رابعا: نحو منظور جدلي لعلاقة النظرية بالممارسة: عن القيمة الفكرية والاجتماعية المضافة لاجتهادات محمد جسوس مما يعرفه المتتبع لتطورات المسيرة الفكرية والتربوية والسياسية لمحمد جسوس أنه قد تعرض خلال جل أطوارها ومحطاتها إلى الكثير من أشكال وأفانين النقد الصارم، الذي تطرف إلى حد التجريح والتبخيس والتفنيد والدحض لطروحاته وأفكاره ومواقفه... سواء من طرف بعض الأفراد أو الجماعات أو الجهات الرسمية أيضا، التي اتهمه بعضها ب «التطرف...»، و»التجرؤ على إهانة الوطن والاستهتار بالتضحيات الجسمية...»، و»الديماغوجية ومحاولة استجلاب الحركات الطلابية...»، و «المغالطات والتناقضات... وتعمية الحقائق أمام الرأي العام وتقديمها في صورة مشوهة...»، و»الشعور باليأس والإحباط..»، و «المس بالشرعية المغربية بكل مقدساتها وثوابتها باعتباره أن الحركة الوطنية التحريرية وقع إجهاضها وتحويلها عن مسارها في اتجاه منحرف...» (11) إلا أنه وبعيدا عن الدخول في مناقشة أو نقد هذا النقد، والكشف عن خلفياته وأغراضه ومبيتاته الفكرية والإيديولوجية، ومدى قدرته على الصمود أمام الحقائق والوقائع الملموسة... الأمر الذي قد لا ينسجم مع الطبيعة المنهجية لهذا العرض، بل تحتاج معالجته إلى مقام آخر أكثر ملاءمة... فإن محمد جسوس يبقى، في تقديرنا، علامة فكرية وتربوية فارقة في تاريخ الفكر السوسيولوجي والعمل السياسي والاجتماعي في المغرب المعاصر. وهو معطى لا يجعل من البحث في مجمل أعماله وأطوار سيرته النضالية مجرد مبادرة محمودة مطلوبة على درب التكريم والتثمين والاعتراف بالجميل...، وإنما مدخلا رئيسيا لرصد بعض تحولات الفكر والثقافة والسياسية والاجتماع في بلدنا، وفي أبعادها الوطنية والقومية والإنسانية... (12) ولهذه الاعتبارات كلها، فإن عناصر ومكونات «الصنافة المنهجية»، التي عرضناها فيما سلف، يمكن أن تشكل، في تصورنا، «إطارا إرشاديا موجها: Paradigane»» يستأنس به في مقاربة القيمة الفكرية والاجتماعية لمحمد جسوس، ولاسيما انطلاقا من جدلية العلاقة لديه بين «المسألة السوسيولوجية والمسألة الاجتماعية» بمدلولهما الموسع لمدلولهما الموسّع الآنف. ومن هنا تتجلى، في مضمار البحث في مضامين وأبعاد هذه الجدلية، أهمية اطراح وفحص الأسئلة/الفرضيات النظرية والمنهجية التالية: 1-بأي معنى، وضمن أي حدود يمكن مقاربة المنتوج الفكري لمحمد جسوس في تواشجه الدينامي مع تحولات المجتمع المغربي، وتحسُّسه لنبض متغيراته ومستجداته على صعد ومستويات معرفية واجتماعية متعددة...؟ 2-ما هي طبيعة وخصوصية ومحددات حضور كل من «المسألة السوسيولوجية» و»المسألة الاجتماعية» في هذا المنتوج؟ أي كيف اهتم، في ذات الآن، بجهود التأسيس النظري والمنهجي إلى جانب مجايليه، ل «سوسيولوجيا نقدية مطابقة: Adéquate»» لمقومات وشروط ومعطيات المجتمع المغربي والعربي على السواء؟ وبالتالي كيف كان حسب تعبير آلان تورين «ينتزع الوقائع السوسيولوجية من الوقائع الاجتماعية»؟ فيتخذ بذلك من مشكلات وقضايا المسألة الاجتماعية «محك اختبار عملي»، لمدى الصلاحية أو النجاعة المعرفية والتاريخية لمقتضيات «النظرية»، كما هو متداول في توجيهات «سوسيولوجيا وإبستمولوجيا المعرفة» بشكل عام، وفي ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل خاص(13). هوامش (11) ارجع بشأن هذا النقد إلى (بيان حقيقة من وزارة التربية الوطنية حول موضوع: «إنهم يريدون خلق أجيال من الضياع») المنشور في: - محمد جسوس: طروحات حول الثقافة واللغة والتعليم (...)، مرجع سابق الذكر، ص ص : (175-188) (12) نقصد بذلك ما تبلور في أوائل القرن الماضي وما تطور في نصفه الثاني من تيارات فكرية عرفها الوطن العربي والعالم الثالث، مثل: التيارات اليسارية الماركسية- الاشتراكية، والقومية، والليبرالية، والإصلاحية، والإسلامية...وما كان بينهما من صراع أو تبادل وحوار...انظر، حول بعض جوانب هذه القضية: - مجلة الوحدة: حركية المجتمع العربي (ملف)، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، السنة الخامسة، العدد 57، يونيو (حزيران) 1989، ص : (3-109) (13) يمكن أن نستحضر هنا تأثير الفكر الاشتراكي بشكل أو بآخر، في الساحة الثقافية بمجتمعاتنا العربية منذ مستهل النصف الثاني من القرن الماضي بشكل عام. وربما لذلك كان محمد جسوس يشير أحيانا ولكن بوعي نقدي صارم وحذر إلى ماركس وغرامشي وألتوسير... الخ، ممن انبثقت نظرياتهم من رحم النضال والثورة ومعاناة تجارب السجن وخبرات الممارسة العملية. عد، الاستئناس، بشأن هذه المسألة إلى: - مجموعة مؤلفين: قضايا المجتمع المدني العربي في ضوء أطروحات جرامشي، (أعمال ندوة) ، مركز البحوث العربية/الجمعية العربية لعلم الاجتماع، القاهرة، 1992