لم نكن نروم، مما عرضناه آنفا، سوى تقديم بعض المداخل أو المقترحات النظرية والعملية التي نعتقد أن الاستئناس بها يمكن أن ييسر على الباحث في مسار محمد جسوس وتراثه الفكري مهام القراءة والفهم والتحليل والتفسير... إلا أننا نرى هنا ضرورة التأكيد من جديد على الملاحظات المحورة الآتية: 1 - أهمية النظر إلى عناصر ومكونات «الخطاطة المنهجية» الآنفة في تداخلها وتكاملها ونزوعها إلى أن تشكل «إطارا رؤيويا ومنظوريا» للبحث ومقاربة «الموضوع» المعني. مع التذكير بأننا لم نقم سوى بإبراز ملامحها أو معالمها الأساسية، وذلك دون احتفاء بالتفصيل المعمق لها. الأمر الذي لا تسمح به طبيعة هذه المداخلة وحدودها... -2لا ينبغي أن يفهم مما سبق أيضا أننا نستقصد أي تعسف فكري أو منهجي على التجربة العلمية والسياسية والاجتماعية لمحمد جسوس فنجبرها قسرا على أن تتنمط أو تتحنط أو تنتظم في خانات أو قضايا أو هموم أو اهتمامات أو أسئلة معينة... أو أي تعسف أيضا على الباحثين في هذه التجربة فنحصر رؤاهم وقراءاتهم لأبعادها ومكوناتها في توجهات أو أفكار أو هواجس قد ترتبط سواء بوعي أو بدونه، بقصد أو بلا غرض مبيَّت... بخلفيات وذوات منتجيها أكثر مما تعبر عن المقومات الموضوعية والواقعية ل «حقيقة» هذه التجربة ذاتها. الأمر الذي يبقي الباب في هذا المجال مفتوحا أمام اختلاف وتعدد وتنوع التصورات والاجتهادات والمرجعيات والخطاطات القارئة بكل رؤاها وأدواتها وإمكاناتها في الفهم والتفسير والتأويل... 3 - في هذا السياق، ونظرا للمكانة الوازنة التي يحتلها محمد جسوس في الفكر السوسيولوجي المعاصر مغربيا وعربيا، فإننا نقترح على كل الجهات والأطراف والقوى السياسية والفعاليات التربوية والأكاديمية المعنية أو المسؤولية تبني فكرة تأسيس «مركز أو معهد أو مؤسسة محمد جسوس للبحوث الاجتماعية». وذلك اعترافا بما كان له من ريادة وسبق، ومن دور هام في تأصيل وترسيخ قواعد وأسس وأعراف وتقاليد وأخلاقيات البحث العلمي بالجامعة، وفي تطويره وتوسيع دوائر اهتمامه ليشمل قضايا وإشكالات كثيرا ما ظلت مهملة، مثل: أوضاع ومواقف وتطلعات التجار الصغار، والباعة المتجولين، ورواد المقاهي، والحركات الدينية والشبابية والنسوية والاجتماعية بشكل عام... مما يُفترض أن يكون له تأثير حاسم على تكوين أجيال من الباحثين الشباب وإنضاج معارفهم ومستويات وعيهم بأبعاد ومكونات محيطهم الاجتماعي، التربوية منها والثقافية والسياسية والسوسيواقتصادية المتعددة... ومما يسمح لنا بفرضية القول بأن الرهان الفكري والسوسيولوجي لمحمد جسوس قد كان في عمقه رهانا أو مشروعا تربويا بامتياز. إذ كان هدفه المحوري هو المساهمة انطلاقا من العمل الأكاديمي والنضال السياسي في بناء «المواطنة» وتكوين إنسان جديد وفكر نقدي متجدد... استهدافا لتنمية بشرية واجتماعية متكاملة. ولعل من بين ما يمكن أن تهتم به المؤسسة المقترحة آنفا ما يلي: { الاعتناء بالتراث السوسيولوجي سواء في منتوجاته الكولونيالية أو الاستشراقية، أو في نماذجه «المحلية أو الوطنية» بحثا ونقدا وتطويرا ومحاولات استفادة علمية واجتماعية هادفة ممنهجة... { الانفتاح على كافة بحوث وتراكمات العلوم الاجتماعية والإنسانية واستثمار تكاملها النظري والمنهجي وفق الرؤية النقدية الآنفة، وبما يخدم متطلبات التنمية ومستجدات وتحولات المجتمع بشكل عام... وذلك في إطار «مُمَأسس» منظم، عقلاني وهادف. { الاعتناء أيضا بما كان للجهود التربوية والأكاديمية لمحمد جسوس من دور شارط في دعم وتطوير الفكر السوسيولوجي بالمغرب المعاصر. { الاهتمام كذلك بالبحث في المسار السياسي والاجتماعي لهذا المفكر، سواء كمناضل حزبي في صفوف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أو كمنتخب جماعي بمدينة الرباط. وإلى أي حد كان لتكوينه العلمي وخلفيته المعرفية دور ما في رفد وإغناء هذا المسار، وإلى أي مدى أيضا كان هذا المسار يمثل «إطارا تجريبيا» لاختيار مستوى صلاحية معرفته العلمية تلك، وبالتالي لإثرائها وتقويمها وتطويرها وتجديدها في تكاملية دينامية متواصلة بين النظرية والممارسة...؟ ولا ريب في أن ما نقصده من مقترح إقامة «المؤسسة» الآنفة هو الإقرار بنوع من الاعتراف بما كان لمحمد جسوس من دور تربوي وفكري تنويري وسياسي هام في تاريخ المغرب المعاصر، والتثمين لما بذله من تضحيات جسام كي تترسخ في مجتمعنا، في الفكر كما في الوجدان والسلوك، قيمة ومكانة المعرفة والعلم والعقلانية والحداثة والتقدم والحرية والديمقراطية وكل القيم الفكرية والحضارية والإنسانية النبيلة ... وذلك دفاعا عن المبادئ الأصيلة للحق والخير والجمال... ولذلك فإن محمد جسوس يستحق أن يُوسم بأنه، بالفعل، عالم الاجتماع الذي استطاع، بقدرات فذة وبسلاسة فكرية وبيداغوجية فريدة مبدعة...، أن ينزل السوسيولوجيا: مفاهيم ونظريات وأسئلة عميقة...، من سماء «برجها النظري العاجي» إلى أرض الممارسة العملية ليجعلها «مرشد عمل ودليل تحرك وفعل ومبادرة». كما استطاع أيضا، وبفضل فطنته أو حذاقته المنهجية والسياسية، أن يرتقي بهذه الممارسة ذاتها إلى مستوى التفاعل الإيجابي المنتج مع النظرية، تسترشد بها وتشكل بوصلة موجهة لأسئلتها وتوجهاتها وآفاق اشتغالها... بل ليجعل من هذه الممارسة أحد أهم المعايير الحاسمة في نقد وتقييم النظرية وإبراز مدى صدقيتها ونجاعتها المعرفية العلمية والتاريخية. وهنا تتجلى، في تصوري، قيمة وفرادة وخصوصية المضمون الإبداعي للمسار الفكري والسياسي والاجتماعي لمحمد جسوس، وهو ما أتمنى أن تتجه نحو الاعتناء به جهود القراءة والفهم والبحث والتحليل والتفسير...، كما أرجو أن تشكل هذه المساهمة المتواضعة، في هذا المجال، «خارطة طريق منهجية» للاسترشاد والاستئناس. لقد أدى التغريب المهيمن إلى أزمة في الحضارات التقليدية. فسعت هذه الحضارات إلى تجاوز أزمتها بوصفات مستجلبة من الغرب؛ فقد دخلت الديمقراطية والاشتراكية والرأسمالية والتطور والحلول [المقترحة لحل] أزماتها. فهذا أدى إلى التهالك على الارتداد إلى الجذور العرقية والدينية، لكنه ارتداد سيتسبب في أزمات جديدة. وينضاف إلى ما ذكرنا من أزمات أزمة في الحضارة الغربية. فقد أدت هذه الحضارة، بإيثارها جانبَ التقنية وتغليبها جانب الاقتصاد، إلى خلق فاقة وعوز قد آلا إلى شقاء في إطار من الرفاه المادي... وتتضافر أزمة الحضارات مع أزمة الحضارة الغربية. لكن على الرغم من الأزمة التي توجد فيها هذه الحضارة فإنها تبقى النموذج المتبع في «التنمية»، الذي يرى فيه العمي المخرج من جميع المشكلات الإنسانية، والحال أن تنمية التنمية تقود، كما رأينا سالفاً، إلى الهاوية. وتفاقمت أزمة السياسة. فعلى أنقاض الاشتراكية، المدعاة واقعية، في أزمة الفكرة الثورية وفكرة التقدم، وفي التصلب الذي ناب الاشتراكية الديمقراطية، وفي فكرة الحداثة، تلك الفكرة المضطربة، في حين توجد الحداثة في أزمة، وفي العمى الذي أصاب الليبرالية الجديدة التي تزعم أن بمقدورها أن تحل كل المشكلات عن طريق المنافسة و[نظام] السوق، في نطاق من «يومي» السياسات التي اختُزلت في المواءمة وفي الاقتصاد وفي عبادة النمو، لم يعد من أمل في المستقبل، ولم تعد من إرادة لتجديد الديمقراطية، ولا عاد هنالك بحث عن اقتصاد يكون تعددياً، ولا عاد هنالك من رؤية بعيدة المدى، ولا عاد هنالك منظور مستقبلي. إن عيوب الفكر المهيمن (الذي يكونه نظام تعليمي يمارس تقسيم المعرفة إلى تخصصات مغلقة، ويقتصر عمله كله على التفرقة والاختزال)، قد أدت إلى العجز عن تمثل العقدة (الجوانب المتعددة والمتعارضة في الظاهرة الواحدة) والإقرار بها، والعجز عن معالجة ما هو أساسي وشامل، أعني معالجة المشكلات الحيوية والمميتة لدينا فرادى وجماعات. ويوجد كذلك في أساس رؤيتنا الإناسية العجز عن فهم أن الإنسان البيولوجي يمكن أن يكون كذلك إنساناً شيطاناً، وأن العقلانية والشيطنة قطبان للفكر الإنساني، وأنه، كما هي العقلانية المغلقة، فإن العقلانية المهيمنة اليوم تخدم، من حيث لا تحتسب، الجنون الإنساني. لقد انحصرت السلوكات الإنسانية في سلوك الإنسان الاقتصادي الذي لا يحركه غير المصلحة المادية، فيما الأناسي يتصرفون، هم أيضاً، بطريقة عاطفية وانفعالية ووجدانية، وكما قال الأب بيير هاسنر «ببطولية». ومن ههنا كان انهيار الفكر السياسي. فهو قد عمي عن توقع الأزمة التي حصلت في الحضارة، وعمي عن توقع الأزمة الحاصلة على صعيد كوكب الأرض. وهو عاجز عن أن يجيء بمقتراحات بديلة للأزمة، وعاجز عن صوغ سياسة حضارية وسياسة إنسانية. ويمكننا أن نخشى، في مطلع هذا القرن الواحد والعشرين، الخسائر التي ستمنى بها الاتجاهات الراديكالية، وخسائر الانهيار، وهي في المحصل خسائر مترابطة ببعضها. ولقد حدثت راديكالية بين الغرب والإسلام، نراها في عودة النزعة الإسلامية الراديكالية إلى الجهاد، وعودة الغرب إلى حرب صليبية بإعلام ديمقراطية. وكانت (أحداث) 11 شتنبر سبباً في ظهور إمبراطوريتين للخير متصارعتين، وإمبراطوريتين للشر، ترميان بعضهما بالشيطنة. حقاً إنه لا يوجد تماثل بين الديمقراطية والشريعة، لكن يوجد تماثل بين مانويتين آخدتين في الراديكالية والاستقواء. وفي إطار هذه الدائرة المغلقة بات الإرهاب المفرط يشجع على الأرهاب... إننا لم نصل بعد إلى الوقت الذي تصير فيه القاعدة تستعمل السلاح النووي، لكنه وقت بدأ يلوح قريباً. إن بين الإسلام والغرب اختلافاً تاريخياً كبيراً؛ يتمثل في القرون الثلاثة التي كان فيها دخول اللائكية إلى الغرب، ودخول تعدد الأفكار والتفكير الحر والفكر النقدي والنقد الذاتي. فالاختلاف كبير بين الماضيين والحاضرين وبين استذكار أمجاد الماضي وانحطاط الحاضر في الإسلام والهيمنة التي صارت للغرب على بلدانه في الوقت الحاضر. والعالم الإسلامي يرزح تحت ثقل الفشل الذي منيت به الديمقراطية والاشتراكية فيه وثقل التبعية ولخضوع في كل مواجهة للمعاملة غير العادلة والكيل بمكيالين، مثلما هو حاصل بين إسرائيل وفلسطين. إن عدم القدرة على الوصول في الوقت المناسب إلى تفاوضي يتسبب على الدوام في تدهور تاريخي. ومن قبيل ذلك أن عجز الحكومة الاشتراكية الفرنسية عن الوصول إلى سلام تفاوضي مع التمرد الجزائري قد كان فيه تهديد لفرنسا في مرتين اثنتين بقيام ديكتاتورية عسكرية كانت ستكون على قدر ديكتاتورية بينوشي فظاعة، وما صرفها عنها غير العبقرية السياسية التي تحلى بهاد دوغول. ولقد قاد ذلك العجز من الحكومة الجزائرَ المستقلة إلى نظام كلياني وتردى بها إلى حرب أهلية طالت بها عقوداً. والصراع الإسرائيلي العربي يقود إلى تدهور الديمقراطية الإسرائيلية، وإلى تعزيز للقومية العسكرية والدينية، ويؤدي في فلسطين إلى صعود حركة حماس على حساب الحزب الوطني لعرفات، وإلى الصراعات الداخلية التي لا تزال مستعرة منذئذ.