حرقة الفقر في المهجر، كما تردد في محكيات شبابنا المهاجر في سيكوفيا، وهي بالتاكيد مجرد عينة ترمز لواقع أشمل واوسع،هي حرقة يغذيها كل يوم صنف جديد من العنصرية يمكن تسميته بعنصرية الأزمة. ظهرت معها ورافقتها دافعة، إلى تشنجات وأقوال وأحكام، تجد في مهاجرينا، حتى العاطلين منهم مجالا للتصريف. سيكوفيا، مدينة صغيرة تبعد عن مدريد جهة الشمال بحوالي ستين كيلومترا، في قلب مقاطعة كاستياليون، لا يتجاوز تعداد سكانها 55 ألف نسمة، معظمهم من الطبقات الميسورة العاشقة للهدوء والسكينة والعيش وسط الأبنية التاريخية المصنفة، مدينة تعيش على عائدات الفلاحة والسياحة بشكل متكامل، وتعرف تدفق الزائرين بالآلاف من مدينة مدريد بالتحديد خلال نهايات الأسبوع والعطل والإجازات. سيكوفيا، المدينة ذات الإرث الروماني والموريسكي، عرفت خلال سنوات الرخاء الاسبانية في التسعينات ومنتصف العقد الأول من الألفية الحالية قفزة اقتصادية كانت مؤشراتها البارزة توسع حركة البناء عند هضبات مداخلها الشمالية والجنوبية. وحده مركزها الحامل لشواهد الماضي الروماني بأبنيته الضخمة وكذا أزقتها القديمة الزاخرة بالأبنية القوطية والهندسة ذات الطابع الباروكي، بقيت بمنآى عن الحركية العقارية الفوارة التي طبعت مسيرة الاقتصاد الاسباني خلال السنوات الأخيرة وجرت معها لفترة كل القطاعات الإنتاجية قبل أن تكشف الأزمة المالية الأخيرة عن المصطنع في تلك الحركية الفوارة. وكغيرها من المدن الاسبانية التي شكل قطاع البناء والخدمات السياحية أهم مصادر التشغيل بها، فقد تدفق عليها المهاجرون المغاربة بالمئات خلال فترة الرخاء باحثين عن فرص عمل توفرت بسخاء في البداية تعززها مغريات أخرى من قبيل تواضع سومة الكراء بها قياسا الى المدن الكبرى. خلال فترة الرخاء هاته يحكي أحمد وصديقه عمر القادمين من قرية قريبة من نهر أم الربيع. عشنا حياة كريمة، ليست بالبحبوحة التي قد تتصور، ولكن كان بامكاننا بعد أداء الفواتير أن نرسل بعض الفوائض الى العائلة هناك. كنا نعيش خمسة مغاربة في شقة من ثلات غرف نتعاون في أداء ال 500 يورو كل شهر كثمن للكراء، نتناول وجبات الإفطار والغذاء في المقاهي والمطاعم التي نشتغل بها ونعد طاجين العشاء الذي لا يكلفنا كثيرا في المساء. كان بامكاننا ان نسافر إلى مدريد بالقطار كل أسبوع من اجل الترويح عن النفس، وكان بمقدورنا نحن كذلك ان نستمتع بقضاء أسبوعين أو ثلات في المغرب نعد لها العدة بما يكفي من الوقت. كان ذلك اواخر شهر يوليوز، وكنا جالسين بمقهى قرب الأقواس الشهيرة بمبنى أكويدوكتو الروماني عند مدخل الشارع الرئيسي فرننديس لادريدا وغير بعيد عن المقهى وعند أحد جنبات الأسوار، كان جمع من المغاربة واقفين يتحدثون، تعرف أحمد منهم على سعيد وعبد الرحيم قال لي انهم بيضاويون، ناداهم باسمهم فانضموا الينا، فتح أحمد علبة دوكادوس وناولهم السجائر. انطلق سعيد في الحديث مأخوذا بالتعبير عن حاجة لم يعد صدره فيما يظهر قادرا على ضغطها. نعم لقد وصل السكين العظم، نهاية الشهر تقترب وعلي توفير المئة وخمسين يورو مساهمتي في الكراء، مع الأربعة الذين يقطنون الشقة، وحده عبد اللطيف بقي يشتغل بعدما خفض المشغل ساعات عمله، سأحاول تدبر الأمر، سأسافر مساء إلى مدريد لأرى فيما إذا كان ابن عمي عبد الله هناك قادرا على إسعافي حتى يحلها الله. يسر أحمد أنه منذ ثلاتة أشهر كان عليه أن يتوسل الى أخيه في المغرب ليرسل له بعض المساعدة مع أحد الأصدقاء الذي كان يهم بالرجوع الى اسبانيا. يتذكر كيف تردد عدة مرات، وكيف تجمدت سماعة الهاتف بين يديه وهو يتقدم بطلبه إلى أخيه، يومها، يقول احمد راودني شعور غريب أشبه ما يكون بارتكاب إثم أو خطيئة، شعور باني اضرب قاعدة أو عرفا أو توازنا استقر في وعي الناس، شعرت وقتها انني غيرت في معادلة طالب المساعدة ومتلقيها. لقد أصبحت أنا المفروض أن اقدم المساعدة لأهلي في وضعية من يطلب المساعدة منهم، لقد كانت تجربة نفسية مريرة والله. يقاطع سعيد أحمدا قائلا لقد أضحى اليوم هذا من قبيل العادي جدا، وأعرف العديد من الأصدقاء الذين ماكان يمكن لهم البقاء هنا لولا المساعدات النقدية والعينية على قدر الامكان التي سيستلمونها بشكل منتظم من ذويهم بالمغرب. حتى الأكل صار يصفف ويجفف ويرسل في السلل و الأسطل. ينضم الى المجموعة عبد الصمد الذي يسلم على الجميع ويذكر بمعاناته مع صاحب الضيعة التي كان يحرسها في احدى القرى القريبة من سيكوفيا. فهذا الاسباني الوقح يقول عبد الصمد وقد عرف بأزمة التشغيل في سيكوفيا اقترح علي تخفيض الاجرة، وهي زهيدة أصلا لا تكاد تكفي المصاريف الأولية، اقترح تخفيضها ب30 بالمائة سأبيع تلك السيارة الملعونة لأسدد ما علي من فواتير وساترك الباقي لما يبدولي صيفا قاسيا أراه بلا افق. ومع ذلك سيكون خطبي اقل من خطب عبد الفتاح الذي اضطر الى بيع جزء من اثات سكنه. بالامس كنا نخاف ان تقع علينا أعين رجال الأمن المتخصصين في تعقب المهاجرين السريين، لم يعد ذلك هاجسنا اليوم، فلقد حصلنا على الأوراق منذ سنوات، ولكن الهاجس أصبح أن يعجز الواحد منا عن أداء فواتيره بعد فقد عمله. أحمد الذي يكبر أصدقاءه سنا، والذي قدم الى سيكوفيا عند انطلاقة الفورة العقارية يحلل الوضع قائلا: إن روح التضامن والتآزر واقتسام المتوفر من الإمكانات هي زادنا الوحيد هنا لمواجهة هذه الأزمة العاتية التي لاتبقي ولاتذر ،بهذه الروح نحيا وبها نتمكن من معانقة الأمل. أمضيت الصباح كله رفقة ابناء البلد، من حين لآخر كان يمر علينا احد الشباب ممن تحكي عيونهم ونبرات كلامهم وهم يبادلونك التحية أسى مكتوما وحسرة وحرقة مضغوطتين بين الضلوع. سلمت على أحمد وباقي اصدقائه وتواعدنا على اللقاء مجددا، وانا في طريقي بالكايي ريال المؤدي الى الساحة الكبرى (بلاثا مايور) تدافعت في ذهني الافكار والارتسامات، ماسمعته باذناي ليس بالتاكيد من قبيل تلك التحليلات الاعلامية التي تطالعنا بها الصحف والقنوات الفضائية حول الازمة المالية وتداعياتها، بلغة الجداول والارقام الاحصائية، ليست حديثا مجردا عن المورتكاج (السلفات والرهونات العقارية)، ولا كان حديثا أكاديميا عن اختلالات المنظومات البنكية وما جرته واستدعت اليه من إجراءات البايل أوت (إعادة الرسملة) وانعكاسات كل ذلك على مجمل الفاعلين ضمن الدورة الاقتصادية في البلدان الغربية، هكذا بصفة مجردة. ما سمعته كان يتعلق بوقع الأزمة على الحياة اليومية لمواطنين مغاربة شباب باتوا يشعرون بتبعاتها في مأكلهم وملبسهم وسكناهم وكل ذلك في بلد هو غير بلدهم الأصلي قصدوه عند المنطلق لتجاوز وضعية الخصاص والحاجة فإذا بهم يسقطون في أقسى أنواع الحاجة وأقسى مراتب الخصاص مع كل انعكاسات ذلك على نفسياتهم، اعتبارا لكون حرقة الفقر في المهجر أشد وطأة وأكثر بما لا يقارن مع حرقة الفقر في بلد المنشأ بين الأهل والعشيرة، حيث لازلت بقايا أخلاقيات ومواضعات اجتماعية ما قبل رأسمالية مترسخة تتمنع عن الذوبان السريع في منطق الرأسمالية البارد. حرقة الفقر في المهجر، كما تردد في محكيات شبابنا المهاجر في سيكوفيا، وهي بالتاكيد مجرد عينة ترمز لواقع أشمل واوسع،هي حرقة يغذيها كل يوم صنف جديد من العنصرية يمكن تسميته بعنصرية الأزمة. ظهرت معها ورافقتها دافعة، إلى تشنجات وأقوال وأحكام، تجد في مهاجرينا، حتى العاطلين منهم مجالا للتصريف. كان الروائي المغربي الطاهر بنجلون قد كتب كتابا عن وضعية المهاجرين اختار له عنوانا «أعلى درجات الوحدة» للدلالة على المعاناة النفسية والعاطفية للمهاجرين في ظروف التثاقف الصعب، ولا نبالغ إن قلنا اليوم أن قطاعا عريضا من مهاجرينا يعيشون في ظروف الأزمة المالية الحالية في البلدان الأوروبية أقسى أنواع الخصاص، إنها حرقة فقر يعاش في بلد المهجر. وبالتأكيد فان ماحكاه شبابنا العاطل بسكوفيا ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج العائم. يدفعنا إلى إعادة تفكيك خطاباتنا بما يؤدي إلى إعادة نظر جذرية، في مجمل المحكيات عما كنا نسميه، ب«الخارج» في لغتنا المسكونة بإغراء الألدورادو الأوروبي.