 يونيو 1993، أطلقت بوارجنا الحربية بالخليج الفارسي 23 صاروخ «طوماهوك» على مقر المخابرات العراقية ببغداد الذي دمر تماما، ورغم حرص الرئيس إلا أن أربعة من هذه الصواريخ زاغت عن هدفها وقتلت ثمانية مدنيين بالقرب من البناية، من بينهم فنان عراقي مشهور. وطيلة السنوات السبع التي تلت هذه الغارة، لم نعثر على أي دليل يثبت تورط المخابرات العراقية في أي نشاط إرهابي أو اغتيال ضد أهداف أمريكية أو غربية. وهذا هو السبب الذي جعل المخابرات الأمريكية ترتاب في ادعاء «جورج بوش» (الإبن) ارتباط صدام حسين بأسامة بن لادن وبهجمات الحادي عشر من شتنبر، فهي تعلم بأنه منذ غارة 1993 أمر صدام حسين مخابراته بالتركيز على بناء شبكة من الشركات الوهمية والترتيبات المالية لمساعدته على تجاوز العقوبات المفروضة على العراق منذ 1990، وهذا العمل الناجح شغل مصالح المخابرات العراقية طويلا عما عداه. كانت غارة يونيه 1993 امتحانا لتطبيق سياسة كلينتون «الاحتواء الشرس». وكانت الخلاصة هي ضرورة تركيز سياسته على «الاحتواء» أكثر من «العمل الشرس (العسكري)». فالعنف ينبغي استخدامه لردع صدام حسين وليس للإطاحة به. وقد تم تطبيق ذلك في أكتوبر 1994، حين واجه كلينتون أزمة عراقية أخرى حيث اختار أيضا الرد المحدود، ففي 1994 كان مسلسل السلام قد حقق تقدما ملموسا وسجل عرفات عودة تاريخية الى غزة وكان كلينتون منشغلا بمفاوضات إسرائيل مع سوريا والأردن. وهكذا حول مستشارو كلينتون سياسة «الاحتواء الشرس» الى سياسة «الاحتواء المزدوج» التي تسعى الى عزل كل من العراق وإيران في الوقت الذي يحقق فيه مسلسل السلام خطوات ملموسة. هكذا بعد أن فقد صدام حسين حليفه الأردني اتجه نحو مصالحة تكتيكية مع إيران (من أجل فك عزلته)، بيد أنه بالرغم من بعض الجهود من الجانبين من أجل تسوية القضايا الناتجة عن حرب الثماني سنوات بينهما، فإن انعدام الثقة المتبادل حال دون التوصل الى أي مصالحة بين بغداد وطهران. وفي منتصف 1994، وجد صدام حسين نفسه معزولا على الصعيد الدولي في وقت بدأت العقوبات تخلق مشاكل داخلية للنظام (نقص في المواد الغذائية والطبية وقطع الغيار...) وكمؤشر على هذه المشاكل الداخلية، انهيار قيمة الدينار العراقي وارتفاع محاولات الانقلاب أو الاغتيال. ففي هذه الفترة اضطر النظام الى صك المزيد من الدنانير مما جعل الدينار ينخفض من 140 للدولار الواحد الى 700 دينار للدولار. كما تعرض صدام لمحاولتي اغتيال في عام واحد ولعدد من التفجيرات في بغداد وغيرها والتي كان وراءها «إياد العلاوي» وبعض الضباط العراقيين بتوجيه من المخابرات المركزية الأمريكية. في هذه الظروف وبعد أن يئس صدام من رفع العقوبات من طرف مجلس الأمن الدولي. قرر في 8 أكتوبر 1994 استعراض قوته ضد الكويت فرفع عدد قواته المرابطة بالحدود الجنوبية الى 64 ألف جندي من خيرة عناصر الجيش المتمثلة في لواء حمورابي المدرع الذي قام بغزو الكويت سنة 1990. أصبحت هذه القوات على بعد عشرين كيلومترا من حدود الكويت مما منح كلينتون فرصة للضغط أكثر على صدام حسين. جمع الرئيس مجلس الأمن القومي يوم الأحد صباحا حيث حضر المشاركون في بدلات رياضية أو في سراويل «دجين». كان وزير الدفاع «ويليام بيري» الذي خلف «ليس أسبين» عقب استقالته في مستهل عام 1994، ورئيس الأركان «شاليكا شفيلي» (شالي) الذي خلف «كولن باول» يلبسان أيضا بدلات رياضية زرقاء، مما كان يجعلهما يبدوان غريبي الشكل خاصة شالي الذي لم يكن يتخلى عن بدلته العسكرية وعن نياشينه. بعد أن أبلغ ممثل المخابرات المركزية الأميرال «ويليام ستودام» الحاضرين بأن لواءين من الألوية المدرعة للحرس الجمهوري العراقي يتوجهان نحو الحدود الكويتية وان الجيش العراقي في حالة استنفار قصوى موضحا بأن ثلاثة ألوية إضافية يتم تجميعها للتوجه فيما يبدو نحو الحدود، وإذا ما واصلت تقدمها خلال نهاية الاسبوع فإن صدام حسين سيصبح في الوضع الذي كان فيه خلال غشت 1990، قبيل غزوه للكويت، وقال «شالي» انه ينبغي ان نجهز القوات الضرورية لإجبار صدام حسين على سحب قواته، وإذا ما غزا الكويت فعلينا أن نهزمه تماما وبسرعة وبأقل عدد ممكن من الضحايا. كان «ستروب طالبوت» نائب وزير الخارجية جالسا في مقعد «وارن كريستوفر» الذي كان متوجها حينها الى الكويت فتوجه بالسؤال الى «شالي»: «كيف نُعرِّف »هزم« صدام هل معناه إزاحته عن الحكم؟». فأجابه «بيري» فورا «هذه وجهة نظري، إذ لا ينبغي أن نعيد الأمر مرة أخرى». هكذا قدم «شالي» مخططا لنشر 350 طائرة في الخليج ، تضم طائرات «بي 52» و «ستيلث 117» (الطائرات الخفية) و هو المخطط الذي صلدق عليه الرئيس فورا عى أن يتصل بالسعودية لطلب السماح للطائرات الامريكية بالعبور فوق أجوائها نحو العراق. و على الرئيس أن يقرر فيما بعد ما إذا كان من الضروري تحريك قوات إضافية إلى ساحة المعركة. و سأل «طوني ليك» موجها كلامه إلى «شالي»: «ماذا يحدث إذا توقف صدام عند حدود الكويت دون أن يتجاوزها؟». فأجاب «شالي»: «هذا ليس مقبولا، إذا ترك قواته هناك فلن نتمكن من سحب قواتنا. نحن بحاجة الى أن يسحب قواته وأن نطمئن إلى أنه لن يعود إلى ذلك». في هذا الاجتماع منح الرئيس كلينتون الترخيصات التي طلبها «شالي» وأضاف طلبا بأن يعد له لائحة بأهداف استراتيجية عالية الأهمية، يكون بإمكان القوات الجوية قصفها أولا إذا ما بدأ صدام عملا عسكريا. ثم اتصل هاتفيا بالملك فهد لتأمين استخدام القوات الامريكية للقواع والأجواء السعودية.